انخفاض أسعار النفط وكبح الدول المتمردة

خبراء: إنخفاض الأسعار مرحلة مؤقتة لَن تلبث أن تزول

شبكة النبأ: بالرغم من تسجيل أسعار البترول انخفاضاً كبيراً في السوق العالمية ووصولها الى أدنى مستوياتها خلال العامين الماضيين لسعر أقل من 50 دولار للبرميل، بفعل تدهور الاقتصاد العالمي وانعكاسه على انخفاض الطلب العالمي على النفط، إلا أن العديد من الخبراء يرون أن هذه المرحلة من انخفاض أسعار النفط هي مرحلة مؤقتة، وليست إلا رد فعل لحالة الكساد الاقتصادي وأن الأسعار ستعود لمعدلاتها المرتفعة بعد عدة أشهر نتيجة تزايد الطلب المتوقَع خلال فصل الشتاء الحالي..

وعلى الرغم من أن ارتفاع الأسعار خلال النصف الأول من هذا العام قد ترك آثاراً إيجابية على اقتصاديات الدول المصدّرة للبترول من حيث زيادة الفوائض المالية وتراكم الاحتياطات النقدية، إلا أن آثارًا سلبية ظهرت على اقتصاديات الدول المستوردة ومنها الولايات المتحدة المستهلك الأول للبترول في العالم، بحجم 21 مليون برميل يوميًّا أي ما يوازي 25% من الإنتاج العالمي، في حين أن إنتاجها المحلي لا يتجاوز 5.1 مليون برميل بنسبة 10% من الإنتاج العالمي. بحسب موقع تقرير واشنطن.

وهو الأمر الذي ظهر أثره سريعًا في تنامي معدلات العجز التجاري وارتفاع فاتورة الاستهلاك المحلي على كاهل الأسرة الأمريكية من ارتفاعات أسعار البنزين والطاقة، ناهيك عن أن ارتفاع أسعار البترول العالمية قد زادت من نفوذ الدول المصدرة ومن أهمها إيران وروسيا الأمر الذي يشكل تهديدًا للنفوذ الأمريكي العالمي، وهو ما دعا إلى ضرورة تبني استراتيجيات جديدة تقلل من الاعتماد على النفط وضرورة البحث عن بدائل جديدة للطاقة وتنويع مصادر الاستيراد وضرورة البحث والتطوير في مناطق جديدة منها القطب الشمالي وألاسكا مع ضرورة تقليل الاستهلاك من الطاقة والتطور التكنولوجي لصناعة السيارات لتكون أقل استهلاكًا للطاقة.

وعلى الرغم من هذا خلصت مقالة دانيل دريزنر وهو أستاذ السياسة الدولية في جامعة تافتس الأمريكية وأحد كبار المحررين في مجلة المصلحة القومية The National Interest، في المجلة في عددها عن شهرين نوفمبر – ديسمبر 2008، الذي كانت مقالته تحت عنوان "Oil Dependence As Virtue"، والتي ناقش فيها الآثار السياسية والاقتصادية لارتفاع أسعار البترول على المستوى العالمي، إلى أن قوة الولايات المتحدة ونفوذها تزداد في عصر النفط وارتفاع أسعاره عالميًّا أكثر من انخفاض سعره عالميًّا.

قوة استبدادية عالمية جديدة

جعل ارتفاع أسعار البترول في النصف الأول من هذا العام إلى مستوى قياسي 147 دولار للبرميل كثيرًا من المحللين يعتقدون بأن التوزيع العالمي للقوة قد بدأ ينتقل بسرعة لصالح الدول المصدرة للبترول وخصوصًا روسيا ومنظمة الأوبك. وقد أدى هذا الاعتقاد إلى حديث كثيرٍ حول ظهور قوى استبدادية عالمية جديدة والعودة إلى التاريخ . وقد رسخ هذا الاعتقاد تواكبه مع أحوال اقتصادية مواتية أهمها:

أولاً: ارتفاع أسعار البترول المتوالي على مدى خمس سنوات متتالية حتى وصل إلى أعلى مستوى له خلال يوليه الماضي إلى مستوى 147 دولار للبرميل.

