بين الابوانية والحداثة

د. مازن مرسول محمد

 ملخص:

 ربما استفاقت الابوانية العربية المتمثلة بالثابت التراثي الفكروي على صدمة احاطة الحداثة وتجلياتها لها بدائرة تكاد تفصل كل مقومات هذا التلازم الثابت.

 فالمسألة بدت واضحة وهي بون شاسع بين ما تعتقد به وتتقولب له الابوانية التقليدية والتقوقع القابعة فيه، والجانب الآخر الحداثوي الذي يناقض التقليدية دون القضاء على جذورها.

 ان اصرار العقلية العربية على التمسك بالتقليدي حتى وان كان غير ملائماً لا للحياة ولا حتى لمنهجية المنطق والفكر الحالي، هو ليس لعدم القدرة على التغير والمواكبة وانما الخوف من تهدم الاساس الذي ترفض هذه العقلية ان تعرضه لاي شيء، وتحسب ببقائها عليه ستدوم حياتها دون ادنى جدلٍ وشك.

 فكيف ستتمحور التناقضات الكبيرة بين الابوانية والحداثة، وهل هناك مدىً للتوافق دون صدع الاساس التراثوي التقليدي والوصول به الى بر العقلنة الهادفة الى التجديد دون الغاء التراث ؟

مقدمة

 لقد بدأت الابوانية العربية تبرز بتناقضاتها ومزالقها بشكلٍ كبير الى السطح بعد ان كانت قاتمةً ومستقرةً نوعاً ما، لوجود المحيط المهيأ لاستقرارها وبقاؤها تمارس دورها التأخري والمساهم في تعثر وبقاء البنية الفكرية والثقافية العربية على وضعها دون تقدم، الا ان ما يثير الدهشة ان الابوانية العربية لم تتحرك لو لم تصعقها الحداثة واساليبها، وتوضح مدى بديهيتها وبأنها في الاتجاه المعاكس لسير وتطور الامم، والا فهي مستمرة في سيرها الهزيل دون الانقطاع والتنبه الى ضرورة التغيير في كل شيء مع حفظ الاستحقاقات التراثية العربية.

 ان الحداثة والعقلانية قد جاءت كرد فعل للتقليدية الابوانية العربية، وبذلك تشكلت هناك نقاط صراع واخرى للتوافق لغرض تغيير الواقع العربي والنهضة بالتراث الى عقلانيةٍ جديدة دون الانغلاق عليه والقبول بما فيه من منطقية او انعدامها.

 فبروز الدواء هو لاستفحال الداء حيث ان التراث العربي مثقل بالثابت الفكروي والبنيوي الذي جعل الحداثة وما بعدها تناقض كل شيء فيه بل وتثور عليه محاولة منها لا لتغيير قيمه التراثوية، وانما لتأصيلها بنوعٍ يدور حول العقلانية والمنطق.

 فما طبيعة العلاقة التفاعلية بين الابوانية كشكلٍ من اشكال التقليدية والحداثة كشكلٍ من اشكال المعاصرة والعقلانية ؟

وكيف تسير هذه العلاقة والى اية مدى ؟

جذورٍ متأصلة

 ان الابوانية العربية ليست حديث وصنيع اليوم، وانما جل التراث العربي في علاقاته وتفاعلاته وقيمه قد قام على الابوانية التسلطية المتفردة القائمة على ثبوت الاشياء والحكم بها والرفض في تغييرها. فالتقاليد العربية والتراثية ثابتة ولم تتغير، وحتى لم تطرأ عليها تغيرات جوهرية، وذلك مراعاة للتراث الثابت الذي يأبى التغيير ويفضل التقوقع حول الذات. فبرزت هناك تسلطية الافكار غير المنفتحة والتقاليد والقيم غير التحررية والمتمسكة بالقديم ورفض الجديد على اعتبار ان الجديد يحطم التراث ويلغيه، ومن ذلك برزت التناقضات مع الحداثة.

