سقوط الحضارة الغربية ونهاية العصر الامريكي

رؤيا تحليلية لقرب نهاية التاريخ

د. وليد سعيد البياتي

البدايات:

منذ البدء حملت الحضارة الغربية جرثومة فنائها، وحكمت على الساعين في دربها أن يعانوا حالة النكوص والتردي، ففي طريق اللهاث عبر التسارع العلمي، والحريات اللامحدودة، تم التخلي عن مناهج الاخلاق، فلا معايير أخلاقية، ولا آداب إجتماعية، وقد تخلت عن القيم العليا وتبنت قيما منحطة، بل انها سعت الى ان تصبح هذه القيم المتدنية البديل الوحيد عن القيم العليا، حتى نادى الفيلسوف اليكسيس كارليل بقلب الفكر الحضاري الغربي والتخلي عنه: " إن احدا لايطيق الاخلاق اليوم، فقد نبذ الانسان المعاصر كل النظم الاخلاقية في سبيل شهواته إذ أننا لا نكاد نشاهد افرادا يتبعون مثلا اخلاقية عليا في سلوكهم في هذه المدنية العصرية "، فتخلي الحضارة الغربية عن القيم الاخلاقية أوقع كل الانظمة الحياتية والعلمية والتنظيرية في فخ الفوضى وتبني القيم المنحطة، وبالتالي فقد ضعف الوازع الديني وتردت مستويات لتفكير العقلاني حتى أنتكست الكنيسة المسيحية، وخضعت للحركات المتطرفة من امثال الحركة الصهيونية.

أن ما يسمى جزافا بالتطور العلمي الحضاري قد اطاح بمستويات التفكير المعتدل مما ادى الى نشوب حروب عشوائية غير مبررة، فالتطور العلمي اصبح عبئا ثقيلا على الوجود الانساني، وفي هذا المجال يقول الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي: " إن الحضارة الغربية تمضي بالعالم إلى الهاوية بما أنتجته من آلات وإختراعات تملا حياتنا وتغزونا من كل جانب وتشوش تصوراتنا، إن العلوم الغربية أدت إلى فناء ستين مليون إنسان من الحرب العالمية الثانية، وقنبلة هيروشيما مثال على ذلك، واذا استمرت الاوضاع على ماهي عليه فإننا سنواجه اضعاف ماعشناه ويلات وكوارث ".

لاشك ان هذا الموقف العقلاني من الحضارة الغربية يكشف حجم الهاوية التي أوقعت ما تعرف جزافا بالحضارة الغربية البشرية فيها. فالحضارة الغربية والتي اطلقت عليها في سلسلة بحوثي الخاصة بفلسفة التاريخ مسمى (الوحش الاشقر) قد سقطت في اشكالات الهيمنة والسطوة اللاعقلانية، ولما فشلت كل مراحل الاستعمار القديم، فان الحضارة الغربية في اصرارها على تبني قيما منحطة قد حسمت فكرة استمراريتها حيث انها وكما قلنا في بحوث اخرى ان حركة التاريخ لايمكن ان تقبل قيما منحطة كمعيار فلسفي، وان حدث ذلك في مرحلة من مراحل حركة التاريخ فانه سيكون نتاجا لتردي الفعل الانساني ولقبول البشر بالمعايير المتدنية واعتبارها معاييرا عليا.

منهجية سقوط الحضارات:

يقدم القرآن الكريم فهما واقعيا لسقوط الحضارات غير مفهوم زوال الامم، وانقراض المجاميع البشرية، بل يقدم مفهوما يقول بتردي قوة الامة وانهيارها داخليا فتفقد الامم عزتها ومكامن قوتها فينفصل المجتمع عن السلطة الحاكمة، لبغي هذه السلطة وتجبرها على العامة، مما يعني هوان هذه الامة ووقوعها تحت سيطرة امم اخرى، فتختفي شخصيتها وتمحى هويتها ويذوب كيانها في كيانات الامم المستعمرة أو المتسلطة. والقرآن يحدد مكامن ضعف الامة في تجبر السلطة وثراء الطواغيت مما يوجد حالة من التمايز بينهم وبين عامة الناس وقد أشار الكتاب العزيز الى ذلك في قوله تعالى: " وإذا اردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليه القول فدمرناها تدميرا " الاسراء/16.