ثانيًا: ارتفاع معدلات الطلب العالمي على الطاقة والاستمرار الحتمي في نمو الطلب المستقبلي بفعل معدلات النمو الكبيرة لعدة دول مثل الصين والهند.

ثالثًا: سيطرة دول منظمة الأوبك وخصوصًا الدول الخليجية على 90% من احتياطات النفط العالمية، في حين أن احتياطي النفط الأمريكي لا يتجاوز 3% من الاحتياطي العالمي.

رابعًا: التقلبات وعدم الاستقرار السياسي في كثير من الدول المصدرة للبترول مثل إيران والعراق وفنزويلا يبرز بالعودة إلى فترة الصدمات النفطية في السبعينيات من القرن الماضي.

خامسًا: تقديرات وزارة الطاقة الأمريكية أن في عام 2008 زادت إيرادات صادرات البترول للدول المصدرة للبترول بأكثر من 1 تريليون دولار لأول مرة معظمها للدول الخليجية كما أنه من المتوقع زيادة الإيرادات البترولية لتصل إلى 9 تريليون دولار حتى عام 2020 للدول الخليجية .

ويؤكد دانيل دريزنر Daniel W. Drezner أن كيفية استغلال الدول المصدرة للبترول للأرباح المفاجئة للبترول من العوامل التي رسخت هذا الاعتقاد أيضًا حيث نرى الدول المصدرة للبترول تستغل الفوائض البترولية في دعم برامج التنمية ودعم المؤسسات الحكومية وصناديق الاستثمار ودعم مراكزها المالية وزيادة الاحتياطات النقدية والاتجاه لتوسيع الاقتصاد والاستثمار في المشروعات الأكثر استراتيجية مما يمنح الدول المصدرة للبترول قدرات مالية هائلة تفوق قدرات الدول المستوردة.

فعلى سبيل المثال نجد شركة جازبروم الروسية تسيطر على مشروعات البنية التحتية للطاقة في الاتحاد الأوروبي، كما نرى صناديق الاستثمار العربية ومشاركتها في عدد من المؤسسات العالمية البارزة مثل سيتي جروب City Group، ومجموعة يو بى إس UBS، كريدت سويس Credit Suisse إلى جانب تملك كثيرٍ من المستثمرين العرب لمؤسسات كبرى مثل مبنى كرايسلر Chrysler ونادي مانشستر سيتي Manchester City وغيرها من سبل التملك.

وإذا نظرنا إلى الجانب السياسي لوجدنا أن هناك قلقًا أكبر في أن مصدري النفط يشعرون أن لديهم تفويضًا مطلقًا لمراجعة السياسات الخارجية للدول الكبرى وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية ومثال لذلك ما رأيناه من القادة الإيرانيين وموقفهم وسياستهم الخارجية ضد الولايات المتحدة وإسرائيل وموقفهم من الإرهاب ومنع الأسلحة النووية. 

وأيضًا موقف هوجو شافيز Hugo Chavez في فنزويلا ووعده بتحويل فنزويلا إلى مشروع اشتراكي بولفارى لتحدي الهيمنة الأمريكية في نصف الكرة الغربي، كذلك روسيا التي غزت جورجيا وهي مدعومة بنمو اقتصادي كبير واحتياطات نقدية تتعدى 500 مليار دولار بفعل ارتفاع أسعار البترول.

وحول هذا الموضوع كتب فريد زكريا Fareed Zakaria في النيوزويك Newsweek مؤخرًا: " إن ارتفاع أسعار البترول في الآونة الأخيرة عنها في العقد الماضي قد جعل من روسيا أكثر ديكتاتورية وفسادًا وحزمًا وجعلت من فنزويلا وروسيا وإيران أكثر استقلالية ولامبالاة ضد المعايير الدولية والقوانين الدولية وان أفضل استراتيجية لكبح جموحهم هو تخفيض أسعار البترول بشكل كبير".

