العدول في النص القرآني

في ضوء الدرس اللساني الحديث

د. حسن منديل العكيلي

هل تصلح طروحات علم اللغة الحديث ونظرياته من حداثة وما بعد الحداثة والاسلوبية الحديثة والمناهج النقدية الحديثة درساً وتحليلاً وتطبيقاً على النصّ القرآني كما هي من غير اعتبار لخصوصية النصّ القرآني ونظامه الذي ينأى عن أنظمة اللغات الغربية ولاسيما الإنجليزية والفرنسية وغيرهما مما كانت ميداناً ومرتكزاً وتطبيقاً للاسلوبية ، ناهيك عن الأهداف والغايات التي سعت إليها ، ولاسيما موقفها من العدول النحوي والاسلوبي ، أو الانزياحات ، والأنموذج المعيار لتلك الانزياحات.

انّ مناهج الدراسات اللغوية والنقدية والاسلوبية الحديثة كثيرة ومتشعبة لا يمكن الاحاطة الكاملة بها وبتفاصيلها ودقائقها([1]) أو تطبيقها كما هي تطبيقا تقليدياً على النص القرآني ، وليس من وكدنا ذلك بقدر الإطلاع عليها وفهمها والاستفادة مما يصلح منها لدراسة النصّ القرآني والعدول في نظامه التركيبي ، وانتخاب ما يلائمه من نظريات الاسلوبية العامة ومناهجها كونها تطبيقاً ألسنياً على الأدب او اللغة الإبداعية. والتركيز على أهمية الاتجاه اللساني في دراسة لغة الأدب لا التناول الأدبي والنقدي الفلسفي في ضوء علوم مختلفة.ولا نكرر ما يملأ كتب النقد الأدبي وعلم اللغة الحديث والاسلوبية ، ونركز على ما له صلة بموضوعنا: العدول عن النظام التركيبي في النصّ القرآني وصلته بالدلالة وظلالها التي تسمى بالمعاني الثانية وهي دلالات فنية إبداعية لا تؤديها اللغة المباشرة التي أطلق عليها المعاصرون: اللغة النفعية الايصالية او المثالية.

إذن ثمة مشكل في التناول الاسلوبي ومحاذير ينبغي الوقوف عليها فضلاً عن علمانية الاسلوبية وارتباطها بالفكر الغربي المادي او الديني على وفق العقيدة المسيحية او العلمانية ، التي تتقاطع مع الجانب الروحي للنصّ القرآني والنظرة القدسية له وللغة العربية.

نركز على ما له صلة بالألسنية والمنهج الذي يستنبط الدلالة من كل مكونات النص ، وهذا هو مفهومنا للاسلوبية هنا في الأقل. وهو أقرب الى مفهوم الاسلوبية الإسلامية او الدراسات التي تناولت اسلوب القرآن مستفيداً من الموروث البلاغي والدراسات الاسلوبية المعاصرة.

الأسلوبية والنقد الأدبي :

إنّ الأسلوبية منهج من المناهج النقدية الحديثة وهي اقرب الى الأدب من الألسنية على الرغم من أنها ولدت من رحم الالسنية ولاسيما لدى سوسير وأتباعه، فان موضوعاتها لغوية في الغالب إلا إنّ تطبيقها على نصوص الأدب من هنا تكون أهميتها فهي جسر بين الأدب وعلم اللغة والنقد الأدبي والبلاغة.

وفي الموروث العربي صلة النقد بالبلاغة وثيقة كونهما فنين يكمل احدهما الآخر والفصل بينهما يؤول الى اضطراب مناهج دراسة الأدب ونقده ولاسيما لدى المتأخرين. وقد أخذ الدارسون المعاصرون على من يفصل بينهما واصطلحوا عليهما اصطلاح (النقد البلاغي) ، ولهذا النقد صلة وثيقة باللغة "بوصف الأدب فناً وسيلته اللغة"([2]).

ان النقد البلاغي لم يتقيد ببحث المستوى الصوابي في النصّ الإبداعي بحسب مفاهيم أهل اللغة "وإنما تناول الجانب الفني (فيه) مؤكداً على نواحي الجمال ، كما تتجلى في الألفاظ وأصواتها وتراكيبها وموسيقاها والعبارات ورصانتها وجودة سبكها وحسن موقعها في النفوس"([3]).

ليس العلم باللغة وحده كافٍ للنقد البلاغي ، فكثير "ممن اشتغلوا باللغة وخبروا العربية لم يقفوا على مواطن الجمال والبلاغة في النصّ الأدبي" ، لكن اللغة قد استحوذت على الاهتمام الأكبر من نقاد العرب([4]).

