الطريق لتحقيق الحج

أ.م.غريبي مراد

إنه الحج أحد أركان الإسلام، وهو العبادة المميزة التي تعكس عدة قيم وأهداف وتتكامل مع عدة عبادات لتطرح أمام الداخل في رحابها حقيقة العلاقة بين الخلق والعبادة، لكن لابد لنا من التركيز شيئا ما قبل الحديث عن الحج أو أية فريضة من فرائض التشريع الإسلامي، لكي لا نعيد ما قيل ولا نركب الموج العالي فنكون كالذي يقفو ما ليس له به علم، فالحج كفريضة يختزن عنوان المسؤولية التي تستدعي التجسيد والفاعلية في الأداء لأي عمل مع استهداف الإتقان والتطلع للرضوان، وأول ما ترتكز عليه المسؤولية: هي المعرفة كبعد نظري ومرحلة ما قبل التجسيد...

فالحج ككل عبادة ليس تشريف بل هو تكليف متعدد الأبعاد يدخل ضمن فلسفة وجودية نابعة من المنطق الإسلامي، لذلك المسلم الحركي في حجه يختلف عن ذلك المسلم التقليدي لأن الأول يعتمد على التفكير الإستراتيجي في حركته العبادية بينما الثاني على السطحية الفكرية، وكلاهما مأجور عند الله عزوجل، لكن الرؤية الرسالية للعبادة في الإسلام تجعلنا نعيد ترتيب واقعنا العبادي، لأننا عندما نتلوالآية/99 في سورة الحجر: "واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" والآية /6 من سورة الإنشقاق:" يا أيها الإنسان إنك كادح لربك كدحا فملاقيه" ونسعى للتدبر فيها وفي العديد من الآيات القرآنية نكتشف بصائر بخصوص العبادة في الإسلام، أي أن نتدرج ونرتقي ونتطور في مستوى العبادة ليس في الشكل أوالهيكل والهيئة التي تحددت بما آتانا الرسول محمد صلى الله عليه وآله، ولكن المعني هي الروح في العبادة، تحتاج لمفاعلات أو كما يعبر في علم الإدارة مدخلات ومخرجات (input -output)بالإضافة للسوابق واللواحق، والمستفاد من الآيتين السابقتين نقطة أساسية، هي أن عبادة الحج في مناسكها إيحاءات عظيمة لمن ألقى السمع وهو شهيد، لكن جوهر الحج وفلسفته وكنهه هي  الواجب التحرك نحوبلوغها مما يمكن التعبير عنه بالسير إلى الله بمناهج الله على هدى الله ومع عباد الله وفي رحاب الله ولك أن تستحضر ذلك  كله من خلال حروف الجر كلها، فالحج ليس سياحة أو تعب أوقوة، إنه أولا وقبل كل شيء ثقافة بمعناه العام، دين عبر التاريخ تدين به الرسل ومن آمن بهم وقيم صقلت شخصيات المؤمنين وحضارة اجتمع لأجل التخطيط لها الصالحون في الأرض، حيث تنتظم الأحوال بعد الحج ويبدأ التجديد والتغيير والتشييد يشق طريقه في حياة الناس ليخرجهم من الجمود العبادي إلى النشاطية العبادية في الصلاة المتجددة في روحيتها والصوم الباعث للتقوى الواسعة وللزكاة المطهرة للنفوس من الجشع والطمع، لتشرق شمس التوحيد والرسالة في قلوب الناس، فيملأ واقع المسلمين نورا وهدى ورحمة ويزدادوا وعيا واتحادا وأخوة...

ونبقى نستوحي من  القرآن  حيث نلتقي بالسؤال المحرج لنا في مشوار العبادة هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، لأن العلم ليس شرط مبدئي ثم تنتهي القضية بل العلم والعبادة صنوان، لا لشيء سوى لكون العلم عبادة والعبادة من شروطها العلم أساسا، فالله لا يعبد بجهل، إذ بعد حصول الوعي والإدراك والمعرفة والتحقق من أن الحج مسؤولية عظيمة  وعبادة شاملة وضخمة من حيث الثقل الفلسفي والمعطى الإستراتيجي المستهدف منها في التطلع الإسلامي، يترتب على الحاج تدبير واستعداد عملي، لأن في الإسلام العلم والعمل أساس النجاح والفلاح...