ورغم أن الأزمة المالية والركود الاقتصادي العالمي قد أدى إلى تراجع الطلب العالمي على النفط وتراجع أسعاره إلى ما دون 60 دولار للبرميل إلا أن ذاكرة ارتفاع الأسعار لمستوى 147 دولار للبرميل تلوح في أذهان المستهلكين الغربيين والصينيين وتزايد المخاوف بشأن أمن الطاقة إلى جانب المخاوف من ارتفاع درجة حرارة الأرض كل تلك العوامل جعلت من البحث عن مصادر جديدة للطاقة أمرًا لا مفر منه وضرورة البحث عن بدائل ملائمة للبيئة تحل محل النفط والغاز الطبيعي.

ويرى المتفائلون أن الاتجاه المستمر لانخفاض أسعار البترول والاتجاه المتزايد للبحث عن مصادر بديلة للطاقة قد جعل من نهاية عصر النفط عصرًا وشيكًا والعودة إلى الأسعار التي كانت قبل عصر الصدمة البترولية في السبعينيات.

أثر ارتفاع أسعار البترول على الدول المصدرة

خلافًا لمعظم التوقعات الأمريكية المتفائلة بنهاية عصر النفط نجد أن الدول الخليجية قد غيرت من استراتيجياتها لاستغلال الفوائض البترولية ففي خلال فترة السبعينيات أثناء الصدمة البترولية نجدها قد استغلت الفوائض البترولية في واحد من ثلاثة أمور:

الأول: الاستثمار في البنوك الأمريكية.

الثاني: زيادة الاستهلاك للسلع الكمالية والترفيهية.

الثالث: الاستثمار في مجالات صناعية غير استراتيجية وغير ذات أهمية اقتصادية.

هذه الاستراتيجيات الثلاث تسببت في تعرض اقتصاديات الدول الخليجية إلى ضائقة مالية كبيرة في فترة الثمانينات والتسعينيات مع الانخفاض الكبير لأسعار البترول لأقل من 20 دولار للبرميل.

وخلافًا لهذا الوضع نجد الدول الخليجية لم تسمح بالتصرف في الفوائض البترولية الكبيرة هذا العام 2008. حيث لم تنفق حكومات الخليج إلا أقل من 45% من عائداتها النفطية وباقي الإيرادات استثمرته إما في زيادة رصيد الاحتياطات النقدية في البنوك المركزية أو الاستثمار في البنية التحتية اللازمة لتنوع الاقتصاد فعلى سبيل المثال نجد دولة قطر أنفقت 1.5 مليار دولار في مجال البحث والتطوير، في حين يخطط جهاز أبو ظبي لاستثمار 1 تريليون دولار حتى عام 2010 في الأصول.

أما المملكة السعودية فقد وضعت حجر الأساس لتأسيس ست مدن للمعرفة بتكلفة إجمالية 100 مليار دولار، كما أنفقت مبالغ مالية كبيرة تتعدى 20 مليار دولار في مجال البنية التحتية التعليمية. أما إمارة دبي فقد اتخذت خطوات مستقبلية إلى عصر ما بعد النفط وأصبحت مركزا تجاريّا عالميّا في الشرق الأوسط واستثمرت أكثر من 10 مليارات دولار لإنشاء مؤسسة لتمويل التعليم العالي وقامت بتحرير أسواقها وأصبحت من أهم مراكز النقل العالمية.

كما اعتمدت الإمارات الأخرى في دولة الإمارات العربية استراتيجيات مماثلة لإمارة دبي، فنجد إمارة " أبو ظبي " أصبحت مركزًا للشركات العالمية متعددة الجنسيات مثل جنرال موتورز General Motors (GM).

