تأمّلات في المنهج الفقهي للمرجع الشيرازي

جاسم الحائري

الذين عرفوا المرجع الديني الإمام الشيرازي قدس سره؛ أدركوا أنه فقيه غير تقليدي، إذ كان دائم السعي نحو التجديد والتحديث، وكان يعشق الجديد دوما، ويعمل جاهدا على إحياء الحقائق المطمورة في تراث أهل البيت عليهم السلام لتستفيد منها البشرية جمعاء.

وهذه الميزة التي تميز بها الإمام  الراحل رضوان الله تعالى عليه جعلت أنظار المجامع العلمية تتجه إليه منبهرة، حيث لم تشهد الحوزات مثيلا للنتاج العلمي العميق والضخم الذي قدّمه الإمام. ومن ضمن القضايا المهمّة التي كانت للإمام الشيرازي اليد الطولى فيها هي مسألة التوجّه إلى التراث العلمي للسيّدة الزهراء عليها السلام والاستفادة منه في جميع مجالات الحياة. ذلك التراث الذي أغفلته الحوزات مع الأسف، إذ لم ينتبه العلماء إلى أهمية الاستفادة من سيرة الزهراء عليها السلام استفادة استنباطية شرعية تؤسس لأحكام وسنن.

وقد بقي الإمام الراحل قدّس سرّه طيلة عمره المبارك يدعو الآخرين إلى الالتفات إلى سيرة السيّدة الزهراء عليها السلام والسعي الدائب من أجل الاستفادة من وصاياها العظيمة التي قدّمتها للبشريّة كافّة. وحيث إنّ الإمام المظلوم لم يكن من أولئك الناس الذين يقولون ما لا يفعلون فقد شمّر بنفسه عن ذراعيه وشرع بتأليف العديد من المؤلّفات حول الصدّيقة الزهراء عليها السلام.

 وعلى الرغم من أنّ جميع مؤلّفاته تمتاز بالمتانة العلمية والإبداعات الجديدة التي يلاحظها القرّاء في كتبه المطبوعة - سواء حول السيّدة الزهراء عليها السلام أو غيرها - إلاّ أنّ هناك مؤلّفاً قيّماً تميّز عن سائر مصنّفات الإمام الشيرازي ألا وهو كتاب »من فقه الزهراء عليها السلام«. وقبل أن نخوض غمار البحث حول هذا الكتاب القيّم ونتطرّق إلى ما فيه من نكات قيّمة، لا بأس أن تكون لنا وقفات عابرة حول سيرة الإمام الراحل وعلاقته الخاصّة بجدّته الزهراء عليها السلام.

فقد كانت له رحمه الله علاقة خاصّة بجدّته الصدّيقة الزهراء صلوات الله عليها، فما أن كان يُذكر اسمها الطاهر في محفل إلاّ وكانت دموعه الغزيرة قد انحدرت على كريمته.

وفي إحدى الجلسات وبينما كان الإمام الشيرازي جالساً مع العديد من رجال العلم التفتَ إليهم والحسرة بادية على ملامحه، فقال: »ممّا يؤسف له حقّاً أنّ الإنسان منّا يجد أنّ مؤلّفات امرأة عاديّة - وقد أشار إلى اسمها - تُطبع بالملايين ولا يجد أكثر من ألف مؤلّف حول السيّدة الزهراء عليها السلام«! ثمّ أردف قائلاً: »لقد قرأت كتاباً ينصّ على أنّ المؤلّفات المطبوعة حول الصدّيقة الزهراء عليها السلام لا تتجاوز الألف إلا بقليل«.

ربما كان هذا هو الدافع الأساسي لكي يتناول الإمام الراحل قلمه ويشرع بكتابة مؤلّفه القيّم »من فقه الزهراء عليها السلام« الذي يقع في ستة مجلّدات من الحجم الكبير دخلت ضمن عداد موسوعته الفقهية الكبرى ذات المئة وخمسين مجلدا.

بالإضافة إلى ذلك فقد كشف حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ الصادقي في المجلس الذي عُقد لمرور أربعين يوماً على رحيل الإمام الشيرازي عن السر الخاص لقيام الإمام بتأليف هذا الكتاب، فقال: »سمع الإمام الشيرازي أنّ بعض المسلمين تحامل على السيّدة الزهراء عليها السلام وأخذ يتجاسر على مقامها الرفيع فأخذ القلم بعين باكية وراح يخطّ بكلماته كتابه الرائع (من فقه الزهراء عليها السلام) الذي فتح في تاريخ الفقه الشيعي صفحة جديدة«.