 ان مسألة التمسك بالتراث بما فيه من تناقضات باتت مسالة واضحة المعالم ومميزة للبنية العربية بكل نواحيها، حيث ان تسلطية الافكار والاتجاهات برزت في اشكال الرفض لكل ما هو جديد وعقلاني، والتمسك بكل ثابت قديم دون محاولة تغييره خوفاً من الغاء جذوره والانتقاص منه.

 يذكر هشام شرابي ان الابوانية العربية هي مقولة اجتماعية اقتصادية تشير الى مجتمع تقليدي جاء قبل الحداثة، وان الابوانية العربية المستحدثة المعاصرة تشير الى ظاهرة محلية ناتجة عن الاحتكاك بالحداثة الاوروبية خلال العصر الامبريالي (1).

 ومن ذلك نرى بوضوح تجلي الابوانية في المجالات الاجتماعية المتماسكة للمجتمع، أي في جميع حياة الانسان العربي ومنها ايضاً القضايا الاقتصادية، فما انفكت حياة الانسان العربي خالية من الاتجاهات التسلطية الابوية التي ترفض الخروج عن المألوف مع وجوب صون التراث بكل ما فيه دون النظر الى الانفتاح والتغير.

 ان المسألة بهذه الصورة قد اختطت لنا امرين، الاول يتعلق بكيان المجتمع التقليدي الابواني العربي، والثاني بالمجتمع الحداثوي وكيف اصطدم مع المجتمع التقليدي.

 لقد استطاعت الثقافة الغربية ان تحقق هيمنتها واكتساحها لكافة الفضاءات الثقافية من خلال العمل على تعميق الهوة الكبيرة بين النخبة (Elite) والجمهور، ففي الوقت الذي تتبنى فيه النخب السياسية والفكرية مشروع الحداثة كاطار مرجعي وسبيل دائم للخلاص من احتكار سلطة البنى التقليدية، وتغدو الحداثة غطاءاً آيديولوجياً في يد هذه النخب، تزداد قناعة الجمهور بضرورة التحالف بين هذه النخبة والهيمنة الاجنبية ؛ الامر الذي يؤدي الى بروز شرعية للتيارات المحافظة التي تحتمي بالتراث وترفعه شعاراً ضد العدو الاجنبي الذي يحدد وحدة الجماعة ويوشك ان يقضي على انسجامها وقوتها (2)، حيث ان تمسك العرب بالتراث دون الانحلال عنه، لم يكن فكرة تحتاج الى تطبيق، وانما هي اساسيات نهضوية بنى العرب عليها تراثهم، وهناك مهمة شاقة في محاولة تغيير الاطار الذي من خلاله يمكن عقلنة التراث والسير به الى موازاة سبل الحداثة دون الاخلال بمنهجية التراث والاضرار به.

 لقد باتت مسألة الابوانية اساسيات تراثية لا يمكن الاستغناء عنها، اذ ان التراث العربي قد انشأ الابوانية واصبحت جزءاً من مكتسبات وقيم العرب التي تمثل مكاسب قيمية لا يمكن التخلي عنها، فالمسألة هي ان رفض الحديث والعقلانية لم يأتِ من فراغ، وانما ما اقره التراث يقوم على التمسك بالتقليدي دون محاولة تغييره والنظر الى كل جديد بأنه مساهم في تهديم قيم وبنى التراث.

