فوكوياما: رأسمالية رعاة البقر تقود العالم إلى الهاوية

شبكة النبأ: يرى فرانسيس فوكوياما صاحب نظرية نهاية التاريخ والأستاذ في الاقتصاد السياسي الدولي في كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة في مقال له نشر في مجلة نيوزويك الامريكية الاسبوعية ان رأسمالية رعاة البقر  أي الاقتصاد الأمريكي يهدد بجر بقية العالم إلى الهاوية معه. والأسوأ من ذلك أن الخطأ يقع على النموذج الأمريكي أما الديموقراطية فقد تلطخت سمعتها قبل ذلك. ويرى فوكوياما أن نمو الاقتصاد الأمريكي بالسرعة نفسها في عهدي كلنتون وريغان لم يزعزع ثقة المحافظين بأن التخفيضات الضريبية هي مفتاح النمو. والأهم من ذلك أن العولمة أخفت عيوب هذا التفكير طوال عقود. بدا أن الأجانب مستعدون لاقتناء الدولارات الأمريكية إلى ما لا نهاية، مما أتاح للحكومة الأمريكية أن تعاني عجزا ماليا وتستمر في التمتع بمعدل نمو عال، وهو أمر لا يمكن لأي بلد نام مجاراته. كما بعض البلدان مثل تايلند وكوريا الجنوبية امتثلت للنصائح والضغوط الأمريكية، وحررت أسواقها المالية في أوائل تسعينات القرن الماضي. وبدأ الكثير من الأموال بالتدفق بسرعة إلى اقتصاداتها، مما أدى إلى فقاعة سببها المضاربة، لتعود هذه الأموال وتسحب منها عند أول مؤشر إلى حدوث مشكلة. وايضا ازداد التفاوت الاجتماعي في الولايات المتحدة خلال العقد الماضي، لأن الأرباح المتأتية من النمو الاقتصادي ذهبت للأمريكيين الأكثر ثراء والأكثر تعلما بشكل غير متكافئ، في حين أن مداخيل الطبقة العاملة شهدت ركودا.

ويضيف فوكوياما: المشكلة الآن هي أنه من خلال استغلال الديموقراطية لتبرير حرب العراق، أوحت إدارة بوش للكثيرين أن "الديموقراطية" هي كلمة السر للتدخل العسكري وتغيير الأنظمة حيث الشرق الأوسط بشكل خاص بمنزلة حقل ألغام لأي إدارة أمريكية، لأن أمريكا تدعم حلفاء غير ديموقراطيين مثل السعوديين، وترفض العمل مع مجموعات مثل حماس وحزب الله وصلت إلى الحكم من خلال الانتخابات. مصداقيتنا مشكوك فيها عندما ندعو إلى تحقيق "أجندة الحرية". لقد تم تلطيخ النموذج الأمريكي إلى حد كبير أيضا بسبب استعمال إدارة بوش لوسائل التعذيب. بعد هجمات 11 سبتمبر، برهن الأمريكيون بشكل مخيف على أنهم مستعدون للتخلي عن حقوقهم الدستورية من أجل أمنهم. ويرى فوكوياما ان امريكا عالميا، لن تستمتع بموقعها الاستبدادي الذي احتلته حتى الآن، حيث ستتضاءل قدرة أمريكا على تحديد مسار الاقتصاد العالمي وكذلك ستتضاءل مواردها المالية. وفي مناطق كثيرة من العالم، ستحظى الأفكار والمشورة الأمريكية وحتى المساعدات الأمريكية باستقبال أقل حفاوة مما هو عليه حاليا.

ويختم فكوياما كلامه بالقول إن الاختبار الأهم أمام النموذج الأمريكي سيتمثل في قدرته على إعادة صياغة نفسه من جديد. وإيجاد المنتج المناسب الذي تحتاج إليه الأسواق. سيكون الطريق صعبا أمام الديموقراطية الأمريكية.

