مِنْ طِفْلَةِ الكاظِمِيّةِ

إلى السَيّدِ رئيسِ الوِزَراءِ مَعَ التَّقدِيرْ

محمّد جواد سنبه

لقد دفع الشّعب العراقيّ الكثير من الدّماء، عندما تسنّم مقاليد حكمه، السّادة رعاة الدّيمقراطيّة في العراق الجديد. سواءً من جاء منهم يمشي خلف خطى المحتلّ، أومَنْ صنعته ظروف الإحتلال. أمّا الّذي أفرزته حالة الصّراع مع السّلطة الشّموليّة، إبّان عقدي السبعينيّات والثمانينيّات من القرن المـاضي.

فلم يوفّق في التّواصل مع إرادة الشّعب العراقيّ في الداخل، في مرحلتي ما قبل وما بعد أحداث 9 نيسان 2003. وكانت تقييمات واقع العراق، في فترة السبعينيّات والثمانينيّات من القرن المنصرم، تختلف تماماً عن تقييمات الواقع بعد احتلال العراق. فتولّدت فجوة كبيرة، بيّن الشّعب العراقيّ، الذي يطمح بتحقيق تطلّعات جديدة (لتعويض زمن القهر والحرمان)، وبيّن العاملين على تغيير واقع الشّعب، لكنْ بموجب تطلّعاتهم وقناعاتهم، التي لم تكنْ مستقلّة على أقلّ تقدير. وممّا زاد في تكريس حالة العزلة، بيّن الشّعب والحكومة، انزواء المسؤول عن الشّعب، داخل أسوار المنّطقة الخضراء.

 وبناءً على هذه المعطيات وغيّرها، أصبحت تجربة الحكم الدّيمقراطيّ في العراق الجّديد، غير ناجحة عمليّاً. إضافة لذلك، فإنّ تجربة الحكم، يجب أنّ لا ينظر إليـها، على أنّها ممارسة تدريبيّة في حقل تجريبيّ، تحتمل الصح والخطأ، لأنّ أخطاء تجربة الحكم، يدفع ثمنها الشـّعب مرتيّن.

المرّة الأولى: في الحاضر، عندما يخّسر الشّعب، الأرواح والأموال، والوقت وفرص التّقدم.

والمرّة الثانية: في المستقبل، عندما يُسجّل التّاريخ، فشل تجربة نظام حكم معيّن، فإنّ الفشل يعطي حجّة مقنعة، بصواب تطبيقات نظام الحكم النقيض، للنظام الفاشل في التّجربـة. لذا نلحظ فشل النظام الدّيمقراطيّ في العراق الجّديد، رسّخ في أذهان الكثير من أبناء الشّعب، بأنّ الدّكتاتوريّة أفضل من الدّيمقراطيّة، ولا يحتاج اثبات هذا التوجه كثيراً من البيان.

لقد كشفت تجربة العراق الدّيمقراطيّة، حالة شاذّة مرّ بها تاريخ العراق المعاصر، كان فيها كمّ هائل من الإخفاقات، والفشل والآلام. هذه حقيقة إنْ كـان قبولها مـرّاً، فـإنّ تجـاهلها أمـرّ.

إنّ الأخطاء التي يقترفها المسؤولون، في تجربة حكم العراق الجّديد، هي خطايا في حقّ الشـّعب، وليست أخطاءَ روتين وظيفيّ، يمكن تداركها مستقبلاً، كما يتوهّم البعضّ.

في يوم السّبت 3/1/2009، عرضت فضائيّة العراقيّة، الطفّلة العراقيّة التي أُطلق عليها اسم (طفّلة الكاظميّة)، التي استشهدت أمّها، في عمليّة تفجير سيّارة مفخّخة، في مدينة الكاظميّة يوم السبت27/12/2008، وتركتها يد الجّريمة، وحيدة على قارعة الطّريق. لكنْ شاءت رعاية الله تعالى، أنْ تمنح لهذه البراءة، التي لا يتجاوز عمرها الشهر والنـصف، يداً نبيّلة وقلباً رحوماً، تلقفت الطّفلة بكلّ أبويّة ورحمة، لتتكفّل رعايتها وتربيتها.

جميل جداً أنْ يتابع الإعلام العراقيّ، هكذا تفاصيل ميّدانيّة، تخصّ أبناء الشّعب العراقيّ. لكنْ المؤلم في هذه التفاصيل، ظهور لقطة مهيّنة (مخطّط لها مسبقاً)، ما كان ينّبغي أنْ تصوّر، وتعرض على الجّمهور. لقد أظهر التسجيل (طفّلة الكاظميّة)، وهي تغفو في الأحضان الطيّبة للعائلة العراقيّة المحتضنة لها، والعائلة تعلن عن استعداها للتّعهد بهذه الطفّلة. وفجأة تقرّب الكاميرا وجه الطفّلة، بلقّطة (زوم للداخل، لتصوير لقطة مقّصودة)، ثمّ تستقرّ الّلقطة على وجه الطفّلة قليلاً. وفي هذه الأثناء، تتقدّم إحدى الأيادي، لتضع مظروفاً أبيضاً طبع عليه، الشّعار الملوّن لرئاسة الحكومة العراقيّة (النّسر العربيّ)، ليوضع قريباً من وجه الطفّلة. لتقول هذه الّلقطة (المتفّق عليها مسبقاً)، للمشاهد (وبدون تعليق طبعاً): أنّ في داخل الظّرف مبلغاً من المال، قدمته الجهة التي يعرّفها الشِّعار المـلوّن.

