الأمل الديمقراطي في الخليج

أحمد شهاب

تتجلى إحدى الإضاءات المهمة عند الحديث حول مستقبل الديمقراطية في دول الخليج العربي بصورة خاصة، بانخفاض مستوى التوترات السياسية المتصلة بالمنافسة على الحكم، وخفوت الأصوات الداعية إلى إحداث تغيير شامل وجذري لمصلحة الدعوة إلى الإصلاح من خلال التوافق السياسي والمشاركة في السلطة.

إن استعداد القوى الفاعلة والنشطة للتنازل عن فكرة التغيير الشامل والقول باستحالة التلاقي مع السلطة القائمة، وتضاؤل رغبات استئثار فريق بالحكم على حساب الآخرين هو علامة فارقة تدلل على قابلية القوى السياسية لاستيعاب التحولات الديمقراطية، ويمكن عدها كأحد المؤشرات المهمة على صحة الحياة السياسية وقدرتها على التفاهم والتلاقي والمساومة لمصلحة تحقيق الأهداف العمومية.

لاشك أن هذه الإضاءة متوافرة في أكثر من بلد عربي، لكني أزعم أنها تبدو أكثر بريقا في دول الخليج، على رغم ما يغلفها من انطباعات سلبية، وهي في الحقيقة نتاج أوضاع سياسية واجتماعية شديدة الخصوصية أبرزها «طبيعة حكمها الوراثي، وسطوة العادات والتقاليد»، بالنسبة إلى الحكم الوراثي يجدر بالباحثين ملاحظة أنها لم تعد تمثل أحد الأزمات السياسية في الخليج، بل عدها بعض المختصين في شؤون الخليج وفي الكويت والبحرين على سبيل الحصر عامل استقرار، ولاسيما بعد تضمينها في الدستور، وإن كان ذلك يتفاوت من حيث الدرجة بين دولة خليجية وأخرى، نظراً لما شهدته بعض دول المنطقة من تغيرات سياسية وأيديولوجية لم تشهدها مناطق أخرى بالدرجة نفسها.

إن ما يثار في السنوات الأخيرة من ضرورات التطوير السياسي في الخليج يستهدف في الغالب تطوير وتغيير الحكومات لا الحكم، أما نقد الحكم، فيتركز في لفت نظر الأسر الحاكمة إلى ضرورة تدارك الأخطاء والقصور، وتقديم الكفاءات العلمية والسياسية من أبناء الأسر الحاكمة من جهة، ومن خلال تفعيل أداوت المشاركة العصرية، وقد اقترح بعض الناشطين في دول الخليج صيغة الملكية الدستورية كأحد الحلول التوفيقية بين استمرار الحكم الوراثي ومتطلبات الحداثة السياسية.

أما فيما يخص هيمنة العادات والتقاليد، فإن دخول مجتمعات الخليج المدنية المعاصرة يؤرخ بالنصف الثاني من القرن العشرين، وهو ما يشير إلى تأخرها نسبيا عن ركب المدنية، بالمقارنة مع الكثير من الدول، وهي في المناسبة تُعد من أبرز الشعوب التي قفزت بصورة مفاجئة بفعل الطفرة النفطية من حال إلى آخر.

إن مؤثرات النفط على دول الخليج ليست متساوية في كل الأوقات، فهي في منتصف سبعينيات القرن الفائت مختلفة عن مطلع التسعينيات، وهي الآن في مرحلة جديدة تتأثر إلى جانب النفط بأمور أخرى، منها على سبيل المثال الواقع الاقتصادي المحلي، وأوضاع سوق العمل، والأوضاع الأمنية في المنطقة، وحجم تبادل المصالح والعلاقات مع الدول الكبرى.

هذه الانتقالات السريعة والفجائية لم تكن بلا ثمن، بل لاتزال دول الخليج تعيش صراعا حادا بين الحداثة والتقليد، والجديد والقديم، بين ثقافة راسخة لها جذور عميقة في وجدان الناس، وثقافة عالمية عاصفة تكاد تقتلع الإنسان الخليجي من منبته، وثمة قطاع عريض لايزال يميل إلى التقليدية والبداوة، على رغم لباسه الحديث واستخدامه أحدث المنجزات الحضارية، لكنه فكريا وثقافيا وسياسيا واجتماعيا متلبس بالقبلية، ولا يكاد يجرؤ على الخروج من عباءتها الضيقة.