مع تداعي بعض أشهر الشركات في وول ستريت، تداعت أيضا النظرة العامة للرأسمالية

يقول فوكوياما في مقاله:

 تداعي أشهر البنوك الاستثمارية الأمريكية. وخسارة أكثر من تريليون دولار من قيمة سوق الأسهم في يوم واحد. وفرض فاتورة بقيمة 700 مليار دولار على دافعي الضرائب الأمريكيين: حجم انهيار وول ستريت. برعب قد يكون أضخم من ذلك. لكن في حين أن الأمريكيين يتساءلون لماذا عليهم أن يدفعوا مبالغ ضخمة كهذه لمنع اقتصادهم من الانهيار، فإن قلة منهم تناقش كلفة غير ملموسة لكن أكبر ربما سيتعين على الولايات المتحدة أن تدفعها، وهو الضرر الذي يتسبب به الانهيار المالي «لسمعة» أمريكا.

الأفكار هي إحدى أهم صادراتنا. وهناك فكرتان أمريكيتان طغتا على التفكير العالمي منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي عندما انتخب رونالد ريغان رئيسا. الأولى كناية عن نظرة معينة للرأسمالية، قوامها أن الضرائب المنخفضة والقيود الخفيفة والحكومة الصغيرة ستحفز النمو الاقتصادي. وقد عكست فلسفة ريغان الاقتصادية نزعة إلى توسيع الحكومة دامت قرنا. وأصبحت إزالة القيود النزعة القائمة، ليس فقط في الولايات المتحدة بل في كل أنحاء العالم.

الفكرة الثانية الكبيرة هي أن أمريكا داعمة وناشرة للديموقراطية الليبرالية في العالم، وهو ما كان يعتبر السبيل الأفضل إلى نظام دولي أكثر ازدهارا وانفتاحا. لم تكن قوة ونفوذ أمريكا مرتبطين بدباباتنا وعملتنا فحسب، بل بواقع أن معظم الناس كانوا منجذبين إلى نموذج أمريكا في الإدارة الحكومية وأرادوا أن يغيروا مجتمعاتهم بطريقة مشابهة، وهو ما أطلق عليه العالم السياسي جوزف ناي اسم "القوة الناعمة".

يصعب تصور الكيفية التي سقطت بها مصداقية هذه الميزات الأساسية للنموذج الأمريكي. بين عامي 2002 و2007، فيما كان العالم يتمتع بفترة غير مسبوقة من النمو، كان من السهل تجاهل هؤلاء الاشتراكيين الأوروبيين والشعبويين الأمريكيين اللاتينيين الذين كانوا ينددون بالنموذج الاقتصادي الأمريكي واصفين إياه بـ"رأسمالية رعاة البقر". لكن محرك هذا النمو، أي الاقتصاد الأمريكي، خرج الآن عن سكته، ويهدد بجر بقية العالم إلى الهاوية معه. والأسوأ من ذلك أن الخطأ يقع على النموذج الأمريكي نفسه: فواشنطن التي اتبعت شعار الحكومة الصغيرة، فشلت في تنظيم القطاع المالي بشكل مناسب وأتاحت له أن يلحق ضررا كبيرا ببقية المجتمع.

تلطخ سمعة الديمقراطية

ويرى فوكوياما:أما الديموقراطية فقد تلطخت سمعتها قبل ذلك. حالما ثبت أن صدام لا يمتلك أسلحة دمار شامل، سعت إدارة بوش لتبرير حرب العراق من خلال ربطها بـ"أجندة حرية" أوسع نطاقا» فجأة أصبح نشر الديموقراطية سلاحا أساسيا في الحرب ضد الإرهاب. وبالنسبة إلى الكثير من الناس في أنحاء العالم، أصبح الخطاب الأمريكي عن الديموقراطية يبدو بشكل متزايد كعذر لتعزيز الهيمنة الأمريكية.