صراع مستمر

 حقيقة ان الابوانية التقليدية لم تدخل الصراع مع الحداثة والعقلانية بشكلٍ ارادي، وانما جل تناقضات ومراوغات الحداثة قد اجبرتها على النزول الى حلبة الصراع، واصبح هناك مبادىء للمتصارعين يحاولون تثبيتها والقيام على اساسها. فبعد ان كانت التقليدية الابوانية لا تخشى اية شيء وهي مستمرة في نهجها في طور المجتمع المحافظ، قد وجدت نفسها امام اتجاهات تحاول تغييرها جذرياً ولربما اقتلاعها متمثلةً بالحداثة ومواقفها العقلانية والتنويرية، وحتى الحداثة بالمقابل دخلت الصراع لمحاولة منها لنبذ القديم وتاطيره بأطر العقلانية الرافضة للثبوت والمشجعة لكل حديث ومتطور قائم على التفكير المنطقي العقلاني. ومن ذلك اصبح الصراع لربما غير معد له من جهة التقليدية الابوانية التي باتت في موقع المدافع محاولةً الحفاظ على اساسياتها ومرتكزاتها، ومعد له من جهة الحداثة، وهي في موقف المهاجم الراغب في تحطيم القديم او عقلنته.

 ان هناك توقعات تفضي الى ان الصراع بين الطرفين قد يؤدي الى انتقالٍ تدريجي من التقليدية الابوانية الى الحداثة.

 فالانتقال من التقليدية الابوانية الى الحداثة كما يقول ( سيريل بلاك ) يشبه الى حدٍ ما التغيرات في الوجود ما قبل البشري الى الوجود البشري، ومن المجتمعات البدائية الى المجتمعات المتحضرة (3)، ومن ذلك اشارة واضحة الى طبيعة الصراع المحتدم المؤدي في النهاية الى الانتقال الى الصيغة النهائية المتمثلة بالحداثة دون خسارة بنى التقليدية وتحطيمها.

 فأداة الصراع المتمثلة بالحداثة كما تحدد في وضعيتنا الراهنة، هي النهضة والانوار والعمود الفقري الذي يجب ان تندرج وتنتظم فيه جميع مظاهر العقلانية والديمقراطية والتحرر (4).

 ان الشيء الذي يمكن ان يضاف ويرصد للحداثة، هي انها ترفض التقوقع والانغلاق، وتدعو صراحةً للتحرر الفكري المنطقي والعقلاني دون الانعزال والجمود، الا ان ذلك لا يفضي بالضرورة الى تهديم وتحطيم التراث بقدر ما يكون الوسيلة الانجع لقولبة التراث الى عقلانية مفضية الى المواكبة دون الانعزال.

 فالحداثة قد دلت على جوانبها بشكلٍ واضح من خلال امتداد انسراباتها المختلفة المتمثلة بالسيطرة والتوسع الشامل والحركة الحرة.

 ويكمن الفرق الاساس بين المجتمع الحداثوي والتقليدي كما يؤكد على ذلك معظم منظري الحداثة، في السيطرة المهيمنة والكبيرة للانسان الحداثوي على بيئته الطبيعية والاجتماعية، وتتمثل هذه السيطرة بدورها في توسع المعرفة العلمية والتكنولوجية عملياً، وتعكس هذه الفروق بالنسبة الى كل المنظرين فروقاً في توجهات الانسان نحو بيئته وتوقعاته منها، ان التباين بين الانسان الحداثوي والانسان التقليدي هو مصدراً للتباين بين المجتمع الحداثوي والتقليدي. فالانسان التقليدي ميال للاذعان ويتوقع الاستمرارية في الطبيعة والمجتمع، ولا يؤمن بمقدرة الانسان على التغيير او السيطرة، وعلى النقيض من ذلك يؤمن الانسان الحديث بالتغيير والرغبة فيه وعنده ثقة مستمرة في مقدرة الانسان على ضبط التغيير لتحقيق الاهداف المرجوة(5). فالصراع واضحاً بين كيفية المحافظة على الاصول وكيفية اخراج تلك الاصول الى جادة العقلانية والحداثوية.

 ان التراتب التقليدي في فكر الانسان الابواني العربي قد برز واضحاً ؛ الامر الذي جعل من الحداثة تنتقد ذلك التراتب وتأتي بما هو انفع منه لتحرر ذلك الانسان وتحيله الى كائن متغير قادر على رفع شأنه دون النكوص والعودة او البقاء ثابتاً في مكانه.