وعلى النقيض من تلك الآثار الإيجابية لعصر النفط نجد آثارًا سلبية لارتفاع أسعار البترول في دول أخرى مثل نيجيريا وكولومبيا والسودان وإندونيسيا، وأهم هذه الآثار هي الحروب الأهلية والصراع الدائر حول توزيع الثروة النفطية.

ومن الدول التي يرتبط النفط بها بالحروب الأهلية، العراق فالخلافات حول توزيع عائدات النفط ساعدت على تمديد الحرب الأهلية في العراق منذ عام 2003 وحتى وقتنا الراهن أي لمدة خمس سنوات منذ الإطاحة بصدام حسين فما زالت المجموعات العرقية تتقاتل حول الوضع الإداري لمدينة كركوك الغنية بالنفط.

وهناك نوع ثالث من الدول المصدرة للبترول وهي الدول ذات الدخل المتوسط مثل روسيا وفنزويلا وإيران التي استغلت الفوائض البترولية في مزيدٍ من الاستثمار في الأسلحة النووية وزيادة في الديكتاتورية والسيطرة وتعزيز الدعم الداخلي وزيادة قوتها. فعلى سبيل المثال نجد أن روسيا قد استثمرت معظم فوائضها المالية في دعم الشركات الحكومية التي استمرت في الاقتراض مدعومة بتوقع زيادة الإيرادات النفطية ومع انخفاض أسعار البترول تركت الحكومة هذه الشركات دون دعم يذكر.

كذلك إيران التي استعملت الفوائض البترولية الناتجة عن ارتفاع أسعار البترول في دعم البرامج النووية التي شكلت تهديدًا كبيرًا للمنطقة كلها وقد ردت السعودية بسرعة بتطوير أسلحتها الدفاعية وشراء أسلحة الردع للأسلحة النووية وكذلك مصر والعراق قررتا امتلاك تكنولوجية الأسلحة النووية .

السياسة الأمريكية

لعقود من الزمان تعهد مرشحو الانتخابات الرئاسية الأمريكية بإنهاء إدمان الولايات المتحدة للنفط الأجنبي باعتبار أن الاعتماد على النفط الأجنبي كان قيدًا على العمل الأمريكي والسياسة الخارجية الأمريكية إلا أنه من الملاحظ أن الوضع أثبت أن قوة الولايات المتحدة ونفوذها تزداد في عصر النفط "مع ارتفاع أسعار البترول" أكثر منها مع انتهاء عصر النفط " انخفاض أسعار النفط " وانهيار أسعاره. فمع ارتفاع أسعار البترول:

أولاً: تزيد التدفقات المالية من الدول المصدرة للبترول ـ خصوصًا الدول الخليجية ـ للاقتصاد الأمريكي في شكل استثمارات في البورصات الأمريكية أو البنوك الأمريكية أو الاستثمار في مجال العقارات الأمريكية.

ثانيًا: زيادة الفوائض النقدية للدول الخليجية يعني بالضرورة زيادة في احتياطاتها النقدية المقومة بالدولار وهو ما يعني تدعيمًا للدولار الذي يعاني الاضطرابات. حيث يوجد أكثر من 2 تريليون دولارٍ كاحتياطات نقدية مقومة بالدولار في منطقة الخليج يعتمد عليها الأمن الأمريكي في أوقات عدم الاستقرار المالي.

ثالثًا: عززت الفوائض النفطية من دعم تهديدات إيران لدول الخليج وهو الأمر الذي ربط أمن دول الخليج بأمن الولايات المتحدة الأمر الذي شجع تلك الدول على ضمان الأمن الأمريكي حفاظًا على أمنهم بالأساس ورغبتهم في الاستثمار بمبالغ كبيرة في الدين الحكومي الأمريكي.

رابعًا: زيادة الفوائض البترولية لدول الخليج يعني بالضرورة زيادة الميزانيات العسكرية ومزيدًا من شراء الأسلحة لمواجهة الخطر النووي الإيراني وهو ما يعني رواجًا كبيرًا لشركات السلاح الأمريكية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 24/كانون الثاني/2008 - 25/ذي الحجة/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م