الخيار الذي نواجهه الآن يتعدى خطة الإنقاذ الكبير، أو الحملة الانتخابية الرئاسية. فسمعة أمريكا تحت المجهر في وقت تبدو نماذج أخرى ــ سواء كان النموذج الصيني أو الروسي ــ أكثر جاذبية. إن استعادة سمعتنا الطيبة وإعادة إحياء جاذبية نموذجنا تشكلان، لأسباب كثيرة، تحديا كبيرا يوازي تحدي إرساء الاستقرار في قطاعنا المالي. باراك أوباما وجون ماكين سيجلبان معهما ميزات مختلفة لمكافحة الأزمة. لكن المسألة ستكون صعبة على كليهما وسيستغرق حلها سنوات. ولا يمكننا حتى البدء بإصلاح الأمور قبل أن نفهم جيدا ما الذي حدث، ما هي الميزات الحسنة للنموذج الأمريكي، وما هي الميزات التي أسيء تطبيقها وتلك التي يجب التخلي عنها بالكامل.

أشار الكثير من المعلقين إلى أن انهيار وول ستريت شكل نهاية حقبة ريغان. وهم محقون في ذلك بلا شك، حتى وإن تم انتخاب ماكين رئيسا في نوفمبر. الأفكار العظيمة وليدة إطار حقبة تاريخية معينة. وقلة من هذه الأفكار يمكنها الاستمرار عندما يتغير الإطار إلى حد كبير، وهذا هو سبب انتقال النزعات السياسية من اليسار إلى اليمين والعكس بالعكس في دورات تدوم جيلا.

فلسفة ريغان (أو بشكلها البريطاني، فلسفة تاتشر) كانت صالحة في زمنها. منذ الخطة الاقتصادية الجديدة التي اقترحها فرانكلين روزفلت في ثلاثينات القرن الماضي، توسعت الحكومات في كل أنحاء العالم أكثر فأكثر. وبحلول سبعينات القرن الماضي، تبين أن الأنظمة التي تقدم خدمات اجتماعية واسعة لمواطنيها والأنظمة ذات الاقتصادات الكبيرة التي تقوضها البيروقراطية غير فعالة أبدا. حينذاك كان الحصول على خطوط هاتف أمرا مكلفا وصعبا، والسفر بالطائرات من وسائل الترف المحصورة بالأغنياء، وكان معظم الناس يضعون مدخراتهم في حسابات مصرفية ذات فوائد متدنية تحددها الدولة. وكانت برامج مثل "برنامج مساعدة العائلات ذات الأولاد" تشجع العائلات الفقيرة على عدم العمل وعدم المحافظة على الزواج، وتفككت العائلات. ثورة ريغان تاتشر سهلت استخدام وصرف العمال، مسببة ألما كبيرا مع تقلص الصناعات التقليدية أو إقفالها. لكنها مهدت السبيل أيضا لما يقارب ثلاثة عقود من النمو ولبروز قطاعات جديدة مثل قطاع تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الحيوية.

على الصعيد الدولي، ترجمت ثورة ريغان إلى "إجماع واشنطن" الذي حثت واشنطن بموجبه ــ وكذلك المؤسسات التي تقع تحت سيطرتها، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ــ البلدان النامية على تحرير اقتصاداتها. في حين يتم انتقاد إجماع واشنطن باستمرار من قبل الشعبويين أمثال هوغو تشافيز رئيس فنزويلا، فقد نجح في تخفيف الألم الناتج عن أزمة القروض في أمريكا اللاتينية في أوائل ثمانينات القرن الماضي، عندما كانت بلدان مثل الأرجنتين والبرازيل تعاني تضخما مفرطا. والسياسات المماثلة المؤيدة للأسواق الحرة هي التي حولت الصين والهند إلى قوتين اقتصاديتين كبيرتين اليوم.