وجميل ما قرأته للعلامة المرحوم الشيخ جواد مغنية في كتابه"هذه هي الوهابية" أنه رحمة الله عليه تردد في أداء الفريضة رغم  توفر المال لديه والصحة والعلم الفقهي لدرجة الاجتهاد على ما أذكر، لكن استحضار روحية الحج كان يتصور أنه لم يكتمل عنده، وهو العالم الجليل الذي ملأ فكره وجهاده  الرسالي  كل العالم الإسلامي، فماذا عن عامة الناس في قبال العلماء والعاملين المواظبين في خدمة الإسلام والمسلمين...؟

نافلة هذه الإرهاصة كلمة لأستاذنا العلامة المرجع الكبير السيد المدرسي دام ظله الوارف يقول فيها: هناك أهداف رسالية تحققها فريضة الحج منها وحدة الأمة وصحة الإنسان وسلامة الاقتصاد...

ثم يواصل سماحته :إن من أخطر ما ابتليت  به امتنا الإسلامية تجزئة الأحكام عن بعضها، وعدم فهمها بصورة متكاملة، وعلى سبيل المثال فإن المسلمين يصلون ولكنهم لا يدركون العلاقة الوثيقة للصلاة بالنهي عن الفحشاء والمنكر، ويحجون دون أن يعرفوا علاقة الحج بالوحدة، ويزكون دون أن يربطوا بين الزكاة وتنمية الثروة وتوزيعها العادل...

أما بعد: الحج محطة عبادية للإنطلاقة والتجديد الحضاري الإسلامي من جهة وإدارة للأزمات الإسلامية الراهنة من جهة ثانية...

موقعية الحج في الخريطة التشريعية

المراجعة البسيطة لكتب التراث الإسلامي بمدرستيه، تؤكد إجماعا على موقعية الحج في الخريطة التشريعية الإسلامية وما يتعلق به من مناسك وأبعاد وأهداف، ففي سورة آل عمران الآية 97  نجد دليلا واضحا على أهمية هذه الفريضة:"...ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، كما نقرأ سورة بأكملها عن الحج،وعن فضل الحج وثمار الحج، ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: ((الحاج يصدرون عن ثلاثة أصناف: صنف يعتق من النار،وصنف يخرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه، وصنف يحفظه في أهله وماله، فذاك أدنى ما يرجع به الحاج))...

بعد هذه التوطئة التي لا تخفى على مسلم ملتزم وفقيه بدينه، عارف بزمانه، متوجه لربه، حيث نستدرك أن الفكرة الإسلامية حتى تتحقق في واقع المسلمين وتكون حياة معاشة ونافذة في عمق الوجدان الإسلامي، يجب أن تجعل الإنسان ينظر لدنياه آخرةً، ويستشرف آخرته انطلاقا من وعيه لمسؤوليته وسلامة حركته في بناء الدنيا على النهج الذي يحبه الله.. فلا تكون الآخرة دارا مستقلة عن الدنيا، بل تمثل أهداف الدنيا الكبيرة التي تستمد روحيتها وحيويتها ونجاحها من حركتها الصاعدة إلى الله.

من خلال هذه النظرة الشمولية للحياة من خلفية إسلامية، نفهم العبادة نافذةً واسعةً تطلّ على كل ما في الدنيا من قضايا ومشاكل للحياة والإنسان، من حيث هي نافذة تتحرك في آفاق الغيب، مع الله، وفي نتائج المسؤولية في الدار الآخرة.

والحج كعبادة لا يخرج عن الدائرة الرسالية في المنظومة الإدارية للعبادة في الإسلام، فالحج موسم تربوي رسالي يبعث رسائل مهمة على جميع الصعد الإنسانية ويبحث عن الحلول للمشاكل العالقة في الواقع الإسلامي ويؤشر للتحديات المثبطة للعزائم الإسلامية في اللقاء والتعاون والتشاور والدعوة والعالمية...

هكذا أيها الأحبة عندما نقترب من أجواء الحج، مع التفكير فيما حشده التشريع الإسلامي عن الحج من عدة جوانب، نخرج بمعرفة وعرفان عن الحج في صورته وطبيعته، وعن إيحاءاته...