 لقد برزت الحداثة كموقف للروح امام مشكلة المعرفة، حيث انها موقف للروح امام كل المناهج التي يستخدمها العقل للتوصل الى معرفة ملموسة للواقع (6)، مع تأصيل منطقية التعامل مع الواقع بعقلانية وانفتاح تنويري غير مغلق.

 فالحداثة عملية تجانس، حيث توجد نماذج مختلفة عديدة للمجتمعات، اذ يرى البعض ان المجتمعات التقليدية لها امور قليلة مشتركة فيما بينها ما عدا حاجتها الى الحداثة، وتشترك المجتمعات الحديثة من جهة اخرى في امور متشابهة اساسية تنتج الحداثة، توجهاً الى خلق نقطة التقاء بين هذه المجتمعات (7). فدخول هذه المجتمعات الصراع فيما بينها لابد ان يفضي الى نتيجة نهائية قد تكون متمثلة بالتقاء المصالح او الاتفاق على نقاط مشتركة، او القطيعة النهائية والاصرار على تبني المعتقدات والمواقف القديمة التي يمثلونها بالتراث.

وضوح المواقف

 وحتى يدافع التراثيون عن مبادئهم وما وجدوا انفسهم عليه، قد اتخذوا موقفاً متصلباً من الحداثة على اعتبار انها تحاول نسف معتقداتهم واحالتها حطاماً، ووجدوا فيها العدو الاول لكل ما نسجوه ووجدوا آبائهم عليه.

 فالحداثة هي ليست ثمرة الغزو الفكري كما يرى التراثيون، وانما هي نتيجة لفقدان الثقافة العربية القدرة على التحكم في الواقع وسلوك الناس والجماعات، ونزوع الجماعات المهمشة الى التطابق مع النموذج الثقافي السائد تبرره الرغبة الملحة في البقاء والاندراج مع التأريخ، وذلك ما اغفلته النظرية التراثية العربية (8).

 ان جل كره التراث للحداثة هو لابراز الاخيرة لسلبيات وتناقضات التراثية بما فيها من تسلط ابوي قيمي فكروي وحياتي، وكنتيجةً حتمية لرفض التغير الهادف الى تحويل التراث الى عملية تفاعل مستمر غير ساكنة، اصبح انصار التراثية يلقون بالتهم على الحداثة على انها اطار غربي هادف الى تحطيم الاسس العربية الاصيلة.

 فإظهار البغضاء للحداثة والعقلانية ليس سببه هدف الحداثة الداعي الى تبني موقف فكري حداثوي متغير، وانما نتيجة لتعرية سلبيات التراثوية القائمة في مواقع منعزلة ومظلمة، ومن ذلك برز الضعف الواضح للتأصيل التراثي في طروحاته التي لا تستطيع مواجهة الحداثة، فمع ايمان الجميع بأن الحداثة داعية الى العقلانية والتحرر، نجد هناك اصرار تراثوي على رفضها والنكوص عنها، وما ذلك الا ضعف وتردد واضح المعالم والحدود.

 ان غياب الروح النقدية لواقعنا واتجاهاتنا، جعل انفتاحنا على الغرب شكلاً من اشكال الاستيراد، فكما نستورد البضائع والتجهيزات نستورد العقائد والافكار والأيديولوجيات، كما ان وعينا بالتراث وعي لا تأريخي، فقد ظل التراث مجرد نصوص واكوام من المعارف والتطورات يعاد انتاجها بصورةٍ ماضوية وبتوظيف أيديولوجي شعاراتي في كثير من الاحيان (9)، فلا نكاد نفقه من التراث غير انه نصوص لا يجب ان ينظر لها من زاوية التغير، وتعاملنا على هذه الشاكلة قد كتب على تراثنا عدم المواكبة والنعت بالانغلاق والانعزال، حيث ان جل ما يلقى اللوم عليه هي انفسنا، فلو قمنا بأنضاج وعينا لما يدور حولنا لفقهنا ان التراث يجب ان يتحرك في الجهة المناسبة دون جعله رصيد معرفي لا فائدة منه الا الثبوت والتحجر.