وإذا كان أحد بحاجة إلى المزيد من الدلائل، ما عليه سوى النظر إلى النماذج الأكثر تطرفا للحكومات الكبيرة، الاقتصادات القائمة على تخطيط مركزي في بلدان الاتحاد السوفييتي السابق وغيرها من الدول الشيوعية. بحلول سبعينات القرن الماضي، كانت متخلفة عن غريماتها الرأسمالية في كل النواحي تقريبا. انهيارها بعد سقوط جدار برلين أكد أن مثل هذه البلدان التي تفرط في تقديم الخدمات الاجتماعية لسكانها أصبحت من الماضي.

ثورة ريغان هي السبب

ويضيف فوكوياما: على غرار كل الحركات التغييرية، فإن ثورة ريغان ضلت طريقها لأنها أصبحت بالنسبة إلى الكثير من مؤيديها إيديولوجية لا يمكن التشكيك فيها، ولم تعد ردة فعل براغماتية على إفراطات دولة الخدمات الاجتماعية. كان هناك مفهومان مقدسان: أولا، إن التخفيضات الضريبية تمول نفسها بنفسها، وثانيا، إن الأسواق المالية قادرة على تنظيم نفسها بنفسها.

قبل ثمانينات القرن الماضي، كان المحافظون محافظين ضريبيا، أي إنهم كانوا غير مستعدين لإنفاق أكثر مما تدر الضرائب. لكن فلسفة ريغان الاقتصادية أطلقت الفكرة القائلة إن أي تخفيض ضريبي سيحفز النمو لدرجة أن الحكومة ستجني أموالا أكثر في النهاية (وهو ما يسمى بمنحنى لافر). في الواقع، النظرة التقليدية كانت هي الصائبة: إذا خفضت الضرائب من دون تخفيض الإنفاق، فسيؤدي ذلك إلى عجز مؤذ. لذلك أدت التخفيضات الضريبية في عهد ريغان في ثمانينات القرن الماضي إلى عجز كبير وأدت زيادة الضرائب في تسعينات القرن الماضي في عهد كلنتون إلى فائض: كما أن تخفيضات بوش الضريبية في أوائل القرن الـ21 أدت إلى عجز أكبر. غير أن نمو الاقتصاد الأمريكي بالسرعة نفسها في عهدي كلنتون وريغان لم يزعزع ثقة المحافظين بأن التخفيضات الضريبية هي مفتاح النمو.

والأهم من ذلك أن العولمة أخفت عيوب هذا التفكير طوال عقود. بدا أن الأجانب مستعدون لاقتناء الدولارات الأمريكية إلى ما لا نهاية، مما أتاح للحكومة الأمريكية أن تعاني عجزا ماليا وتستمر في التمتع بمعدل نمو عال، وهو أمر لا يمكن لأي بلد نام مجاراته. لهذا السبب، يزعم أن نائب الرئيس ديك تشيني قال للرئيس بوش في مرحلة مبكرة إن الدرس المستقى من ثمانينات القرن الماضي هو أن "العجز لا يهم".

المفهوم المقدس الثاني في عهد ريغان ــ وهو إزالة القيود المالية ــ حصل على الدعم من قبل تحالف غير متوقع من المؤمنين الحقيقيين به ومؤسسات وول ستريت، وبحلول تسعينات القرن الماضي اعتبره الديموقراطيون أيضا أمرا مقدسا. جادلوا بأن القوانين التنظيمية القديمة مثل قانون غلاس ستيغل الذي يعود إلى حقبة الركود (والذي فصل بين البنوك التجارية والبنوك الاستثمارية) كانت تقوض الإبداع وتنافسية المؤسسات المالية الأمريكية. كانوا محقين، فإزالة القيود هي التي أدت إلى ابتكار مشتقات مالية جديدة مثل الأسهم المدعومة بقروض، التي هي المسبب الأساسي للأزمة الحالية. بعض الجمهوريين لم يستوعبوا هذا الأمر بعد، وهذا جلي من خلال البديل الذي اقترحوه لخطة الإنقاذ، الذي تضمن تخفيضات ضريبية إضافية لصناديق التحوط.

