سهل نينوى.. هل يكون العشاء الأخـيـر؟!

نجاح محمد علي

لا يتردد البعض في القول بأن المسيح عليه السلام "يُصلب من جديد"، وهذه المرة، في مدينة المُـوصل الإستراتيجية، التي تُـعد حلقة وصل مهمّـة بين العراق وإيران، وتركيا وإيران بل بين العراق وأوروبا.

فاستهداف المسيحيين في العراق، أخذ شكلا خطيرا جدّا في العمليات الأخيرة التي جرت في المُـوصل، ممّـا أضطُـرّ العديد منهم للهجرة إلى منطقة سهل نِـينوى، الواقعة بين أربيل والمُـوصل، وليطالبوا – ربّـما أكثر من أي وقت مضى - بحكومة شِـبه مستقلّـة لعموم المسيحيين في العراق، مقرّها السهل، وتابعة إلى إقليم كردستان.

هذا الشعور شِـبه الانفِـصالي، الذي لم يكُـن يميِّـز مسيحيي العراق في أيٍّ من حِـقب الأزمِـنة الغابرة التي عاشوها، بدأ يتكرّس في ظِـل شعور عارم يُـسيطر حاليا على مُـعظم العراقيين، بأنهم غير قادرين بعدُ مرور أكثر من خمس سنوات على سقوط النظام السابق، على العودة ببلادهم إلى نظام الحُـكم المركزي، وأنهم باتوا مقتنِـعين - على وقع التدخّـلات الإقليمية، وتكريس نظام المحاصصة في كل شؤون العراق، حتى الأكثر تفصيلا منها - أن الفدرالية هي الحل الأمثل (حاليا على الأقل لحين بروز متغيّـرات أخرى لا تبدو في الأفق) ما دام الأكراد ماضين في مشروعهم نحو كردستان الكبرى، والشيعة غير متراجعين عن رغبتهم في إعلان إقليم الوسط والجنوب، والسُـنّـة العرب لا يستبعدون قِـيام حكومتهم في المنطقة الغربية والمُـوصل.

ومنذ عام 2003، تعرض المسيحيون العراقيون للكثير من القَـمع والتّـهجير والقتل والخَـطف على الهوية، وهم الذين يفتخِـرون - على الدّوام - بعِـراقِـيتهم وبهويتهم الوطنية، ويرفضون الضّـياع في الدّول والأصقاع، خِـشية اندماجهم في الدول الأوروبية التي تمنحهم حقّ اللّـجوء الإنساني، بل وتشجِّـعهم عليه.

وقد أدّى الفلتان الأمني – المَـدروس والمنظّـم والمُـوجّـه أيضا حسب مؤشرات متواترة - في عموم العراق، إلى أن يُـهاجر الكثير من المسيحيين إلى خارج بلادهم، إلا أن عددا لا يُـستهان به من رجالاتهم وأحزابهم، لم يتردّد عن طرح مشروع الهِـجرة المسيحية إلى "سهل نينوى"، باعتباره المَـلاذ الآمِـن والوحيد لهم، بينما رفض آخرون الفِـكرة برمّـتها، مشكِّـكين في نجاحها أو أنها ستهيّـئ لحفر المسيحيين مقبرتهم بأيديهم، بسبب وقوع سهل نينوى بين كردستان في الشمال والمُـوصل التي يخشَـون من هيمنة الإسلاميين المتشدّدين عليها في الجنوب.

ويخشى الرّافضون لفِـكرة الوطن الجامع في "سهل نينوى" أن يُتّـهم مسيحيو العراق بأنهم يسعَـون إلى تقسيم العراق، استجابة لأجندة أوروبية أو خارجية، مُـتسائلين عن مصير أشقّـائهم في بغداد، إذا حصل مسيحيّـو الشمال على حقّـهم في إقامة وطن لهم في "سهل نينوى"، وهم يعتقِـدون أن جمع المسيحيين في مُـدن وقُـرى "ســهل نينوى"، يشكِّـل خطرا كبيرا على مستقبلِـهم، خصوصا مع افتقار هذه المِـنطقة إلى أي بُـنى تحتية مَـتينة، وإلى نظام خَـدماتي قد يُـجبِـرهم في مرحلة تالية إلى مغادرة العراق.. أرض آبائهم وأجدادهم، مع ملاحظة أن حِـرمان المسيحيين من التّـواجد في باقي المدن والقرى العراقية، يتعارَض مع الدّستور الذي ساوى بين العراقيين ومنحهم الحقّ في السّـكن والتنقّـل في كل المحافظات العراقية.

أما المؤيِّـدون لفكرة الوطن المسيحي الفدرالي، فهم ينظرون إلى أن هذا المطلب ينطلِـق من شواهِـد يومية يعيشها العراقيون على أرض الواقع، وهو أقل ما يمكن أن يحصل عليه المسيحيون، في حال تطبيق النظام الفدرالي، أو عندما يتِـم تقسيم العراق إلى أقاليم، على أساس مذهبي – ديني وعرقي قومي، لا يستثني المسيحيين في بغداد وبقية المُـدن العراقية الأخرى.

