مشكلتنا فينا وليست في بلفور

عقيل عبدالخالق ابراهيم اللواتي

سنوياً، وفي كل نوفمبر، اعْتَدْنا أن نَلْعَن بلفور ووعده، فنَرْجُم بلفور كما نَرْجُم إبليس. فهذه الذكرى ما زالت تغص في حلق العرب، وآلامها مازالت تنبئ بالكثير من أسرار حياة ضحياها. فجيل بكامله رحل وهو على العهد، وجيل آخر ما زال يورث الذاكرة لمن يأتي بعده.

ولم تنجح الأيام والسنوات بمسح الذاكرة العربية، ولا سيما ذاكرة جيل الشباب منهم الذي ما زال يعي جيدا حجم المؤامرة التي أحيكت ضد شعبنا في فلسطين من قبل وزير الخارجبة البريطاني جيمس أرثر بلفور يوم 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 ، ومن خلفه الحكومة البريطانية التي وقفت بكل ثقلها من أجل إقامة دولة للاحتلال وإعطاء (من لايملك لمن لا يستحق).

وقد اختلفت التفسيرات والدوافع وراء هذا الوعد، فبلفور نفسه برره بأنه بدافع إنساني، في حين يرفض باحثون عرب هذه التفسير استنادا إلى حقائق تاريخية تفيد بان بلفور "لم يكن يفكر في مأساة اليهود الإنسانية"، بل على العكس من ذلك فقد رفض التدخل لدى الروس لمنعهم من "اضطهاد اليهود".

وترى مصادر إسرائيلية تاريخية ان وعد بلفور كان مكافأة للباحث حاييم وايزمان لخدمته بريطانيا باكتشافات علمية أثناء الحرب العالمية الأولى، غير ان الاحداث والمعطيات التاريخية لا تدعم هذا الرأي كذلك، فمساهمة اليهود في دعم بريطانيا في الحرب كانت محدودة ومقتصرة على بعض اليهود غير الصهاينة.

أما لويد جورج الذي أصدرت حكومته الوعد فقد برر القرار في كتابه "الحقيقة حول معاهدات الصلح" بعدة عوامل منها ما يفيد بأنه كان هناك سباق مع ألمانيا حول كسب اليهود إلى جانبهم.

ورأت بعض الصحف البريطانية حينها في وعد بلفور إيجادا لقاعدة صهيونية في فلسطين لحماية مصالح بريطانيا في المنطقة، فضلا عن مد نفوذها الإمبراطوري إلى هناك.

أما الرؤية العربية والإسلامية فترى أنه كان هناك سعي صهيوني حثيث جعل الوعد جزءا من الحركة الاستعمارية التي ربطت "الصهيونية" بها لتحقيق أهدافها في المنطقة، خاصة أنه أعقب الوعد بفترة قليلة بداية الاستعمار الفعلي لفلسطين، حيث أتم البريطانيون إخضاعهم لفلسطين ما بين عامي 1917 و1918، ورافق الوعد سياستهم في فلسطين منذ صدوره وحتى خروجهم منها.

أكثر من تسعين عاماً ونحن نلعن هذا الوعد .. ونلعن آرثر جيمس بلفور ونعتبره مسؤولاً عن سقوط يافا وحيفا والقدس والسلام والاستقرار والتقدم والوحدة العربية، ونستهلك نفس العبارة القديمة "اعطى من لايملك لمن لا يستحق". وقلنا أيضاً إن وعد "بلفور" مشؤوم. وإن وعد بلفور ظالم ومجحف ومريض . .. ولكن، هل المشكلة في وعد بلفور؟

وهل بدأت مأساتنا الحقيقية في الثاني من نوفمبر عام 1917 ؟

لقد ظل وعد "بلفور" ثلاثين عاماً مرمياً في أرشيف وزارة الخارجية البريطانية مثل أي رسالة مجاملة وترضية لليهود. فالمأساة الحقيقية ليست "بلفور". لقد بدأت المأساة الحقيقية عندما أصبحت القضية الفلسطينية ضحية للمساومات السياسية وخطط التسوية الفاشلة التي دفع الشعب الفلسطيني ومازال ثمناً باهظاً لها من أرضه ووطنه ودماء أبنائه، دون أن تظهر في الأفق أي بارقة أمل حقيقية تبشر بقرب التوصل إلى تسوية نهائية لهذه القضية. فالقضية الفلسطينية لا تزال تراوح مكانها لا بل وتتراجع نتيجة تعنت الكيان الصهيوني المدعوم من امريكا والغرب التي عرفت كيف توحي بافكارها الى بعض الاطراف العربية لتسوية القضية الفلسطينية.

ولذا نرى ان المأساة الحقيقية تكمن الى حد بعيد في قناعة هذه الاطراف (العربية) بايحاءات الولايات المتحدة المنحازة قلبا وقالبا للعدو الصهيوني الذي يحرك ادواته في الادارة الامريكية متى ما شاء للضغط على الاطراف العربية لتقديم المزيد من التنازلات والذهاب الى ابعد الحدود في التناغم مع الطرف الصهيوني للتوصل الى ما يسمى السلام في الشرق الاوسط!

ان هذه المأساة بدأت حينما اختارت فصائل فلسطينية خيار التسوية لاستعادة الحق الفلسطيني المشروع من العدو الصهيوني، ومن ثم ـ وكنتيجة طبيعية لذلك ـ تنازل عربي عن دور العرب (الحكومات) في قضية فلسطين، ليعني أن فلسطين لم تعد هماً قومياً يجمع الأمة، وليفتح بوابات الحوار والعلاقات تحت عنوان كبير الذي هو المبادرة العربية.

فالى متى سنبقى نلعن هذا الوعد المشؤوم؟

فمشكلتنا فينا .. وليست في بلفور!

* كاتب عماني

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 18/تشرين الثاني/2008 - 18/ذي القعدة/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م