بعد هذه المقدّمة حول علاقة الإمام الشيرازي أعلى الله مقامه بالصدّيقة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها؛ فلنرَ ماذا قدّم سماحته في هذا المؤلّف القيّم الذي مثّل ثورة في عالم الفقه الشيعي.

التجديد في الفقه الشيعي

لا يخفى أنّ من يلاحظ المباحث الفقهية المختلفة التي يتناولها فقهاء الشيعة في رسائلهم العملية ويطّلع على عمقها ودقّتها الشديدة يدرك مليّاً مدى عظمة المذهب الشيعي الذي بقي طيلة هذه القرون مواكباً لمستحدثات المسائل. فالفقه الشيعي فقه أصيل يستوعب المسائل الحديثة كافّة، فلا تطرأ على الساحة مسألة إلاّ وتجد أنّ لفقهاء الشيعة رأياً متميّزاً يدلّ على أحقّيتهم وصوابيتهم فيها. وبالطبع فإنّ هذا يرجع إلى عمق أدلّتهم وأصالتها بحيث أنّك لا تجد مسألة ليس للشيعة رأي متميّز فيها.

ومن المسائل المسلّمة في تاريخ الشيعة أنّ هناك كثيراً من فقهاء الشيعة على مرّ التاريخ جاءوا بمستجدّات فقهية لم يتطرّق إليها السابقون، بل إنّ بعضهم أدخل على الفقه الشيعي أبواباً حديثة لم يشِر بها الفقهاء الماضون.

ونحن لو أردنا الاستشهاد بالشواهد الدالّة على هذا المطلب لطال بنا المقام ولكن يبقى القول إنّ الإمام الشيرازي قدّس سرّه كان من هؤلاء الفقهاء الصفوة الذين أدخلوا على الفقه الشيعي العديد من الإبداعات. ويكفي المطّلع أن يلاحظ موسوعته الفقهية الواسعة التي ضمّت بين طيّاتها العديد من المباحث الفقهية الجديدة، إلاّ أنّ الإبداعات الجلية التي أشار إليها الإمام الشيرازي في كتاب »من فقه الزهراء عليها السلام« تكاد تكون قليلة النظير.

فلم يكن معهوداً في الفقه الشيعي أن تُطرح كلمات الصدّيقة الزهراء عليها السلام ويتمّ الاستفادة منها في أبواب الفقه، بل إنّ الكثير ممّن بحثوا حول كلمات الزهراء عليها السلام أشاروا إلى الأبعاد التاريخية المحضة ولم يعرّجوا إلى الاستفادات الفقهية.

وهنا تتجلّى عظمة الإمام الشيرازي ومدى إبداعه حيث إنّه خرج من السيرة المعهودة لدى علماء التشيّع في البحث حول كلمات الزهراء فطرق الباب الفقهي في هذه الكلمات النورانية وبقي يشير إلى الأبعاد الفقهية المهمّة فيها.

الملفت للانتباه هو عنوان هذا المؤلّف وهو »من فقه الزهراء عليها السلام«، أي أنّ هذا غيض من فيض وقطرة من البحر الفقهي الذي يمكن استفادته من كلمات الزهراء عليها السلام. فقد كان قدّس سرّه شخصيّاً يقول: »إنّ ما كتبتُه يُعدّ بمثابة فتح الباب وإن شاء الله يأتي ذلك اليوم الذي يكون توجّه الفقهاء إلى كلمات السيّدة الزهراء عليها السلام في مباحثهم الفقهية أكثر ممّا هو عليه الآن«.

وقال كذلك في مقدّمة الجزء الأوّل من الكتاب: »إنّ سيّدة النساء فاطمة الزهراء سلام الله عليها مجهولة قدراً ومهضومة حقّاً، ولعلّ من مصاديق مجهولية قدرها عدم الاستفادة من كلماتها وخطبها في (الفقه) وعدم إدراجها ضمن الأدلّة أو المؤيّدات التي يُعتمد عليها في استنباط الأحكام الشرعية، ولذلك فقد استعنت بالباري جلّ وعلا في الكتابة حول ذلك رجاء المثوبة وأداءً لبعض الواجب والله الموفّق«.

في رحاب المقدّمة

إنّ أوّل ما يجذب القارئ الكريم في المجلّد الأوّل من الكتاب هي المقدّمة العملية المفيدة التي افتتح بها الإمام الشيرازي قدّس سرّه البحث، ففي هذه المقدّمة أشار إلى عظمة الزهراء، وأوعز إلى مقامها الرفيع الذي مازال وسيبقى مجهولاً عند أكثر الناس.