 ان الخطاب العربي المعاصر بتراثيته اذ ينظر الى الغرب نظرة الانبهار والاعجاب بعقلانيته وتحرره وحداثيته وتقدمه العلمي، سرعان ما تتضخم لديه صورة الغرب المتسلط الاستعماري النازع والهادف الى تهميش الثقافات الاخرى وتفكيك بنياتها التقليدية وخصوصياتها الثقافية (10).

 وحقيقةً ان عدم فهم الذات العربية لواقعها ونقد سلبياتها قد برر ذلك الى فهم الآخر الغربي بالسلبي وبأنه العدو الاول للعرب والتراث العربي.

 فالذات العربية اليوم قد دخلت في حلقةٍ مفرغة، فهي لا تعِ ما هي عليه وما يجب عليها فعله، لذلك فقد جاءت ردود افعالها متخبطة بعض الشيء في عملية التلقي المناسب للوافد الغربي (11)، ومن ذلك برزت النعوت الواضحة والمختلفة التي تصف الغرب بالمتكبر والهادف الى نزع الصفات الجوهرية للتراث العربي، والتي هي حقيقة ناتجة عن ضعف في الداخل العربي لما يجب ان تكون عليه حال الإستراتيجية العربية في التلقي والاستقبال.

كيف نتبنى عقلنة التراث

 لربما تكون مسألة تبني ادخال التراث دوامة العقلنة والتحرر ليست بالامر الهين، الا انها ليست مستحيلة، كما ان دعوة الحداثة الى نبذ وتحرير الانسان العربي من القديم ليس معناها تحطيم تراثه، وانما بكل وضوح تفضي الى اعطاء التراث نفحة مرونة وتقبل للنقد والتعامل مع الآخر بأيجابية.

 الا ان ما تم ملاحظته ان مصادر اللاعقلانية في الفكر الاسلامي المعاصر من جهة، هي الرؤية المنغلقة للعالم، ومن جهة اخرى الكيانات العاجزة عن صون المصالح الوطنية والقومية، وعن تحسين حياة الناس بالامتناع عن اشراكهم وادخالهم في ادارة شئون حياتهم ودفعهم بأتجاه الخصومة مع انفسهم والعالم (12)، ومن المؤسف حقاً تصور ان هناك لا عقلانية عربية متمثلة بالتراثوية المنغلقة والعقلانية المتمثلة بالحداثة وارهاصاتها، فالمسألة باتت تنبع من دواخلنا وما يجب علينا ان نتبناه ونعقله.

 فتبني الحداثة يحتاج اعداد العدة من ناحية التكيف الملائم لكل ما هو تقدمي وحديث، والذي بالتأكيد سيصطدم مع التقليدي الذي يحتاج الى فهم صور واستراتيجيات ذلك الحديث وكيفية مسايرته له دون الاخلال بقواعد التراث. فلا الحداثة تعني تحطيم التراث ولا التراث يقبل ان تحطم اساسياته.

 ان طريق الحداثة يجب ان ينطلق عندنا من الانتظام النقدي في الثقافة العربية نفسها، وذلك لغرض تحريك التغيير فيها من الداخل، حيث ان واقع الثقافة العربية اليوم لا يمكن تغييره في اتجاهات التحديث الجديد، ما لم يجر ذلك من الداخل، وما لم ينطلق العمل من دراسة معطياته واعادة ترتيب كياناته المختلفة (13).