انّ الأدب تعبير عن الإنسان وحياته المتغيرة ، فيتغير تبعاً لها زماناً ومكاناً وفلسفة وأيدلوجيات وأنظمة المجتمع. وان جوهر الأدب لغته ، والأدب مادة النقد ، وللنقد صلة وثيقة بالعلوم الإنسانية كالفلسفة والتاريخ وعلوم اللغة والاجتماع وعلم النفس وعلم الجمال وغير ذلك. وكان النقد فرعاً من الفلسفة في الفلسفة اليونانية ، وزاد ارتباطها به في عصرنا الحديث ، انقسم تبعاً لها على مذاهب([5]).

بل نجد خلطاً بين النقد والأدب والفلسفة التي مادتها اللفظة لدى ارسطو وقد تأثر الأدب ونقده ومناهجه بالفلسفة ومناهجها: الوجودية والماركسية والجدلية والمادية والمثالية ، والبنيوية والتفكيكية والتكوينية وغيرها من الفلسفات التي انتقلت الى مناهج النقد الحديث([6]).

و" ألأدب تميز قبل كل شيء باستعمال خاص للغة"([7]) ، ومادة النقد هي الأدب تذوقاً وتحليلاً ولغة وتاريخاً وجنساً ، وتصنيفاً واستجابة ، فتعدد المعالجة بتعدد قضايا الأدب ومضمونه وقراءته وتنوع النقد نفسه الى اتجاهات ومدارس ونظريات وبحسب تأثره بالعلوم..

ولغة الأدب مرتبطة بالتجربة الإبداعية وما يتصل بذلك من ثقافة المجتمع وعلومه. إذن تحديد علاقة موضوعنا بالنقد والبلاغة هو لغة الأدب او ما سماه الدكتور سعد مصلوح بـ: النقد اللساني ، او الاسلوبية العربية نحاول اتخاذها منهجاً لدراسة العدول ولاسيما ان لغة الأدب تُبنى على العدول او ما سموه بالانزياح والانحراف الذي يحدث في دلالة النصّ لا تركيبه كالاستعارة والكناية وغيرهما([8]) مما يتصل بلغة الشعر في الأغلب وهي تختلف عن العدول التركيبي في النصّ القرآني. وعن الضرورة الشعرية لدى القدماء.

والنقد العربي الحديث متأثر بالنقد الغربي ومتابع له ومتطفل عليه ولاسيما بالفلسفات المادية، على الرغم من تراثه الغني المبني على النصّ القرآني خاصة. والنقد الغربي الحديث مبني على نصوص الأدب العالمي كجان جاك روسو وغيره وعلى إحياء أساطير تبناها الأدب المعاصر فإذا كان التقاؤهم في الأدب الإنساني والتجربة الإبداعية للأديب لكنهم لا يلتقون في تحليل النص القرآني وخصوصيته وارتباطه بالعربية ونظامها المحكم الذي يختلف عن أنظمة اللغات الأخرى. النصّ المرتبط بالخالق عزّ وجل (المرسل) وبالجانب الروحي لدى (المتلقي) و(الرسالة) المنقولة من الغيب.

"ورغبة من النقد العربي المعاصر في مواكبة الاتجاهات النقدية العالمية الحديثة ، حاول ترجمة هذه الدراسات النظرية ، وقليلاً ما قام بتطبيقها بالصورة السليمة والموضوعية على النصّ العربي ، ومن هنا برزت مشكلة التنافر وعدم التآلف – في اغلب الأحيان- بين المادة المترجمة والإبداع العربي ، بين المنهج الغربي وأدبنا في مختلف البلدان العربية([9]). ويبدو ان جل الدارسين العرب ينظرون للطرح الغربي في اللغة والنقد نظرة إعجاب وإكبار لما شهده الغرب من تطور في الميادين العلمية المختلفة. وهذا قد لا ينطبق على علوم اللغة فالموروث اللغوي والبلاغي والنقدي العربي لا يقل أهمية عما يطرحه الغربيون المعاصرون.

* كلية التربية للبنات – جامعة بغداد


(1) علم الاسلوب، فضل 7.

(1) النقد البلاغي عند العرب حتى نهاية القرن السابع الهجري (اطروحة) 4.

(2) المصدر نفسه 61.

(1) النقد البلاغي عند العرب حتى نهاية القرن السابع الهجري (اطروحة)65.

(2) ينظر: تطور الفكر النقدي في العراق 51، ودليل الناقد الأدبي 215 وما بعدها والنقد البنيوي الحديث بين لبنان وأوربا 43 وما بعدها والمصطلحات الادبية.27.

(3) النقد الأدبي الحديث، غنيمي 13، 54، وجدلية الافراد والتركيب 3.

(4) اللغة والابداع 5.

(1) اللغة والابداع 85.

(2) مفهومات في بنية النص 3-4، والنقد البنيوي الحديث بين لبنان وأوربا 383 ومابعدها، والمصطلحات الادبية الحديثة 31 وما بعدها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 27/تشرين الثاني/2008 - 27/ذي القعدة/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م