هل نجحت السلطة في تحييد المعارضة؟

أحمد شهاب

يجب أن نقرر بداية أن وجود معارضة سياسية رشيدة في الكويت، هو أمر مشروع وطبيعي، لأننا ببساطة نؤمن بأن الذين يديرون شؤون الدول هم بشر لهم أخطاؤهم ومثالبهم، كما لهم إنجازاتهم وعطاءاتهم، والمعارضة في أي بلد هي أحد عناوين القوة لا الضعف، وهي المسؤولة عن توجيه السلطة وتقويم أدائها، وبعكس ما يعتقد البعض بأن المعارضة تعمل على تقويض الدولة وتهدد أمنها، فإن المعارضة الرشيدة تقوم بدور بناء وحيوي حيث تشير في وقت مبكر إلى الأخطاء التي تقع فيها السلطة، حيث لا يمكن الادعاء بأن ثمة سلطة على وجه الأرض الآن لديها عصمة من الوقوع في الخطأ.

 فحتى الدول المثالية نجد فيها شكوى وتذمرا، ويوجد بين أفرادها من لا يرى في النظام القائم سوى نخبة ضيقة تهتم بمصالحها الخاصة، بغض النظر عن مصالح الجمهور، كما أن أي نظام حكم، وإن كان صالحا، لا يخلو من تغلغل أصحاب المصالح الذين يحسنون التقرب من أهل السلطة واتخاذ مواقع رفيعة في الدولة، وهؤلاء يجيّرون السلطة، بل الدولة بأكملها لتمرير مصالحهم وأغراضهم الخاصة، ولهذا تم التوافق بين العقلاء أن أفضل الحكومات هي الحكومات الديمقراطية، التي يخضع أداؤها للمساءلة والمحاسبة والنقد العلني، ويتميز عملها بالشفافية والبعد عن السرية، لأن العمل الحكومي في المبدأ والمنتهى هو عمل عمومي يحق لكل المواطنين مهما علا أو دنا شأنهم في نظر البعض أن يشاركوا في تقويمه وتطويره ومراقبته، وهو الأمر الذي لا يتحقق دون أن يكون عمل السلطة ورجالها وذممهم المالية مكشوفة تماما أمام جميع المواطنين.

على النقيض من ذلك، فإن الدولة المستبدة هي التي تتذرع دوما بالحجج الأمنية لإغلاق الحوار المفتوح حول ملفات الفساد السياسي، أو الاقتصادي الذي يصدر عن بعض المسؤولين، وهي الدولة التي تخشى الحديث بشفافية عن أداء رجالها، وهي بالضرورة تقف ضد المعارضة السياسية وتجد في نشاطها تهديدا لأمن الدولة الوطني، أو أنها وسيلة لكشف أسرار الدولة، وهي الحكومة التي تعتبر الدولة مؤسسة عائلية يستأثر بها أصحاب القوة والصولجان، فيتعاملون معها على أنها مزرعة عائلية يأكلون من خيراتها لوحدهم، بينما الحكومة الديمقراطية تعتبر الدولة ملكية عامة، والسلطة ما هي إلا جزء من الدولة، وهو جزء مهم وحيوي، لكنه صغير بصفته إدارة سياسية تعمل في خدمة الأغراض العمومية.

لهذا فإن تطور الدولة مشروط بتطور الأداء الديمقراطي، وهو لا يحسب بنسبة المشاركة الشعبية في الانتخابات كما هو معمول حاليا، وإن كانت نسبة المشاركة هي أحد المؤشرات المهمة، وإنما يحسب بنوعية المؤسسات والهيئات الرقابية داخل الدولة، وحجم تأثيرها ومشاركتها في القرار. المعارضة ضرورة حتى بالنسبة إلى الدول التي لا تتقبل الديمقراطية وتطارد المعارضة وتستهدف رموزها، إذ إن وجود معارضة فاعلة يستهدف أمرين حيويين:

الأول: الضغط على السلطة من أجل تحسين سلوكها السياسي، وقد نجح العديد من المعارضات السياسية في هذا المسلك، وأسهمت في ردع السلطة عن التغول، وعطلت الممارسات العبثية التي تصدر من أهل الحكم.

الثاني: المحافظة على الوعي الوطني العام بضرورة ترك مسافة بين المواطنين ومؤسسات المجتمع وبين السلطة في حال انزوت السلطة نحو الاستبداد، بحيث لا يدخل المجتمع وشخصياته وفعالياته في دائرة التخدير والموات السياسي والاجتماعي، ولا يكون دورهم تبرير أعمال السلطة بدلا من تصحيح مسارها.

أستهدف من هذه المقدمة النظرية استكشاف خارطة العمل السياسي المعارض في الكويت، والإجابة عن السؤال التالي: هل ثمة حركة سياسية معارضة في الكويت تسهم في تقويم أداء السلطة؟ فقبل الاحتلال كانت المعارضة السياسية في الكويت شاخصة، بتوجهاتها المختلفة، وكان من بين أبرز التوجهات ( الإخوان المسلمون، الجمعية الثقافية، المنبر الديمقراطي). من المؤكد أن هذه التوجهات السياسية، على رغم عدم تساويها في الأداء، إلا أنها شكلت جبهة سياسية ضاغطة في اتجاه تحسين أداء السلطة، والدفع نحو تحقيق مزيد من الحريات والمكاسب الشعبية، وقد شاركت هذه القوى وغيرها، وبمستويات متباينة، في الضغط على السلطة لإقرار البرلمان، كما كانت جميعها تحمل أجندة عمل وطنية أفضت إلى بلورة مزيد من الحريات والحقوق، وحتى عندما تعطل العمل بالدستور كان لهذه القوى الدور الرئيس في توعية الشارع العام وتحديد أولوياته.  

