التجهيل الثقافي للشباب

وغياب دور الجهات ذات العلاقة

علي حسين عبيد

حين كنا صغارا ثم شبابا، كانت تطرق أسماعنا شعارات وكلمات تشيد بشريحة الشباب وتضعهم في المقدمة من بين شرائح المجتمع، وتعرِّف وتعترف بدورهم المهم في بناء البلدان على الأصعدة كافة، ومن بينها على سبيل المثال إنشودة (نحن الشباب لنا الغد) والأصح هو (نحن الشباب لنا الحاضر والغد/ وإن اختلَّ الوزن الشعري) وكان يوازي هذا التحشيد الكلامي فعل يقل كثيرا عن المستوى المطلوب من لدن الحكومات والجهات المدنية الأخرى المعنية بالشباب وأنشطتهم.

 فالى جانب الشعارات والأناشيد في الإذاعة والمدرسة والتلفزيون والصحيفة الفلانية او النشرة الجدارية المدرسية او الجامعية التي تشدُّ في عضد الشباب وتشيد بدورهم، الى جانب ذلك كان الفعل في التنظيم والتحشيد والإرشاد خاملا وسلبيا في أفضل حالاته والحلول المناسبة غائبة عن عيون واذهان المخططين وأولي الأمر، ما أدى الى تدني دور بل أدوار شريحة الشباب في تحريك الحياة العراقية وتصعيدها الى مصاف حيوية المجتمعات النشيطة، واذا كانت هناك بعض الفعاليات الشبابية الرياضية التي تُعدّ في رأينا برغم اهميتها شكلية مثل المخيمات الكشفية وما شابه، فإن الفعاليات الثقافية الشبابية الإرشادية العملية تكاد تكون معدومة كما ان التخطيط لاشاعة ونشر ثقافة السلوك الشاملة أمر لم يخطر على بال، وحين يتساءل المرء عن سبب هذه اللامبالاة والاهمال مع سبق الاصرار لشريحة الشباب ولجانب مهم من جوانب الحياة، كانت الاجابة الحاضرة في حينها (وحتى الآن) تأتي على شكل تبريرات غير مجزية وغالبا ما تركّز على ان الحكومات والجهات ذات العلاقة مهتمة بما هو أهم من شؤون الشباب (كحماية الأمن الوطني مثلا) والحاجة أولويات كما كانوا يقولون متناسين أن الأولوية القصوى في بناء الشعوب والأمم تكمن في تثقيف الشباب وتحصينهم بمنظومة ثقافية شاملة، وهكذا على مدى عقود متعاقبة أهمل المسؤولون العراقيون في الدولة العراقية الحديثة (حكومات العراق المتعاقبة ومنظماته الأهلية بدرجة أقل) شريحة الشباب وخاصة في الجانب الثقافي، واذا اتفقنا على ان الثقافة هي ليست معرفة مجردة ومعزولة عن واقع الانسان العملي، واذا عرفنا بأنها منظومة سلوك شاملة لا تتحدد بمجال واحد من مجالات الحياة، واذا آمنا بأنها تمتد لتشمل الشعر والسرد والفن بفروعه وانواعه المتعددة وأنماط الكلام وأنواع السلوك قولا وفعلا والأكل والملبس وما شاكل ذلك، عند ذاك سنعرف أهمية الثقافة في حياة المجتمع.

 واذا كانت شريحة الشباب هي القطب المركزي المحرِّك للشرائح الأخرى عند ذاك سنقرُّ بأولوية المراعاة والتثقيف لهذه الشريحة، فلقد ربط المتخصصون حيوية الأمم والشعوب بحجم شريحة الشباب ودورهم، أي كلما شكلت هذه الشريحة نسبة أكبر من بين الشرائح الأخرى في تكوين المجتمع كلما كان الأخير أكثر حيوية واستعدادا للبناء والعطاء والتطور المتواصل، هنا نستطيع القول بأن العلاقة بين تطور الشباب وتقدم المجتمع وازدهاره عموما ستكون علاقة طردية قطعا، فأي إهمال لهذه الشريحة هو إهمال ونكوص لشرائح المجتمع عامة وأي اهتمام بها هو اهتمام ونهوض بمكونات المجتمع كافة.

وهنا نتساءل: هل اهتم المعنيون وخاصة الرسميون (الحكومة والوزارات المختصة/ والمنظمات ذات الشأن) بالشباب العراقي وتثقيفه بما يثبت الحرص عليهم وعلى الشعب عموما؟!.