المشكلة هي أن وول ستريت مختلفة تماما عن وادي السليكون مثلا، حيث قلة القيود القانونية مفيدة حقا. إن المؤسسات المالية ترتكز على الثقة، التي لا يمكن أن تتنامى إلا إذا حرصت الحكومات على أن تكون شفافة، وعلى أن يكون اتخاذها للمخاطر محدودا لأنها تستعين بأموال الآخرين. القطاع مختلف أيضا لأن انهيار مؤسسة مالية لا يضر فقط بالمساهمين فيها وموظفيها، بل بمجموعة من الأبرياء الذين لا علاقة لهم بها أيضا (وهو ما يسميه علماء الاقتصاد بأسف "التأثيرات الخارجية السلبية").

الدلائل على أن ثورة ريغان انحرفت بشكل خطير عن مسارها بدت جلية خلال العقد الماضي. أحد المؤشرات التحذيرية كان الأزمة المالية الآسيوية عامي 1997 و1998. فبعض البلدان مثل تايلند وكوريا الجنوبية امتثلت للنصائح والضغوط الأمريكية، وحررت أسواقها المالية في أوائل تسعينات القرن الماضي. وبدأ الكثير من الأموال بالتدفق بسرعة إلى اقتصاداتها، مما أدى إلى فقاعة سببها المضاربة، لتعود هذه الأموال وتسحب منها عند أول مؤشر إلى حدوث مشكلة. هل يبدو ذلك مألوفا؟ في غضون ذلك، كانت بلدان مثل الصين وماليزيا التي لم تمتثل للنصيحة الأمريكية وأبقت أسواقها المالية مغلقة أو خاضعة لتنظيم صارم تجد نفسها أقل عرضة بكثير للضرر.

الإشارة التحذيرية الثانية تمثلت في تفاقم العجز الأمريكي. لقد بدأت الصين وعدد من البلدان الأخرى بشراء الدولارات الأمريكية بعد عام 1997 كجزء من استراتيجية متعمدة لتخفيض قيمة عملاتها وإبقاء معاملها شغالة وحماية نفسها من الاضطرابات المالية. هذا كان مناسبا لأمريكا بعيد هجمات 11 سبتمبر» وعنى أن بإمكاننا تخفيض الضرائب وتمويل إفراطنا الاستهلاكي ودفع كلفة حربين غاليتي الثمن من دون حل مشكلة العجز في الوقت نفسه. العجز التجاري الهائل والمتزايد المتأتي من ذلك ــ 700 مليار دولار سنويا بحلول عام 2007 ــ كان يفوق قدرتنا على الاحتمال بشكل واضح» عاجلا أم آجلا كان الأجانب سيقررون أن أمريكا ليست ذلك المكان المثالي لإيداع أموالهم. وانخفاض سعر صرف الدولار الأمريكي يشير إلى أننا وصلنا إلى هذه النقطة. من الواضح أن للعجز أهمية، بشكل يناقض رأي تشيني.

حتى في الداخل، كانت هناك مساوئ واضحة لإزالة القيود قبل انهيار وول ستريت بوقت طويل. في كاليفورنيا، ارتفعت تعرفة الكهرباء بشكل خارج عن السيطرة عامي 2000 و2001 نتيجة لرفع القيود في سوق الطاقة في الولاية، وهذا ما استغلته شركات عديمة الأخلاق مثل "إنرون" لجني الأرباح. إنرون نفسها، فضلا عن مجموعة من الشركات الأخرى، أفلست عام 2004 لأنه لم يتم تطبيق معايير المحاسبة بشكل جيد. وازداد التفاوت الاجتماعي في الولايات المتحدة خلال العقد الماضي، لأن الأرباح المتأتية من النمو الاقتصادي ذهبت للأمريكيين الأكثر ثراء والأكثر تعلما بشكل غير متكافئ، في حين أن مداخيل الطبقة العاملة شهدت ركودا. وأخيرا، كشف احتلال العراق بشكل أخرق وردة الفعل على إعصار كاترينا الضعف الكامل للقطاع العام، نتيجة لعقود من التمويل غير الكافي والمكانة المتدنية للموظفين الحكوميين بدءا من عهد ريغان وصولا إلى الفترة الحالية.