مسيحيو الوطن الكردي!

وفي ضوء ما يجري من تحوّلات خطيرة على وقع السِّـجال القائم بشأن الاتفاقية الأمنية الموعودة مع الولايات المتحدة، وفي أوْج الصِّـراع العربي الكردي التُّـركماني المُـتصاعد حول كركوك وخانقين، يستبعد بعض المراقبين أن يكون تنظيم القاعدة، المعروف بنهجه التكفيري، الجهة التي تقِـف وراء استهداف المسيحيين في الموصل، خصوصا وأن دُعاة الرحيل إلى "سهل نينوى" يرون أن مستقبلهم أفضل مع الكرد لعِـلمانيتهم وأنهم لا يُـمانعون في ضمّ "سهل نينوى" إلى إقليم كردستان.

وقبل تلك المجازِر الوحشية في المُـوصل، نشطت بعض الأحزاب الكلدانية والآشورية والسّريانية، على خطّ تقديم مُـقترحات إلى لجنة إعداد مسودة دستور إقليم كردستان العراق، تطلب فيها منح المسيحيين حُـكما ذاتيا وإلحاق منطقة "سهل نينوى" بالإقليم الكردي.

وجاء في المقترحات التي رفعتها المجموعة إلى لجنة صياغة مسودة دستور إقليم كردستان العراق، "نرحب باعتماد الدستور، الحدود التاريخية والقومية والسياسية للإقليم، بما يضمن للمناطق المجاوِرة الحالية، الالتحاق به والتّـواصل مع باقي أبناء الإقليم".

كما تضمّـنت مطالبهم، اعتماد تسمِـية شاملة لهم هي "الشعب الكلداني – الآشوري - السرياني"، أينما وردت في الدّستور، بدلا من "الكلدان والآشوريين والسريان"، واعتبار الأول من أبريل، رأس السنة القومية للكلدان والآشوريين والسِّريان، عطلة رسمية في إقليم كردستان.

وطالبوا أيضا بتقديم ترتيبهم في المادّة السادسة من دستور الإقليم، بحيث يصنّـفون في مرتبة القومية الثانية بعد الأكراد، بعد أن جاء ترتيبهم ثالثا، بعد الكرد والتركمان، في مسودّة دستور الإقليم.

ووقّـع على المذكّـرة كل من الحزب الوطني الآشوري ومنظمة كلد وآشور للحزب الشيوعي الكردستاني والمنبر الديمقراطي وجمعية الثقافة الكلدانية وحزب بيت نهرين الديمقراطي الآشوري، وهذه التنظيمات تضُـم الأعضاء المسيحيين الأربعة في المجلس الوطني الكردستاني بما يقرّب الصورة ليجعلها أكثر وضوحا عن الجِـهة المستفيدة من تهجير المسيحيين من المُـوصل.

نشير أيضا إلى أن المجلس الوطني لكردستان العراق، ناقش ضمّ "سهل نينوى" إلى الإقليم شِـبه المستقل، غير أن المشكِـلة التي واجهته، هو موقِـف قوميات أخرى، مثل الأيزيديين والعرب والشبك في "سهل نينوى"، الرّافضين الانضمام إلى إقليم كردستان من الأساس، ويشكِّـلون أقلية في منطقة "سهل نينوى".

وتنتشر في المناطق المسيحية هذه الأيام، بيانات لا تخفي التّـهديد، وتوزِّعها جماعات وشخصيات، بعضها مسيحية، وتتحدّث عن تناقص ملحوظ في أعداد المسيحيين في العراق منذ عام 2003 من نحو مليون إلى أقل من 600 ألف، نظرا لهجرتهم المستمرّة، بسبب الأوضاع الأمنية غير المستقرة..

وبعد أن كانت بغداد مستقرّهم، تجمّـع غالبية المسيحيين في "سهل نينوى"، وكأن المطلوب هو إعلان حُـكم ذاتي لهم في شمال العراق، تحت راية الكرد!

إبادة منظمة!

منذ سنوات طويلة، تعرّض الكلدان والآشوريون والسّريان – وهم المسيحيون في العراق – إلى حملات إبادة تكاد تكون منظمة، ولبِـست أثوابا مختلفة يجمعها قاسم مشترك واحد، هو دفعهم إلى الهجرة من بغداد والبصرة والمُـدن الأخرى، مثل دهوك – في كردستان - عندما تعرّض الآشوريون هناك لمجزرة "السميل" (غرب مدينة دهوك)، قُـتِـل فيها أكثر من خمسة آلاف عام 1933. كما شملت حملة الأنفال، التي استخدم النظام العراقي السابق خلالها الأسلحة الكيميائية عام 1988، بلدات مسيحية في إقليم كردستان، وبعضها أُبِـيد بالكامل، وتمّ إعدام الكثير من المسيحيين في بلدات أخرى في الإقليم خلال تلك الحملة.