حقّاً إنّ من يطالع المقدّمة يدرك عظمة العلقة والاعتقاد الراسخ الذي كان يحظى به هذا المرجع الموالي للصدّيقة الزهراء صلوات الله عليها. فمن كلام له تحت عنوان »لمحة من عظمة الزهراء عليها السلام« قال فيه: »ومن نافلة القول في المقام الإشارة إلى أنّنا لم نقم في هذا الكتاب إلاّ بالإلماع إلى هذا البعد الفقهي مع موجز من الشرح والتوضيح، وإلاّ فهي صلوات الله عليها أعلى وأجلّ من أن أتمكّن أنا الفقير العاجز عن ذكر بعض ما يليق بمَن دارت على معرفتها القرون الأولى ومَن هي قطب دائرة الإمكان، كما دلّ على ذلك قوله تعالى في حديث الكساء: »فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها«.

فإنّ مكانتها وعظمتها صلوات الله عليها لا يمكن أن يستوعبها أيّ واحد من المخلوقات إلاّ النبيّ صلّى الله عليه وآله والوصي عليه السلام، والضيّق لا يمكن أن يحيط بالواسع، وأنّى للذرّة أن تحيط بالمجرّة؟! وأنّى للمغرفة أن تستوعب المحيط؟!

كما قالوا بالنسبة إلى استحالة إدراكنا لله سبحانه لأنّ اللاّمتناهي يستحيل أن يحيط به المتناهي المحدود أو يدرك كنهه. ولا شكّ أنّهم عليهم السلام ليسوا كالله سبحانه في اللاّتناهي واللاّمحدودية إلاّ أنّه لاشكّ أنّهم عليهم السلام أوسع من الناس الضيّقين بما قد يلغي النسبة بين الطرفين ويجعلها أبعد من نسبة القطرة إلى المحيطات، وقد »سمّيت فاطمة لأنّ الخلق فُطموا عن معرفتها« كما في الحديث الشريف.

فإنّها عليها الصلاة والسلام أفضل من الأنبياء كافّة باستثناء الرسول صلّى الله عليه وآله كما دلّت على ذلك أدلّة متعدّدة، وسيأتي ذلك. وهي عليها الصلاة والسلام حجّة على كلّ أولادها الأئمّة الطاهرين عليهم السلام - وهم أفضل من الأنبياء والملائكة كافّة - ولذا قال الإمام العسكري عليه السلام: »وهي حجّة علينا«.

وقال الإمام الحجّة عجّل الله فرجه الشريف: »وفي ابنة رسول الله صلّى الله عليه وآله لي أُسوة حسنة«. وقد قال الإمام الحسين عليه السلام: »أُمّي خير منّي«. ولها عليها السلام الولاية التكوينية بتفويض الله سبحانه لها كتفويضه الولاية لهم عليهم السلام.

أمّا كونها عليها السلام كسائرهم عليهم السلام في حجّية قولها وفعلها وتقريرها فممّا قام عليه الإجماع، بالإضافة إلى الأدلّة الثلاثة الأُخَر، وسنذكر شيئاً من الأدلّة على ما لهم عليهم السلام من الولاية التكوينية والتشريعية«.

إستفادات من حديث الكساء

خصّص الإمام الشيرازي قدّس سرّه في الجزء الأوّل من الكتاب للاستفادات الفقهية التي يمكن استنباطها من الحديث المشهور المسمّى بحديث الكساء.

الملفت للانتباه أنّه قدّس سرّه استفاد حكماً شرعياً من كلّ فقرة من هذا الحديث الشريف، وهنا تنبري المتانة والذوق الفقهي الإبداعي الذي كان عند هذا المرجع. فمثلاً في قولها عليها السلام في الحديث: »دخل علَيَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله« قال قدّس سرّه: »مسألة: يستحبّ التلقيب لأنّه نوع من التكريم، وللأسوة، حيث قالت سلام الله عليها: »دخل علَيَّ أبي رسول الله صلّى الله عليه وآله«. وهل يدلّ على الاستحباب أو الجواز؟ الظاهر الأوّل للقرينة الداخلية، كما أنّ قرينة جعل الإسلام احترام الناس أصلاً، للآيات والروايات و... وقد قال سبحانه: (كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) وما أشبه، يدلّ عليه. وفي الأحاديث أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله كان يكنّي أصحابه. ولا يبعد أن يكون اللقب أو الكنية بالنسبة إلى الأقرباء - خصوصاً الكبار منهم كالأب والأم - آكد استحباباً، ويلمّح إليه ما سبق، وأنّ الرسول صلّى الله عليه وآله كان أباً لها«.