كل هذا يشير إلى أن عهد ريغان كان يجب أن ينتهي قبل الآن. لكنه بقي قائما جزئيا بسبب الحزب الديموقراطي الذي فشل في تقديم مرشحين مقنعين وحجج منطقية، لكن أيضا بسبب جانب خاص بالولايات المتحدة يجعل بلدنا مختلفا كثيرا عن أوروبا. هناك، المواطنون الأقل تعلما من الطبقة العاملة يصوتون لأحزاب اشتراكية وشيوعية وغيرها من الأحزاب ذات الميول اليسارية، وفقا لمصالحهم الاقتصادية. في الولايات المتحدة، يصوتون إما لليسار أو اليمين. فقد شكلوا جزءا من التحالف الديموقراطي الكبير الذي أقامه روزفلت خلال حقبة الخطة الاقتصادية الجديدة، وهو تحالف بقي قائما خلال حقبة "المجتمع العظيم" في ظل حكم ليندن جونسون في ستينات القرن الماضي. لكنهم بدأوا يصوتون لمصلحة الحزب الجمهوري خلال سنوات حكم نيكسون وريغان، وانتقلوا للتصويت لكلنتون في تسعينات القرن الماضي، ومن ثم عادوا لتأييد الحزب الجمهوري في عهد جورج دبليو بوش. إنهم يصوتون للحزب الجمهوري عندما تتغلب مسائل ثقافية مثل الدين والوطنية والقيم العائلية وحق اقتناء الأسلحة على المخاوف الاقتصادية.

هذه المجموعة من الناخبين ستقرر نتيجة انتخابات نوفمبر، لا سيما أنها مركزة في حفنة من الولايات المحورية مثل أوهايو وبنسلفانيا. هل سيميلون إلى أوباما الذي درس في جامعة هارفارد ولا يشاركهم الكثير من اهتماماتهم لكنه يعكس بشكل أدق مصالحهم الاقتصادية؟ أو هل سيؤيدون أشخاصا يشعرون بأنهم أقرب إليهم، مثل ماكين وسارة بالين؟ تطلب الأمر أزمة اقتصادية ضخمة من عام 1929 وحتى عام 1931 لإيصال إدارة ديموقراطية إلى الحكم. وتشير استطلاعات الرأي إلى أننا ربما وصلنا إلى نقطة مماثلة في أكتوبر 2008.

تناقض القيم

يرى فوكوياما ان: المكون الأساسي الآخر للنموذج الأمريكي هو الديموقراطية واستعداد الولايات المتحدة لتأييد الدول الديموقراطية الأخرى في أنحاء العالم. هذه النزعة المثالية في السياسة الخارجية الأمريكية بقيت ثابتة خلال القرن الماضي، بدءا من عصبة الأمم في عهد وودرو ويلسون وصولا إلى الحريات الأربع في عهد روزفلت وانتهاء بمطالبة ريغان ميخائيل غورباتشيف بـ"هدم هذا الحائط".

نشر الديموقراطية ــ من خلال الدبلوماسية وتقديم المساعدة للمجموعات الاجتماعية المدنية وتحرير الإعلام وما شابه ــ لم يكن قط موضع جدال. المشكلة الآن هي أنه من خلال استغلال الديموقراطية لتبرير حرب العراق، أوحت إدارة بوش للكثيرين أن "الديموقراطية" هي كلمة السر للتدخل العسكري وتغيير الأنظمة. (الفوضى التي تبعت غزو العراق لم تساعد على الحفاظ على صورة الديموقراطية أيضا). الشرق الأوسط بشكل خاص بمنزلة حقل ألغام لأي إدارة أمريكية، لأن أمريكا تدعم حلفاء غير ديموقراطيين مثل السعوديين، وترفض العمل مع مجموعات مثل حماس وحزب الله وصلت إلى الحكم من خلال الانتخابات. مصداقيتنا مشكوك فيها عندما ندعو إلى تحقيق "أجندة الحرية".

