تعددت المبررات والتسول واحد!

بشرى الخزرجي

لو لم أكن قد كتبت من قبل عن موضوعة الطفولة وعمالة الأطفال في العراق والتي أرجعت أسبابها بالطبع لتدني الحالة الاقتصادية للأسر العراقية الفقيرة والمحدودة الدخل وعوائل ضحايا الحروب الطاحنة السابقة واسر ضحايا الإرهاب المجرم  في الزمن الحالي والغلاء الفاحش الذي يلهب الأسواق العراقية والذي يعود لأسباب عدة أهمها غياب الرقيب وجشع بعض التجار وانعدام الحس الوطني لدى الغالبية منهم، إضافة إلى تعطيل قدرات الشباب بسبب البطالة..

 لولا ذلك لما دهشت وأنا اسمع عن عوائل تتعمد إرسال أطفالها إلى الشوارع  والأسواق من أجل كسب المال وإن كان دخلها وإمكاناتها المادية على قدر يكفي ويسد احتياجاتها المعيشية، وبعض الأسر ميسورة الحال لدرجة تعدها من الأغنياء .. خاصة  ورواتب شريحة الموظفين حسب ما عرفت من بعضهم قد تحسنت وشملتهم بعض الزيادات والعلاوات انعكست كما لاحظت ذلك على مستوياتهم المعيشية إذ يشهد العراق في الآونة الأخيرة حالة من النهوض الاقتصادي والعمراني الواضحين وان كانت بطيئة.

 في الحقيقة إن ظاهرة نزول أطفال عوائل ميسورة الحال إلى الشارع للعمل حالهم حال أطفال أسر فقيرة ليس لها من يعيلها تبعث على الاستغراب، ومبرراتها التي استمعت إليها في زيارتي الأخير للعراق غير مقنعة وغير منطقية من وجه نظري المتواضعة، فالبعض يرجعها  إلى أن مجتمعاتنا العربية تنتشر فيها هذه الظاهرة وتعتبر بالتالي حالة عادية! وأن الطفل يجب أن تصقله الحياة وبنزوله المبكر للعمل  خصوصا أيام العطل المدرسية، سوف يتعلم  ويكتسب الكثير من الخبرات التي تخدمه في المستقبل وتشد عوده كما يقال! عذرهم في ذلك أن التعلم في الصغر كالنقش على الحجر، وغيرها من المبررات التي أرى أنها مجحفة بحق الطفل والطفولة.

إن الاستشهاد بالمأثور السابق الذكر كلام فيه من الصحة الشيء الكثير ولا يختلف عليه اثنان، وليس منا من لا يحب أن يتعلم ابنه ما ينفعه وينمي مواهبه، والتجارب والخبرات تكتسب بالتالي من الإحتكاك اليومي ومعايشة الآخرين، هذا إن عرفنا وتيقنا أن أبناءنا ومن خلال إقحامهم في معترك الحياة سيتعلمون مهناً أو حرفاً أو فنوناً تنفعهم وبأسلوب وطريقة لا تضرهم ولا تؤثر سلبا على تربيتهم وأخلاقهم ولا تخدش من براءتهم، ولا يتحقق ذلك قطعا إلا عن طريق المؤسسات الحكومية والجمعيات الخيرية والنوادي والورشات المتخصصة في مجال الطفولة واحتياجاتها.

فجميعنا يعرف مشاكل الشارع ومساوئه وما تزدحم فيه من مفردات ومصطلحات وسلوكيات يجلبها الطفل العامل أو البائع الجوال معه إلى البيت مع ما كسبه من المال الذي لو قارناه مع حجم الضرر الذي يصيب هذا المسكين البريء لعلمنا أن الأهل هم الخاسر الأول حيث لا تنفعهم تلك النقود التي تأتي على حساب تربية وسعادة أبنائهم والتي لا تقدر بمال قارون.

وتعج الأسواق العراقية بهؤلاء الأطفال من الجنسين ومن جميع الفئات العمرية دون سن البلوغ، فبعضهم لا يتجاوز عمره الخمس سنوات .. بنات صغيرات جميلات مثل الزهور المتفتحة  يجرين خلفي في أحد الأسواق ليبعن لي الأكياس في عزّ الظهيرة، والصيف وحره الذي لا يرحم في ظل الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي ومشكلته الغير قابلة  للحل على ما يبدو! تساءلت والحسرة تعصر قلبي أين أهلكم عنكم؟ .. صبي آخر عيناه زرقاوتان كزرقة ماء دجلة والفرات وخداه المتوردان من شدة حر شهر آب يدفع عربته الخشبية سار إلى جنبي أملا في أن أضع في عربته ما احمل بيدي من أشياء كانت في الواقع قليلة خفيفة الوزن! وانفعه ببعض النقود على قوله.. "خالة الله عليج نفعيني"!

في الواقع لا أعلم لهذه الظاهرة أسبابا إلا الفقر اللعين وفقدان المعيل والمعين في عراق ينشد أهله الخير وبشائره القادمة، إلا أنها ظاهرة أخذت تزداد ومنظر الأولاد في الشوارع والأسواق وبهذه الأعداد الكبيرة منظر غير حضاري يظهر البلد وكأنه يعيش في العصور الوسطى أو ما بعد الحروب العالمية حين كانت شوارع لندن ومدن أوربية أخرى تكتظ بالمتسولين وعمالة الأطفال.

وعلى ذكر المتسولين والمدن التي  امتلأت بهم احكي هذا الموقف الذي حصل وأنا في مدينة كربلاء المقدسة والزيارة الشعبانية حيث الزحام والجماهير المؤمنة الغفيرة التي وفدت على الإمام الحسين(ع) من كل حدب وصوب، جاءني فقير إحترف مهنة التسول حسب الظاهر! يطلب المساعدة، فتحت حقيبتي كي اخرج له بعض النقود فلم أجد غير ورقة نقدية واحدة من الفئة الكبيرة، فطلبت منه أن يمهلني بعض الوقت حتى (أصرّفها) عند احد المحال القريبة .. وقف ينتظر وبدا عليه الاستعجال، ولما تأخر صاحب المحل في التصريف حيث ذهب إلى متجر آخر لهذه المهمة اقترب أخونا المتسول هذا مني ليقول لي (عيني راح تدفعين لي لو أروح!) فأجبته: انتظر لحظة! هذا الرجل جاء ومعه التصريف! ثم ما بك مستعجل؟ فأجابني على الفور: (بابا شنو قابل أنا باقي عليج؟؟).

 لم أتمالك نفسي من الضحك على الموقف العجيب.. قلت متسول آخر زمن يأمر ويتأمّر!

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 10/أيلول/2008 - 9/رمضان/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م