فإذا تأملنا في الإحرام، ترتفع ثقافة النحرر، حتى يتحرر الإنسان المسلم من كل ما يعيق حركته من الارتباط بالأشياء والمال والعادات والجنس والجاه والسلطان التي يعيش في داخلها أويسجن نفسه فيها، حيث نقرأ في حديث رائع  للإمام الصادق عليه السلام يكشف فيه سلام الله عليه عن أسرار الحج العظيمة :...والبس كسوة الصدق والصفاء والخضوع والخشوع، وأحرم من كل شيء يمنعك من ذكر الله ويحجبك عن طاعته...

وبعدها نلتقي بالإستجابة لدعوة الله بكل عنفوان وقوة وثقة، حيث يعبر العلامة المرجع السيد فضل الله دام ظله الوارف: (إن كلمة «لبيك» يراد بها الاستجابة لنداء إبراهيم عليه السَّلام فيما أمره الله به، من أن يؤذن للناس بالحج ليدعوهم إلى الإقبال عليه، في ما تحدث به القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ..}[الحج:26ـ27]... إن كلمة «لبيك» تعني. إننا ـ يا رب ـ نلتزم في موقفنا هذا، بكل نداءاتك بالإسلام كله، في عباداته، وفي أخلاقه، وفي جهاده، وفي سياسته واقتصاده..)

ويواصل مولانا أبا عبد الله الصادق عليه السلام بحديثه عن روحية الحج:ولب بمعنى إجابة صافية خالصة زاكية لله عزوجل في دعوتك متمسكا بالعروة الوثقى...

حيث لبيك اللهم لبيك، لبيك وحدك لا شريك لك، عبارة عن إقرار بالتوحيد وخضوع لله وتواضع أمام العظمة، في جميع الأمور، في السياسة والثقافة والفقه والاجتماع والاقتصاد، بحيث لا نغفل عن روح الإسلام ورسالته ومستقبله لنستغرق في خصوصياتنا الواهية وأطماعنا وجهاتنا بعيدا عن المسؤولية الإسلامية الكبرى...

ونصل إلى الرمز  الإنساني لنطوف حوله كدلالة على إيماننا بالإنسانية العادلة المنصفة التي لا تبحث عن الخصوصية والفردانية والاستبداد والعنصرية المقيتة ولكن تجمع الناس ليتعارفوا ويتواصلوا ضمن إطار تقوى الله ومهما عبرنا عن الإيحاءات الكبيرة فلن نف  هذه المحطة حقها ولنبقى مع الإمام الصادق عليه السلام لنتربى على الإسلام الثقافة والعرفان والتقوى :...وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت...

هنا نستعيد معنى الجنة ونستحضر القضية العظمى في الحياة ونستذكر صراع الحق مع الباطل ونؤكد معنى الامتداد الإنساني الشعوري في روحيه العبادة بين يدي الله..

ونلتقي في التاريخ الإسلامي الكبير في قصة سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل عليهما السلام والسيدة هاجر، من خلال الصفا والمروة، فالإمام الصادق عليه السلام يقول: (( هرول هربا من هواك تبريا من جميع حولك وقوتك واخرج عن غفلتك وزلاتك بخروجك من منى ولا تتمن ما لا يحل لك ولا تستحقه...

واعترف بالخطايا بعرفات...

وجدد عهدك عند الله بوحدانيته وتقرب إلى الله واتقه بمزدلفة واصعد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك إلى الجبل..

واذبح حنجرة الهواء والطمع عند الذبيحة...

وارم الشهوات والخساسة والدناءة والأفعال الذميمة عند رمي الجمرات...))

هذا هوالطريق العظيم الذي يقطعه الحاج العارف بدينه وزمانه على بساط العبادة وبروحية التقوى وهدفية بلوغ رضا الله تبارك وتعالى...

إنه الحج في بعده الرسالي.. الحج الذي يعلم الإنسان المسلم حب  الله والإنسان والحياة، ومن خلال هذا الحبّ الواعي الخاشع المسؤول تشيد الوحدة الإسلامية الكريمة...

إلى هنا أحبتنا الحجاج حجكم مبرور وسعيكم مشكور وذنبكم مغفور...والحمد لله رب العالمين 

* كاتب وباحث إسلامي

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 13/كانون الثاني/2008 - 14/ذي الحجة/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م