لقد تم تلطيخ النموذج الأمريكي إلى حد كبير أيضا بسبب استعمال إدارة بوش لوسائل التعذيب. بعد هجمات 11 سبتمبر، برهن الأمريكيون بشكل مخيف على أنهم مستعدون للتخلي عن حقوقهم الدستورية من أجل أمنهم. وقد حل خليج غوانتانامو والسجناء الذين وضعت قلنسوات على رؤوسهم في أبو غريب مكان تمثال الحرية كرموز لأمريكا في نظر الكثير من غير الأمريكيين.

أيا كان الفائز في الانتخابات الرئاسية بعد شهر، فسيكون الانتقال إلى دورة جديدة من السياسة الأمريكية والعالمية قد بدأ. من المرجح أن الأكثرية التي يتمتع بها الحزب الديموقراطي في مجلسي النواب والشيوخ ستزداد أعدادها. الغضب الشعبي عارم مع انتشار تداعيات انهيار وول ستريت التي بدأت تطول حياة عامة الشعب. وهناك إجماع متزايد على ضرورة إعادة تنظيم أقسام كثيرة من الاقتصاد.

عالميا، لن تستمتع الولايات المتحدة بموقعها الاستبدادي الذي احتلته حتى الآن، وغزو روسيا لجورجيا في 7 أغسطس يعكس ذلك. سوف تتضاءل قدرة أمريكا على تحديد مسار الاقتصاد العالمي من خلال معاهدات تجارية وعبر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وكذلك ستتضاءل مواردنا المالية. وفي مناطق كثيرة من العالم، ستحظى الأفكار والمشورة الأمريكية وحتى المساعدات الأمريكية باستقبال أقل حفاوة مما هو عليه حاليا.

في ظل ظروف كهذه، من هو المرشح الذي سيكون في موقع أفضل لإعادة تعزيز صورة أمريكا؟ من الواضح أن باراك أوباما هو الأقل ارتباطا بالأحداث الأخيرة، ويسعى بأسلوبه غير الحزبي إلى تخطي الشقاقات السياسية الحالية. في صميمه، يبدو واقعيا وليس إيديولوجيا. لكن سيتم اختبار قدراته على تشكيل الائتلافات عندما يحين الوقت لاتخاذ خيارات صعبة، وعليه أن يقنع ليس فقط الجمهوريين بل الديموقراطيين المتمردين أيضا. ماكين من جهته تكلم مثل تيدي روزفلت في الأسابيع الأخيرة متهجما على وول ستريت ومطالبا باستقالة كريس كوكس رئيس لجنة مراقبة عمليات البورصة. قد يكون الجمهوري الوحيد القادر على نقل حزبه على مضض إلى حقبة ما بعد ريغان. لكن يخيل للمرء أنه لم يقرر بعد أي نوع من الجمهوريين هو حقا، أو ما هي المبادئ التي ستحدد أمريكا الجديدة.

ما هو الحل؟

ويرى فوكوياما الحل: يمكن استعادة نفوذ أمريكا، وهذا ما سيحدث في النهاية. بما أن العالم بكامله سيعاني على الأرجح انهيارا اقتصاديا، ليس واضحا إن كان مستقبل النموذج الصيني أو الروسي سيكون أفضل بكثير من النموذج الأمريكي. لقد استعادت الولايات المتحدة عافيتها بعد انتكاسات خطيرة خلال ثلاثينات وسبعينات القرن الماضي بسبب قدرة نظامنا على التأقلم ومرونة شعبنا.