إنّ هذه الحركة البليّدة، أشعرت الواعين النبهاء المتابعين لهذا الحدث، مدى الاسّتخفاف بالدّماء العراقيّة وبمصير العراقيين. لِتُوَظَّفَ الآلام والجراحات، لخدمة دعاية انّتخابيّة، ولكسب المشاعر، من خلال استغلال العواطف المنشدّة والمتفاعلة، مع حالة (طفّلة الكاظميّة)، لجمع المزيد من الأصوات لجهة محدّدة، تتزاخم في انتخابات مجالس المحافظات القادمة. كان ينّبغي أنْ تصوّر الّلقطة بصورة أخرى، لتحقق أثراً وطنيّاً عامّاً، أقوى من أنانيّة الأوّل. كأنْ يحضر عند (طفّلة الكاظميّة)، ممثل عن السيّد القائد العامّ للقوات المسلّحة العراقيّة، (إنْ لم يكنْ هو شخصيّاً)، ويُعلن من جنّب مهدها: بأنّ السيّد القائد العامّ للقوات المسلّحة العراقيّة بعث بقائمة، تحتوي أسماء المسؤولين اللذين، بإهمالهم (إنْ لم يكنْ بتعاونهم مع الإرهابيين)، قد سبّبوا مأساة هذه الطفّلة، إضافة إلى مأساة الضّحايا الآخرين. ويُعلنُ أيضـاً: بأنْ تمّت إحالتهم إلى القضاء لمحاكمتهم، ويقول كذلك: نحن بانتظار قول القضاء في حقّهم عمّا قريب. و(يفترض) أنْ يَذكر المتحدّث (المفترض أيضاً): أنّ السيّد القائد العامّ للقوات المسلّحة العراقيّـة، سيضرب بيد القانون الصّارم، كلّ المتسيّبين والمعتاشين تطفّلاً، على جسم الدّولة العراقيّة الفتيّة، لأنّها دّولة القانون، لا دولة المتسيّبين والمتطفّلين.

ولو قدّر لهذه المبادرة (المفترضة) أنْ تحـصل، لكان حقّ كلّ شهداء العراق، وكلّ المظّلومين فيه، مصاناً دنيويّاً في ظلّ دوّلة القانون، ولا حاجة أبداً بعدْ، لمقايضة دمائهم ومظالمهم بالمال. فمقايضة الحقوق بالمـال، يعني العجّز كلّ العجّز، عن الوصول إلى الظّالمين.

ولو كانتّ(طفّلة الكاظميّة) تتكلّم، ولو كان ضحايا الإرهاب في العراق يتكلّمون، لقالوا جميعاً، للسيّد القائد العامّ للقوات المسلّحة، وبلسان عربيّ مبيّن ما يلي:

1. لقد صرفت حكومتكم الملّيارات من أموال الشّعب ؛ لشراء أجهزة كشف المتفجّرات، وهاهي النّتيجة أمامكم ؛ فشل عمل تلك الأجهزة عمليّاً. لأنّها لا تميّز بين معطّرات الجو والعطور الأخرى، وبيّن رائحة المتفجّرات ؛ فذهبنا نحن وغيرنا ضحايا فشل أجهزتكم. فهل ستحاكمون من استوردها ؟، أم سيظل المسؤول عنها دون حساب ؟. وهل ستبقى أرواح العراقيين، تترى رحيلاً إلى عالم الشهادة جرّاء هذا الفشل ؟.

2. أليس دولة الدّستور، مسؤولة عن حفظ أرواح ومصالح مواطنيها ؟. وإذا لـم تكنْ كذلك، فما هو مبرر وجودها إذنْ ؟.

3. إلى مَتى تبقوّن تكررون تجربة الطاغية صدام بدون وعيّ، عندما تقايضون الدّم بالمال، كما كان يفعل بالضّبط، استخفافاً بدّماء ومقدرات البشر ؟.

4. هل سيبقى المسؤولون عن الأمن، يتباروّن بترديد تّصريحات النّجاح الإستعراضيّة (بلا حياء)، أمام وسائل الإعلام، والعراقيّون يذبحون كلّ يوم دون توقف ؟.

الله تعالى يقول: ((وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ)). والسلام.

* كاتب وباحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 14/كانون الثاني/2009 - 16/محرم/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م