وقد دفعت "الأنفال" إلى هجرة مسيحية واسعة من العراق إلى الولايات المتحدة وأستراليا وشمال أوروبا وكندا، وأعلنت الجاليات المُـهاجرة من هناك دعمها لمطالِـب المسيحيين في الانضمام إلى إقليم كردستان.

وبعد سقوط نظام صدّام يوم 9 أبريل 2003، نفّـذت جماعات من فِـدائيي صدّام ومنظمات إسلامية متطرّفة، أسّـسها بعثيون ورجال مخابرات النظام السابق، وتنظيم القاعدة أيضا وعصابات مأجورة ومافيات دولية، أعمال عُـنف واسعة استهدَفت المسيحيين، حيث تمّ حرْق متاجِـرهم وخطف الكثير منهم وقتْـلهم، وجرى تهديد المصلِّـين وحرق كنائســهم وقتل رجال الدّين والاســتيلاء على منازلهم، لإجبارهم على الهِـرة خارج البلاد أو إلى "سهل نينوى" ومدن كردســتان.

وتؤكِّـد إحصاءات مَـوثوقة، أن أكثر من ثلاث مائة وخمسين ألف مسيحي اضطروا إلى ترك مُـدنهم وقُـراهم إلى الخارج، وبقي الفاعل – مجهولا - أو في أسهل الحلول، وُجّـه الاتهام إلى - القاعدة وعموم التكفيريين - كما ثبتت ذلك ملفات أجهزة الدولة الرسمية.

حتى التّـفجيرات التي تنفّـذ بشكل متقطّـع في "سهل نينوى"، فقد بات معلوما مَـن يقف خلفها بعد إلغاء الفقرة (50) من قانون انتخاب مجالس المحافظات، المتعلقة بحقوق الأقليات، بحجّـة عدم وجود إحصاءات سُـكانية دقيقة للأقليات القومية والدّينية في العراق. وكانت تلك الأعمال، قد جاءت مباشرة بعد أن استنكرت أحزاب ومنظّـمات سياسية مسيحية، إلغاء الفقرة 50، وهي تتضمّـن منح التمثيل النّـسبي للأقليات الدّينية في العراق.

تكريد سهل المُـوصل!

هناك من يتّـهم الكرد بافتعال الأزمة مع المسيحيين في المُـوصل، بهدف تكريد "سهل المُـوصل"، مشيرين بذلك إلى أن قوات البيشمركة الكردية دخلت المُـوصل في بِـدايات سقوط نظام صدّام، وأن ما جرى من جرائم في سنجار وتلعفر، ربطها البعض بما سموه "المشروع الكردي الكبير"، للسيطرة على المناطق النفطية في محافظة الموصل.

وحيث يملك التّـحالف الكردستاني نفوذا غير عادي في الموصل ويرفض تشكيل قوات الصّـحوة من العشائر العربية، تُـمارس قوات البيشمركة نشاطها في المحافظة، وكأنها جزء من إقليم كردستان.

وليس بعيدا عن المُـوصل ما جرى بالفعل في مناطق أخرى من العراق، حيث بدا واضحا أن الكرد، ومنذ سقوط نظام صدّام، ركّـزوا جهودهم للسيطرة على مناطق واسعة من المحافظة، بذريعة ما أطلقوا عليها "المناطق المُـتنازَع عليها"، وهي تشمل بالطبع "سهل الموصل" ومنطقة سنجار وتلعفر، لضمِّـها إلى فدرالية كردستان، كما حصل على أرض الواقع في سيطرة البيشمركة على مناطق الحمدانية وبعشيقة وبرطلة وبحزاني والقوش والشيخان والرشيدية والجانب الأيسر من مدينة المُـوصل، بزعم أنها جزء من كردستان، وهي مناطق تسكنها أغلبية مسيحية وعربية.

وتمارس البيشمركة ضغوطات شديدة على سكّان هذه المناطق، لإخضاعهم إلى كردستان، ما يدفع إلى الاعتقاد أن الكرد هم من يشجّـع المسيحيين المطالبين بحُـكم ذاتي في "سهل نينوى"، تمهيدا لسيطرة الكرد على المُـوصل، وهي صلة الوصْـل بين العراق ودُول أوروبا، بالإضافة إلى سوريا وتركيا وإيران، كما أن المُـوصل، التي تتمتّـع بثروة نفطية هائلة، إلى جانب الثروات المعدنية الأخرى، وما فيها من أراضٍ زراعية ومياه وفيرة. فهل هو عشاء المسيحيين.. الأخير؟!

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 29/تشرين الأول/2008 - 29/شوال/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م