وفي أثناء الغزو العراقي وبعده لعبت تلك القوى إلى جانب نفر من الشخصيات السياسية الوطنية دورا بارزا في تثبيت العمل بالدستور والعودة إلى الديمقراطية. والحق أن جميع القوى السياسية ترفعت عن الاصطياد في الماء العكر، وأظهرت وطنية عالية من خلال ابتعادها عن المشاحنات الداخلية ولعبة التصفيات مراعاة للظروف الاستثنائية التي كانت تمر بها البلاد آنذاك، واتجهت بعض تلك القوى إلى إعادة تشكيل نفسها كجهة عمل وطني وانفكت عن ارتباطاتها الخارجية.

وعلى الرغم من أن جميع تلك التيارات تجزم بأن علاقاتها الخارجية لم تتعد الاستئناس الفكري أو الفقهي، إلا أنها لم تتردد في إعادة تنظيم صفوفها وإعلان انفكاكها عما يعرف بالحركات الأم. لكن ثمة متغيرا أساسيا ظهر في السنوات الأخيرة ترافق مع هذا التحول الاستراتيجي، وهو مسعى تلك الجماعات في مسيرتها الجديدة إلى إعادة ترتيب أوراقها للمشاركة في السياسة، والبحث عن نقاط قوة تعوضها عن فراغ الانقطاع عن الخارج، والبحث عن شرعية عمل محلية تعيد الثقة إليها، وكان البرلمان هو البوابة الأثيرة التي استحوذت على اهتمام القوى السياسية، وأكاد أجزم بأن العمل السياسي في الكويت تلخص في السعي لتحقيق مقاعد برلمانية، فيما تراجع إلى حد كبير تأثير ودور الجمعيات الأهلية والمؤسسات المدنية في هذا المضمار.

 ومع ازدياد حدة الاحتقان السياسي بين البرلمان والحكومة، ورغبة بعض النواب لإعادة فتح بعض الملفات المغلقة والساخنة المتعلقة بالحريات العامة وملفات الفساد السياسي والاقتصادي، عادت بصورة واضحة ظاهرة نواب الخدمات، وهي ظاهرة على رغم انتشارها من قبل المحسوبين على تيار السلطة، إلا أنها ظهرت هذه المرة بأيدي نواب القوى السياسية الذين لم يجدوا بدا من تضمينها أجندتهم لكسب أصوات الناخبين، واعتقدوا أن هذا هو الطريق إلى محاربة النواب المحسوبين على الحكومة في عقر دارهم.  لكنهم لم يتبينوا آثار هذا التحول حتى الآن، فمع تكرار حل مجلس الأمة، أصبح استهداف صوت الناخبين غاية نهائية لدى القوى السياسية، وهو ما أسهم في تحويل أجندة الإصلاحيين بالكامل من المطالب الإصلاحية إلى المطالب ذات الصبغة الخدمية (إسقاط القروض.. زيادة الرواتب)، وقد أقول إن الأولوية كانت للأخيرة، حتى لم يعد يمكن التفريق بين نواب الخدمات ونواب المواقف، فالجميع في الحفلة، والجميع يتسابق من أجل كسب أصوات الشارع، بغض النظر عن أولويات الإصلاح السياسي، حتى يمكن القول إن القوى السياسية في البلد لم تعد هي التي تقود الشارع أو تحدد أولوياته، وإنما الشارع هو الذي بات يقودها.

ولأن العمل السياسي كما مر انحصر في البرلمان، فإن الشخصيات البارزة والمؤثرة والقادرة على تحقيق مكاسب على أرض الواقع حصريا هم النواب، بغض النظر عن مؤهلاتهم العلمية أو مستوياتهم الثقافية أو تاريخهم النضالي أو أدائهم السياسي، وهؤلاء تحديدا تحولوا بطبيعة الحال إلى أصحاب قرار في تياراتهم، التي على رغم بروز أصوات معارضة فيها إلا أنها لم تنجح في كبح جماح التوجهات الجديدة.  وبعدما كانت مطالب القوى السياسية مرتفعة، وصوتها النقدي والإصلاحي عاليا، أصبحت مطالبها لا تتجاوز دعوة السلطة إلى ضخ المزيد من المنح والعطايا، وهي مطالب لا تقتضي بطبيعة الحال معارضة السلطة بقدر ما يكفي مسار استجداء العطاء من خلال تقديم التنازلات وتقديم فروض الولاء والطاعة.  فتواري المطالب الإصلاحية وتقدم المطالب الخدماتية يقتضي بالضرورة مهادنة السلطة وكسب ودها، بغض النظر عن أدائها، وهو ما اقتضته مطالب القوى السياسية التاريخية والجديدة التي دخلت ساحة العمل السياسي في السنوات الأخيرة، وهي لم تمارس العمل المعارض بتاتا إلا من خلال الصراخ في الخيم الانتخابية، ولهذا يبدو السؤال مشروعا: هل بقيت معارضة سياسية في الكويت؟ الإجابة بكل تأكيد: لا.

* كاتب كويتي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 23/أيلول/2008 - 22/رمضان/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م