وقبل الإجابة سنستعرض بعض حالات التسطيح الثقافي التي عاشها ولا يزال شباب العراق الى الآن، فلقد عانت هذه الشريحة من التهميش والتخريب الذوقي والأخلاقي المخطط او العشوائي (وخاصة موجات السلوك الوافدة) وفي كلا الحالتين كان الخاسر الأكبر هو المجتمع برمته، وكلنا نتذكر عقود الكبت والحرمان والحصارات التي مرت على العراق وعلى مكونات المجتمع ومن بينهم شبابه وأكثرنا يعرف حجم الكارثة (السايكلوجية) التي تلبَّست النفوس وسلوكها، فالعزلة القسرية التي تعرض لها العراقيون لأكثر من عقد من السنوات (من مطلع تسعينيات القرن الماضي حتى مطالع الألفية الراهنة) وهي أوج سنوات التطور التقني العالمي وخاصة في مجال الاتصالات، هذه العزلة فعلت فعلها المحسوب تماما في نفوس الشباب (خاصة) وأخلاقياتهم وأفعالهم، فلقد نشأ لدينا أكثر من جيل من الشباب يعاني من مشاكل نفسية جوهرية تتوزع على الخمول واليأس والانطواء والاستعداد الآلي لأنواع كثيرة من الانحراف السلوكي وقتل روح المبادرة لديهم، وتمخضت هذه العزلة عن (عزلات) متعددة، منها العزلة التي فصلت بين الشباب وبين الأدب المقروء او المسموع مثلا، ففي مطالع السبعينات أتذكر وانا في  في مطالع الشباب أيضا (غامرت) وسافرت من مدينتي البعيدة نسبيا صحبة احد اصدقائي الذي يصغرني سناً ( وهو شاعر عراقي معروف الآن) الى بغداد العاصمة (وهذه الخطوة تعتبر مغامرة في ذلك الوقت والعمر ايضا) وقضينا يوما كاملا نتجول بين شارع المتنبي وسينما غرناطة ومكتبات شارع السعدون ومعهد الفنون الجميلة وغاليري للفن التشكيلي في الباب الشرقي وما شابه ذلك من علامات الحياة النابضة المتحركة في ذلك الحين وعدنا معا بخزين حياتي معرفي لم ينضب حتى هذه اللحظة، لقد كانت هذه المغامرة الصغيرة سببا ودافعا في تعلقنا بالأدب والفن لدرجة اننا لم نتركهما حتى هذه اللحظة بل أصبحا رافدين مهمين في حياتنا وآفاقها المتعددة، وما أريد أن أصل إليه، ان مثل هذه الخطوة لم يقدم عليها لا ابني ولا شاب آخر من اقرانه، ثمة انطفاء شبه تام في روح المغامرة او البحث او التطلع الى الغد، وثمة عزلة مقيتة صنعتها أطراف ظاهرة وخفية بين الشباب وبين التطلع الى حياة أفضل، وفي جلسة جمعتني بعميد كلية التربية في جامعة كربلاء قبل اعوام، دخل شاب يروم التعيين في الكلية وحين سأله العميد على سبيل الاختبار إذا كان يعرف شيئا عن شخص اسمه (بدر شاكر السياب) فأجاب: أعتقد انه مغني عراقي ؟!!، إن هذا التجهيل المتعمد او غير المقصود تتحمله الحكومات بالدرجة الأولى، فإذا نظرنا الآن الى واقع حال الشباب فماذا سنكتشف على أرض الواقع ؟

 إن مشكلات الشباب تضاعفت قطعا في ظل التبريرات الجديدة القديمة، وفي ظل غلق الأبواب جميعا إلاّ باب العسكرة، الى أين يتجه الشباب العاطل غير المثقف، ان المعنيين في ظروف كهذه حين يتخلون عن الشباب وفي الوقت نفسه يجاهرون بوجوب تطوير مهاراتهم وثقافتهم إنما يعملون على تهميش الشباب بل المجتمع برمته، والأسوأ والأكثر خطورة حين يعزّ الباب الأوحد (عسكرة الشباب) على الشباب ويصبح دخوله ببطاقة (رشوة باهضة) قبلها الناس على مضض وتعاملوا معها كواقع حال متداوَل لا مناص من قبوله والتعامل معه.

وهكذا سنقرّ قطعا بأن المسؤولية وإنْ تركّزت على عاتق الجهات الرسمية المتخصصة في التعامل مع أزمات الشباب، إلاّ انها ستكون  شاملة وموزعة على الرسميين والأهليين من ذوي الشأن (منظمات محلية ودولية وما شابه)، فالنهوض بواقع هذه الشريحة هو نهوض بالمجتمع عامة كما سبق القول ولعل الأمر يتطلب شيئا من الاخلاص للنفس وللمجتمع في آن والشعور بالمواطنة الحقة، فلو وعى المسؤول الفلاني بأن ابنه الشاب او ابنته الشابة هما جزء من نسيج الشباب العراقي الشامل وان الخرق والتهشم الذي يحدث في مكان ما من هذا النسيج سيعود بالضرر على إبنته وولده مثلما سيمس غيرهما من الشباب ولو فكرنا جميعا بهذا المنطق رعية ورعاة، وهي نتائج يجب أن نقر بها ونحسب حسابها، عند ذاك ستتقلص مساحة الاخطاء كثيرا، وسوف نتخلص رويدا من حالات الاتكال واللاّمبالاة وتفضيل الذات والنفعية الشخصية وما شابه، وهي في مجملها أمراض اجتماعية تفتك بالشرائح كافة وإن كان الشباب هم الأكثر تضررا بها.

ولعل خاتمة هذه الكلمة يمكن أن تتجمَّل بالإشارة الى أهمية تأسيس وتطوير المنظمات الرسمية او الأهلية المدعومة من الجهات ذات الشأن التي تضم خبراء مخلصين (عراقيين وغيرهم) يأخذون على عاتقهم تدارس أحوال هذه الشريحة وواقعها المؤسف وتعمل على إدراج وتنفيذ البنود الإجرائية المناسبة التي يمكن ان تنتشل الشباب من خوائهم الفعلي والثقافي ونقصد هنا (منظومة السلوك والتفكير)، وبهذه الخطوة ومثيلاتها سنصل الى شريحة شباب فاعلة حيوية متوازنة لها القدرة على بث الحياة في (جسدها) أولا ثم تمتد فاعليتها لتغذي عموم الجسد العراقي المثقل بالفوضى والخمول.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 12/تشرين الأول/2008 - 12/شوال/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م