الوصايا الأخيرة

بشير البحراني

كل كلمة من كلمات سيد البلغاء والمتكلمين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، بمثابة النور، وبمثابة التوجيه الرباني، وفي كل مفردة أو عبارة منها عالمٌ واسعٌ من القيم والعلاجات لكثير من المحن والمشكلات. فهو ليس مجرد إنسانٍ عادي، بل هو باب مدينة العلم؛ نسبة إلى مقولة الرسول الأكرم (ص): "أنا مدينة العلم وعليٌ بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها"، فهو الذي يشهد له القريب والبعيد بعلو مكانته وصواب رأيه وعظمة علمه، حتى معاوية بن أبي سفيان -وهو من أعداء الإمام علي- يقول بعد استشهاد علي في رمضان عام 40هـ: "ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب".

 يكفي أن تطالع كلمات الإمام علي (ع) في نهج البلاغة أو درر حكمه وأقواله الأخرى، لتكون نِعمَ العون على فهم القرآن الكريم، ونِعمَ الدليل الحياتي والأخلاقي الذي لا مثيل له في الوضوح. ووالله، كلما قرأت كلماته شعرتُ أنه قالها للتو في زمننا هذا.

 في آخر لحظات حياته، وفي نزاع الموت، توجه إلى ابنيه سيِّدَي شباب أهل الجنة الإمامين الحسن والحسين (ع)، وأوصاهما بوصايا يقصدنا بها حتماً، فهي لنا ولأجيال الأمة كافة، ولعل الكثيرين سمع بها، ولكن من يعمل بها؟

 في وصاياه الأخيرة يؤكد الإمام علي (ع) على الأمور الآتية التي قد غابت أو تغيب عن كثير منا:

 1- تقوى الله، لأن {اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، والمتقون بشكل ذاتي يحتجبون عن الوقوع في الرذائل والموبقات، فكما في كلمة للإمام علي (ع): "إن من فارق التقوى أغرى باللذات والشهوات ووقع"، وكذلك قوله (ع): "بالتقوى قرنت العصمة". والتقوى في فكر الإمام علي (ع) هي رئيس الأخلاق، وعمارة الدين، ومفتاح الصلاح، ومصباح النجاح، وأفضل كنز، وأحرز حرز، وأعز عز، وفيها نجاة كل هارب، ودرك كل طالب، وظفر كل غالب، ولا زاد مثلها، ولا حصن أمنع منها، ولا ينفع الإيمان بغيرها. وتكون باتقاء الله عز وجل فيما لدينا والنظر في حقه سبحانه علينا. وللمتقي -حسب الإمام علي (ع)- ثلاث علامات: إخلاص العمل، وقصر الأمل، واغتنام المهل.

 2- عدم اللهث وراء الأمور الدنيوية وعدم الافتتان بما يُتحصل منها وعدم التأسف على ما فات من بهرجها وإغراءاتها، فإنه في نظر الإمام علي (ع) "لبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمناً"، وهو الذي يحذر في نهج البلاغة بقوله: "إن الدنيا رَنِق (كَدِر) مشربها، رَدِغ (كثير الطين والحل) مَشْرَعها، يُونِق (يُعجب) منظرها، ويُوبِق (يُهلك) مخبرها. غُرُور حائل، وضوء آفل، وظل زائل، وسِنَاد مائل، حتى إذا أنس نافرها، واطمأن ناكرها، قمصت (قمص الفرس: رفع رجليه وطرحهما معاً) بأرجلها، وقنصت (اصطادت) بأحبلها، وأقصدت (قتلت بلا تأخير) بأسهمها، وأعلقت المرء أوهاق (حبال) المنية، قائدة له إلى ضنك (ضيق) المضجع، ووحشة المرجع، ومعاينة المحل (محله من النعيم والجحيم)، وثواب العمل. وكذلك الخلف بعقب السلف، لا تُقْلِع المنية اخْتِرَاماً (استئصالاً)، ولا يرعوي الباقون اجْتِرَاماً (اقتراف الذنوب)، يحتذون مثالاً، ويمضون أرسالاً، إلى غاية الانتهاء، وصيور (ما يؤول إليه) الفناء". فالإنسان لا ينسى نصيبه من الدنيا، ولكنه يلزم الحذر من الانزلاق وراء إغراءاتها ولذاتها، لأنه وراء كل انزلاقة الكثير من البلايا والمشكلات.

 3- قول الحق، فلا ينبغي أن يشغل الإنسان عن قول الحق شاغل، ولا يشغل عن قول الحق إلا نسيان الآخرة. وكم من كتمٍ للحق، أو كذب وتلفيق؛ أضاع حقوقاً للناس ونشر الظلم في البلاد. إن كتمان الحق من أعظم الخطايا، وأسوأ الذنوب، يجلب العار، ويقلل البهاء، ويذهب بثقة الناس.