" وفي تفسير أرادة الله هنا نفهم انه ليست ارادة الله بهلاك هذه القرية، وانما الفسق والفساد هو المسبب الاول وارادة الاهلاك هي المسبب الثاني. وهنا يطرح تساؤل فهل إرادة الله هنا أنشائية أو فعلية؟ إذا كانت الإرادة الواردة في الآية (إنشائية)، فهي السبب الأول. لأن الإرادة الإنشائية من توابع العلم بما يكون، ولكنها لا تغير في ظاهر الكون. لأن العلم الأزلي بأن أهل قرية كذا.. يفسقون في تاريخ كذا..؛ يولّد إرادة الإهلاك الإنشائية. فإذا وجد ( أي تكونوا في عالم الوجود) أهل تلك القرية وفسقوا، تتولد الإرادة الفعلية من الإرادة الإنشائية، ثم تتولد الإرادة التنفيذية في الإرادة الفعلية. والإرادة التنفيذية، هي التي تغير في ظاهر الكون. والإرادة الإنشائية في حقيقتها ليست سبباً للإهلاك، بل هي أولى المسبقات، المؤدية إلى الأمر. وإنما الفسق هو السبب الأول في مجال السير الموضوعي للأسباب والمسببات، والإرادة هي السب الأول في السير التنفيذي للأسباب والمسببات. "

من جانب آخرنجد أن أرنولد توينبي (ت 1975) يقترب كثيرا من التفسير القرآني لسقوط الحضارات وهو يشخص ثلاث اسباب:

أولا: ضعف القوة الخلاقة في الاقلية الموجهة وانقلابها إلى سلطة تعسفية.

ثانيا: تخلي الاكثرية عن الاقلية الجديدة المسيطرة وكفها عن محاكاتها.

ثالثا: الانشقاق وضياع الوحدة في كيان المجتمع.

ويمكن ان اضيف هنا سببا آخر هو غياب (الدافع الحيوي) فالامم كالافراد يمكن ان تصاب بحالة من الاحباط فتنتحر نتيجة لغياب الدوافع والقدرة على الاستمرار.وهذا المفهوم يساعد في تكوين تصور اكثر عقلانية إذا بحثنا تطور الحضارات وسقوطها وفق نظرية التحدي و الاستجابة.

المعيار الديني و العقائدي:

بالتأكيد لايمكن الاعتماد كليا على المعايير الاخلاقية بشكل مجرد واعتمادها  كالشكل والوحيد المؤدي الى سقوط الحضارات ولكن لايمكن اغفالها بل انها واحدة من أكبر الادلة على قوة الحضارة وقدرتها على الاستمرار من عدمها. لكن البحث التاريخي والعقلاني سيجد ان إن قوام الامم وسبيل قدرتها على الاستمرار يعتمد على الفهم الديني والعقائدي فهما ينحو نحو التطبيق، فمثلا أن تاريخ الشرائع يؤكد على ضرورة التعامل معها عبر الجانب التطبيقي، فالشرائع ليست مجرد نظم مسطورة على الاوراق! الشرائع تكتسب قيمتها ليست فقط من كونها قابلة للتطبيق، بل من وجوب التطبيق لانها تمثل فلسفة علاقة الانسان بالحياة والخالق من جهة، ولكونها تفسر القيمة الوجودية للانسان عبر تحديد الغايات العليا من وجوده على الارض. فالامم التي تفقد قيمها وتتجاوز مفاهيم الغاية من وجودها تكون الاكثر ترشيحا للسقوط.

لاشك ان تخلي الكنيسة عن مهامها قد اضعف علاقتها بالمجتمع المسيحي حتى اصبحنا نجد الاعلانات في محطات القطارات هنا في لندن (الاندر كراوند) تتوسل الناس لارتياد الكنائس ايام السبت، وكنت قد كتبت سنة 2005 حول الموضوع حيث قلت حينها: " وبحدود سنة 2040 سينهار المجموع الكلي لاعضاء الطوائف الدينية (المسيحية) من 9.4% الى 5% وستغلق 18000 ( ثمانية عشر الف) كنيسة ابوابها "، كما ذكر تقري المراسل الديني لصحيفة الديلي تلغراف (جوناثان بيتر) الديلي تلغراف/العدد 46729 بتاريخ 3/سبتمبر/2005. وقد طالبت وقتها المجتمع الاسلامي للتحرك لضم المسيحييين التائهين في تخبطات العقيدة.

من جانب آخر فان الكنيسة المسيحية وباعتراف شخصيات في المجمع الكنسي هي تعاني من سيطرة الاتجاهات اليمينية المتطرفة، وقدرة هذه الاخيرة على التاثير في مراكز القرار في امريكا واوربا، مما اضعف الكنيسة في ان تلعب دورا حيويا في البناء الاجتماعي والفكري وفي التاثير السياسي الايجابي.

أمريكا ونهاية عصر القوة:

كان البزوغ الامريكي عنيفا بعد (بيرل هاربر –  في 7 /ديسمبر/ 1941) حتى توجت الولايات المتحدة اتجاهها الدموي بقنبلتي (هيروشيما وناكازاكي) في اوائل آب (1945).غير ان التاريخ العنيف لامريكا لم يبتدأ بعد بيرل هاربر بل سبق ذلك بكثير فالجيش الامريكي ومنذ نهايات القرن التاسع عشر وبالتحديد منذ سنة (1890م) خاض اكثر من( 140) حربا ليس آخرها حربي أفغانستان والعراق. غير ان حركة التاريخ المعاصر تنبئ ببداية نهاية للنظام الامريكي ففشل الولايات المتحدة في افغانستان والعراق وكوريا الشمالية وتحدي ايران وفنزويلا وعدد كبير من الدول الاسيوية والافريقية والامريكية اللاتينية للقرارات السياسية الصادرة عن اليمين المتطرف في البيت الابيض، قد اسقط هيبة بيت الابيض الذي لم يشهد رئيسا اسوء من (جورج دبيلو بوش) كما صرح بذلك عدد كبير من خبراء مراكز الدراسات الاستراتيجية في واشنطن ونيويورك وعدد أخر من كبار الاكاديميين في الجامعات الامريكية، وقد استغلت كل من الصين وروسيا مراحل الضعف الامريكي هذه لدك الاسفين في هيمنة القطب الواحد، وقد جاء الانهيار الاقتصادي الاخير ليطيح بسيطرة الدولار على سلة العملات، فمذبحة يوم الاثنين المالية التي شهدت خسارة (وول ستريت) بمقدار (1,2 مليار دولار) فحتى الـ 700 مليار دور امريكي التي ستضخها الحكومة الفيدرالية في سوق المال لاحداث نوعا من التوازن ولتخفيف الاعباء عن البنوك الامريكية لن يجدي نفعا وخاصة الخطة قد رفضت من قبل الكونغرس وحتى ان قبلت فالانهيار حادث، مما سيدع الابواب مشرعة امام خسارة المزيد من المليارات في سوق المال، فقد خسر مؤشر داو جونز 778 نقطة وهي اكبر خسارة منذ 1987.

إن كل التقارير الاخيرة الصادرة عن مراكز البحوث الاستراتيجية تؤكد بداية الانهيار, انه عندما ضرب اعصار(كاترينا) السواحل الامريكية في 28/آب/2005 وتسبب بخسائر كبيرة سارعت دول خليجية وبالذات الكويت بدفع (100 مليار دولار امريكي) للولايات المتحدة لمساعدتها في تحمل الكارثة، والغريب انه بدلا ان تستثمر الدول العربية بداية الانهيار الاقتصادي الامريكي وتعمل على الحيلولة دون نهوض الولايات المتحدة والمحافظة على بقائها متعثرة وتعيش اقتصادا مهزوزا وان تستفيد من تدمير هذا الاقتصاد، نجدها تسرع للمساعدة، وهذه هي الكارثة بحد ذاتها، وهذه الدول تتحمل الان نتائج الاثنين الدامي، فالاستثمارات العربية في الاسواق الامريكية والاوربية تقدر ببضعة مليارات وهي الان تعيش حالة الهبوط الانتكاسي، فالاسهم انخفظت الى الحضيض واسواق المال العربية هي الاخرى قد دخلت  غرفة الانعاش وفي الاعم الاغلب فانها لا تنجو من كارثة الخسارة.

وفي خطوة ذات رؤى مستقبلية قال الرئيس الروسي (ديمتري مدفيديف) على هامش مشاورات روسية المانية بحضور (المستشارة انغيلا ميركيل) في (سان بطرسبورغ) : " إن عهد هيمنة اقتصاد واحد وعملة واحدة قد ولى " ، في اشارة الى الانهيار الاقتصادي الامريكي وانهيار الدولار كعملة قياسية. واضاف : " علينا العمل معا لايجاد نظام اقتصادي مالي جديد أكثر عدلا يقوم على مباديء تعدد الاقطاب وسيادة القانون والاخذ بمبدا المصالح المتبادلة ".

لاشك ان الكثير من المسؤولين الاوربيين سيضطرون الى مراجعة حساباتهم بعد الهرولة بالاتجاه الامريكي التي قادها (بلير) ومن بعده (بروان) في بريطانيا، ثم (ميركيل) في المانيا، وليس آخرا (ساركوزي) في فرنسا، فالانظمة الاوربية في حيرة بالغة وكذلك كل اتباع المنهج الامريكي في اسبانيا وايطاليا، وهناك في استراليا، فكل الذين خاضوا حروبا لصالح امريكا يسقطون الان اقتصاديا، كل الذين ارتبطوا بمنهج البيت الابيض يتساقطون الان كاوراق الخريف، وقبل نهاية هذا الخريف الامريكي سيكون هناك نظام دولي جديد غير النظام العالمي الذي دعت اليه قيادات اليمين المتطرف، لقد سقطت العولمة قبل ان تضع القدم الاخرى لتحقيق خطوة واحدة.

وبالتاكيد لن يجد البيت الابيض من يحمل نعشه الى القبر، فتوني بلير يعمل مجرد موظف في الخارجية الاسرائيلية وهو لا قيمة سياسية له وبراون سيغادر اللعبة قريباوميركيل لم تكلف نفسهاعناء مؤاساة البيت الابيض، والقبر يفغر فاه على الاخر، فوداعا اميركا ولا لقاء.

* المملكة المتحدة – لندن

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 6/تشرين الأول/2008 - 6/شوال/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م