مع ذلك، فإن احتمال استعادة عافيتنا يتوقف على قدرتنا على القيام بتغييرات أساسية. أولا علينا أن نتخلى عن مبادئ عهد ريغان المتعلقة بالضرائب والقوانين التنظيمية. التخفيضات الضريبية تشعرنا بالسرور لكنها لا تحفز النمو بالضرورة أو تسدد كلفتها بنفسها» نظرا إلى وضعنا المالي الطويل الأمد، سيتعين إعلام الأمريكيين بصراحة أن عليهم أن يتحملوا نفقة مستقبلهم بأنفسهم. إزالة القيود أو عجز المنظمين عن مجاراة الأسواق السريعة التغير يمكن أن يكون عالي الكلفة كما رأينا. إن القطاع العام الأمريكي بكامله ــ الذي لا يحظى بتمويل كاف ويفتقر إلى الخبرات المهنية والمحبط ــ بحاجة إلى أن تتم إعادة بنائه وإعادة تعزيز كبريائه. هناك مهام معينة لا يمكن إتمامها إلا من قبل الحكومة.

فيما نسعى إلى إحداث هذه التغييرات، يبرز خطر الإفراط في تصحيح مجرى الأمور. إن المؤسسات المالية بحاجة إلى رقابة صارمة، لكن من غير الواضح إن كانت قطاعات أخرى من الاقتصاد بحاجة إلى ذلك أيضا. لا تزال التجارة الحرة محفزا قويا للنمو الاقتصادي وهي أيضا أداة تستعمل في الدبلوماسية الأمريكية. علينا أن نقدم معونة أفضل للعمال الذين يتأقلمون مع الظروف العالمية المتغيرة بدلا من أن ندافع عن وظائفهم الحالية. إذا لم تكن التخفيضات الضريبية سبيلا للازدهار المؤكد، فالإنفاق الاجتماعي المفرط ليس السبيل إلى ذلك أيضا. وكلفة خطط الإنقاذ وضعف الدولار على المدى الطويل يعنيان أن التضخم سيشكل تهديدا كبيرا في المستقبل. كما أن اعتماد سياسة مالية غير مسؤولة قد يفاقم المشكلة بكل سهولة.

وفي حين أن عددا أقل من غير الأمريكيين سيصغون إلى نصائحنا، فإن الكثيرين منهم قد يستفيدون من تقليد بعض جوانب نموذج ريغان. وإزالة القيود المفروضة على الأسواق المالية ليست من ضمنها. لكن في أوروبا، لايزال العمال يحظون بعطل طويلة ويعملون لساعات قليلة ويحظون بضمانات للحفاظ على وظائفهم ومجموعة أخرى من المنافع التي تقوض إنتاجيتهم ولا يمكن تحمل نفقاتها لمدة طويلة.

وتظهر ردة الفعل البغيضة على أزمة وول ستريت أن التغيير الأكبر الذي نحتاج إليه هو في سياساتنا. لقد وضعت ثورة ريغان حدا لـ50 عاما من السيطرة الليبرالية والديموقراطية على السياسات الأمريكية وفتحت المجال لمقاربات مختلفة لحل مشاكل زمنها. لكن مع توالي السنين، تحولت الأفكار التي كانت جديدة إلى إيديولوجيات متصلبة. ونوعية الجدال السياسي فقدت مرونتها بسبب محازبين لا يشككون فقط في أفكار منافسيهم بل أيضا في حوافزهم. كل هذا يصعب عملية التأقلم مع الواقع الجديد والصعب الذي نواجهه. لذلك فإن الاختبار الأهم أمام النموذج الأمريكي سيتمثل في قدرته على إعادة صياغة نفسه من جديد. الصورة الحسنة، على حد تعبير أحد المرشحين الرئاسيين تتعدى وضع أحمر شفاه لخنزير، بل هي متعلقة بإيجاد المنتج المناسب الذي تحتاج إليه الأسواق. سيكون الطريق صعبا أمام الديموقراطية الأمريكية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 8/تشرين الأول/2008 - 8/شوال/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م