 4- الإخلاص في العمل، حيث ينبغي أن يكون الإنسان في عمله طالباً للأجر من الله سبحانه وتعالى، ولا يكون همه الغرض الدنيوي. لأنه في فكر الإمام علي (ع) العمل كله هباء إلا ما اُخلِص فيه، فآفة العمل ترك الإخلاص، كما أن نجاح الأمور في إخلاص نياتها. والإخلاص شيمة أفاضل الناس، وغاية الدين، وملاك العبادة.

 5- مخاصمة الظالم وإعانة المظلوم، فلا ينبغي البتة إعانة الظالم على ظلمه، ولو بالسكوت عنه! وهذا الموضوع لطالما أرَّق الإمام علي (ع)، ولطالما أكد على ضرورة عدم ترك الظالم يعيث في الأرض فساداً، فالسكوت عن الظلم يزيد الظالم عتواً. وهو (ع) القائل عند تنصيبه خليفة: "وأيْم الله لأنصفنَّ المظلوم من ظالمه، ولأقودنَّ الظالم من خِزامته، حتى أورده منهل الحق وإن كان كارهاً".

 6- نظم الأمر، فالتنظيم في كل شيء، صغيره وكبيره، ضرورة حياتية لتيسير الأمور بصورة دقيقة ذات نتائج إيجابية كبرى. أما الفوضى أينما كان اتجاهها، فإنها تعني التعثر والضعف وإضاعة الوقت وهدر الطاقات وقلة الإنتاجية. ولعل هذا الأمر هو مطلب ملح للمسلمين اليوم، حيث يغيب نظم الأمر عن خارطة استراتيجاتيهم في مختلف الجوانب.

 7- صلاح ذات البين، وفي القرآن الكريم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]. حيث يلزم أن يكون المجتمع الإسلامي سليماً تماماً من المنازعات والمشاحنات بين أفراده، سواءً ضمن إطار الأسرة، أو الصداقات، أو العلاقات الاجتماعية ككل، لأنه كثير من الجرائم ترتكب بسبب خراب ذات البين.

 8- احتضان الأيتام، حيث يلزم احتضان هذه الشريحة من المجتمع، والحفاظ على حقوقها المالية والنفسية، ولذلك أكبر الأثر في بناء مجتمع سليم.

 9- الاهتمام بالجار، وهي فريضة كأني بها غابت في عصرنا اليوم، حيث تجاوز البعض مرحلة عدم الاهتمام بالجار إلى مرحلة الإزعاج والأذى تجاهه، مع أن الدين الإسلامي اهتم بهذا الموضوع الاجتماعي أيما اهتمام، ولطالما أكد النبي الأعظم (ص) عليه شخصياً أكثر من مرة، ولكن أين من يلتفت؟ كما أين من يعين جاره على بره؟!

 10- العمل بالقرآن الكريم، ويحذر الإمام علي (ع) من أن يسبق الآخرون المسلمين في العمل بالقرآن، وهذا ما يحدث اليوم أسفاً. فما في القرآن من تشريعات وتوجيهات في مختلف الجوانب كفيل بسمو أي مجتمع من المجتمعات.

 11- المحافظة على الصلاة، لما للصلاة من أثر كبير على النفس. قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].

 12- الاهتمام بالمسجد، وتشير وصية الإمام علي (ع) إلى أن إهمال العبادة أو المسجد يوجب ذهاب كرامة الأمة في نظر الشعوب الأخرى، إذ من الطبيعي أن الشعوب التي لا تقدر دينها وشعائره فإنها تُستسخَف ولا يُنظر إليها باحترام.

 13- الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس واللسان، وطبعاً هذا يتم وفق الضوابط التي يقرها الإسلام.

 14- التواصل والتباذل وعدم التدابر والتقاطع، فإن التواصل بين أفراد المجتمع الواحد يوجب قوته في وجه عدوه، كما يوجب الاطمئنان لكل فرد منه.

 15- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك أيضاً لا يتم إلا ضمن الضوابط التي يقرها الإسلام، وفي وصية الإمام علي (ع) إشارة إلى أن ترك فريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي إلى تولي شرار الأمة عليها، كما يجعل دعاء الناس بلا فائدة، حيث يدعون فلا يُستجاب لهم.

16- عدم الثأر والتسامح قدر الإمكان، حيث يوصي الإمام علي (ع) عشيرته بقوله: "يا بني عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون: قُتِل أمير المؤمنين. ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي. انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه، فاضربوه ضربة بضربة، ولا تمثلوا بالرجل، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: إياكم و المثلة ولو بالكلب العقور".

إن كل مفردة من مفردات هذه الوصايا تحتاج إلى وقفات كثيرة وتفصيلات دقيقة، وكل واحدة منها خطة لعلاج مشكلة أو مشكلات نفسية واجتماعية  وسياسية وثقافية واقتصادية.

إنها وصايا تلخص كثيراً من مشروع الإمام علي بن أبي طالب (ع)، ولعل كونها الأخيرة فإنها تتخذ جانب الأهمية الكبرى التي يجب الالتفات إليها، خصوصاً من محبي ومريدي الإمام علي (ع).

* كاتب ومؤلف من السعودية

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 22/أيلول/2008 - 21/رمضان/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م