إن مقاربة مسألة الإصلاح السياسي في دول مجلس التعاون الخليجي من دون قراءة عميقة، تنفذ في تلك الخلفيات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تحكم دول ومجتمعات الخليج، والاكتفاء بمقاربتها بصورة قشرية تبسيطية بعيدة عن تفحص تلك الخصوصيات، يوقع الباحث في أخطاء منهجية، وربما يجد نفسه يحوم في حلقة مفرغة، ويصل إلى نتائج مضللة.

في ظل هذه الخصوصية، إن صح التعبير، لدول ومجتمعات الخليج، ما هي فرص التحول الديمقراطي لديها؟ هل هي متوافرة وممكنة، أم أنها بعيدة المنال كما يقول الكثير من المهتمين بشؤون التحولات الديمقراطية؟ هل يمكن لحكومات وراثية أن تقدم تجربة جديرة بالاهتمام في مسلك الإصلاح السياسي؟

أعتقد أن ذلك ممكن، بل أدعي أن فرص الإصلاح السياسي في الخليج كبيرة، وفسحة التحول إلى دول ديمقراطية لاتزال واسعة، وإن كنت لا أخفي أن في الطريق عثرات ومحاذير، الأمل بإمكانية التحول تعتمد على حجم الرغبة في الاستقرار، بالنسبة إلى الحكومات الوراثية، فإن التغيرات العالمية تضغط عليها في اتجاه تحسين أدائها العام، وإثبات أنها ليست أنظمة مغلقة وتقليدية وبدائية، وأنها قادرة على الحفاظ على مصالح وأمن المنطقة، وهو الأمر الذي لا يتحقق من دون إطلاق بادرة مصالحة تسحب فتيل التوترات الداخلية، وهو الأمر الذي حدث في أغلب دول الخليج بُعيد انتهاء حرب الخليج الثانية، حيث شهدنا إصلاحات حقيقية وأخرى تجميلية، وبعضها لاتزال مستمرة حتى الآن.

من جهة أخرى، فإن القوى السياسية والنشطة أظهرت رغبة حقيقية في المشاركة السلمية من داخل الدولة، وعبرت في أكثر من مناسبة أنها تؤيد الإصلاح من الداخل طالما وجدت أرضياته المناسبة، وقد أثبتت تلك القوى من خلال أدائها في السنوات الأخيرة أنها لا تحمل أجندة انقلابية، أو عُنفية ضد الأنظمة الحاكمة، وكشفت بذلك عن أجندة عمل تتناسب والمرحلة الجديدة، وتتوافق مع الواقع السياسي القائم، حيث لا ترى في الديمقراطية سوى أنها مشروع مشاركة وليس إقصاء لمن يديرون السلطة.

الشعور بالحاجة المتبادلة بين المعارضة والسلطة في دول الخليج، وعدم طغيان أحدهما على الآخر، يمثل صمام الأمان الذي يمكنه أن يكشف عن تجربة سياسية متميزة نسبيا بعيدا عن تجارب الإقصاء السلطوي العربي المتكرر، أو الانقلابات وأعمال العنف العبثية التي تسوق بلدانها عادة إلى كوارث سياسية وصدامات اجتماعية عنيفة.

أما المحاذير فتتلخص في مدى قدرة الحكومات الخليجية على التخلص فعلا من قلق التغيير، والإيمان قولا وعملا بأهمية الانتقال الكامل إلى عصر الحداثة السياسية، ليس لأن الآخرين يريدون منها ذلك، بل لأنها مقتنعة بضرورات التحول، وبأنها دخلت إلى زمن جديد لا يحتمل التوقف أو التراجع إلى الخلف.

* كاتب كويتي

ahmed.shehab@awan.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 26/تشرين الأول/2008 - 26/شوال/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م