وفي موضع آخر استفاد قدّس سرّه حكماً شرعياً مهمّاً من عبارة الرسول صلّى الله عليه وآله في حديث الكساء حيث أجاب عن سلام الإمام الحسن وإجابة النبي صلى الله عليه وآله بقوله: »وعليك السلام يا ولَدي«، فقال قدّس سرّه: »مسألة: ولد البنت يُعتبر »ولداً« كما قال صلّى الله عليه وآله: »يا ولدي« وهذا واضح لأنّ مَن يُخلق من ماء الإنسان ابتداءً أو استدامة يكون ولداً، ويكون المخلوق منه والداً سواء بالنسبة إلى الوالدين أو إلى الأجداد والجدّات. نعم بعض الأحكام الشرعية خاصّة بمن يولد من الرجل لا المرأة كباب الخمس والزكاة كما ذكرها الفقهاء في كتبهم الفقهية. ولذا ذكر جمع من الفقهاء - وليس بمستبعد - بالنسبة إلى ولد الزنا أنّه ولد عقلاً وعرفاً ولغة بل وشرعاً أيضاً، وإنّما المخصّص بعض الأحكام كالإرث، وإن كان صاحب المستند قدّس سرّه وسّع في التخصيص كما لا يخفى لمن راجعه«.

وقد استفاد قدّس سرّه من قول الإمام الحسن عليه السلام: »أتأذن لي أن أدخل معك« فقال: »مسألة: يستحبّ وقد يجب الاستئذان من العظيم للحضور بمحضره، كما استأذنوا عليهم السلام من النبيّ صلّى الله عليه وآله. فإنّه مستحبّ إذا كان في مكان مباح ونحوه، وواجب إذا كان المكان خاصّاً بالعظيم، على نحو آكد، فإنّه يجب الاستئذان حين الدخول في مكان الغير فكيف بما إذا كان عظيماً. وربّما يقال: من جمع الواجب والمستحبّ كالصلاة الواجبة في المسجد ممّا يوجب التأكّد كما ذكروا في الواجبات المصادفة للمستحبّات وبالعكس«.

وإلى غير ذلك من الاستفادات الرائعة التي استفادها هذا الفقيه الفطحل من حديث الكساء الشريف.

وعلى هذا المنوال تناول سماحته بقية المأثورات عنها صلوات الله عليها، إذ خصص المجلدين الثاني والثالث من كتابه لخطبتها الاحتجاجية في المسجد. وتلفتنا - كمثال على الدقة الاستنباطية - هذه المسألة التي علّق بها الإمام الراحل على كلمة الصديقة صلوات الله عليها في وصف أبيها صلى الله عليه وآله »يكسر الأصنام وينكث الهام«. حيث قال رضوان الله عليه: »مسألة: يجب القضاء على (أئمة الضلال) كما فعل صلى الله عليه وآله، فإن (ينكث الهام) أي يضرب الرؤوس أي (رؤوس أئمة الضلال وقادتهم) حتى ينفصل الأتباع عنهم، فيتمكنوا من تقرير مصير أنفسهم بأنفسهم، فيتركوا وشأنهم - أي من دون ارتباط بقادة الضلال - ليختاروا ما هو مقتضى عقولهم وفطرتهم.

إضافة إلى أن ضرب الرؤوس مما يوجب تفكك الترابط بين أجزاء جيش الضلال والظلام، فيكون أدعى لانهزام الأذناب وأسرع في القضاء على الجمع. وفي ذكرها عليها السلام: (يكسر الأصنام وينكث الهام) نكتة لطيفة، وهي أن القضاء على الأديان والمذاهب الباطلة يتم بركنين: أحدهما؛ القضاء على (الرمز المقدس) و(المحور والقطب) الذي تدور عليه رحى معتقداتهم وأفكارهم. والثاني؛ القضاء على حملة تلك الراية وعلى الدعاة إليها«.

فهذه التشعبات التي يسير فيها الإمام الراحل إلى أن يحيط بكل جوانب المسألة؛ تبعث روحا جديدة في الفقه، وتضفي طابعا متميزا على المعالجة الفقهية، فضلا عما تتركه من أثر في نفوس المتلقين الذي يدفعهم الارتباط القلبي والوجداني بالصديقة الزهراء سلام الله عليها إلى الاحتكام إلى أقوالها والامتثال لتعاليمها والاقتداء بسيرتها العظيمة.

ولا عجب إذا أطلق العلماء على »من فقه الزهراء عليها السلام« مسمى (الكتاب المعجزة)، ولا عجب إذا عرفنا أن الإمام الراحل شوهد في منام أحد أهل الصلاح أخيرا وهو في مقام عالٍ عظيم في الجنة، فلما سئُل عن ذلك أجاب: »إن ما أوصلني إلى هذا المقام في الجنة هو كتاب من فقه الزهراء عليها الصلاة والسلام«.

شبكة النبأ المعلوماتية- االاربعاء  23/تموز/2008 - 19/رجب/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م