 والتجديد من الداخل يجب ان يكون استراتيجية عامة سواء تعلق الامر بالثقافة العامة ام بالثقافة الجماهيرية، ومن الملاحظ ان ادخال الحداثة في ثقافتنا الجماهيرية يتم بطريقة سطحية كل همها هو اضفاء الطابع الفلكلوري الرخيص عليها وتقديمها كسلعة سياحية ترضي السائح الاوروبي الذي يجري وراء الغريب والشاذ والمضحك، تماماً مثل ما يفعل بعض حداثيينا على مستوى ثقافتنا العامة، حيث يجلبون الغريب والمثير في الثقافة العربية وينشرونه على سطح ثقافتنا في شكل فلكلور حداثي لا اصل له في ذلك ولا فصل، لا في وجدان ولا في وجود شعبنا (14). فهل نستطيع ان ننقد ونظهر سلبيات تجلياتنا الفكرية الماضوية المنغلقة بالتراث وبعقليتنا التي تأبى التغير لما درجت عليه عاداتنا وتقاليدنا ؟

 حقيقةً ان تمكنا من ذلك وفهمنا كيف ان واقعنا مليء بالتناقضات السلبية، لامكن لنا ان نحدد زاويةً ننظر من خلالها الى دعوة الحداثة فنجدها صائبة في نظرتها للتراث الذي يحتاج الى تأهيل بمعنى الكلمة دون فرض الرتابة عليه، الا ان جمودنا وانغلاقنا بمبرر الحفاظ على تراثنا من غزوات الغرب، هو ما دفعنا الى الوقوع في ملابسات الصراع وحصولنا على اضعف النقاط في معركةٍ لا رابح فيها الا الداعي الى نبذ القديم او عقلنته بالشكل الذي يحافظ على التراث ويفعله بالطريقة التي تخدم العقلية والبنية العربية بشكلٍ كبير.

 فأن اردنا التمسك بالابوانية التقليدية بكل تسلطيتها، فلا يجب علينا تحطيمها بدخول الحداثة اليها، وانما نزع لباس التسلط وجمود الافكار والدوران المفرغ عنها، وبذلك قد نكون وعينا ضمان انفسنا لمستقبلٍ لا شك فيه.

خاتمة

ثنائيات عديدة تداخلت وتمحور حولها الصراع بين العرب والغرب، من القديم والحديث او التراث والمعاصرة او الاصالة وغيرها، وما تلك الانسرابات الا جدلية واضحة حول محاولة تغيير القديم الى وجهةٍ جديدة ترفض التقوقع والانعزال.

وقد وجد التراث العربي نفسه في دوامة الصراع مع الحداثة الهادفة الى تحريكه الى وجهة العقلنة دون محاولة إلغاءه، ومن ذلك برزت تناقضات التصلب التراثوي ورغبة الحداثة في تغيير ذلك التصلب الى مرونةٍ قصوى تساهم في تقبل الآخر ومعرفة حدوده لاكتساب المقومات اللازمة لدخول عصر النهضة والحداثة.

* كلية الآداب – الجامعة المستنصرية – قسم الانثروبولوجي

[email protected]

........................................

الهوامش:

1- الطاهر لبيب، الاسرة العربية: مقاربات نظرية، مجلة المستقبل العربي، العدد 308، السنة 27، بيروت، 2004م، ص84.

2- عبد الوهاب شعلان، خطاب الحداثة في الفكر العربي المعاصر، مجلة المستقبل العربي، العدد 300، السنة 26، بيروت، 2004م، ص56.

3- تيمونز روبيرتس، ايمي هايت، من الحداثة الى العولمة: رؤى ووجهات نظر في قضية التطور والتغيير الاجتماعي، ترجمة: سمر الشيشكلي، سلسلة عالم المعرفة، الجزء الاول، العدد 309، الكويت، 2004م، ص224.

4- محمد عابد الجابري، محمد محمود الامام، التنمية البشرية في الوطن العربي: الابعاد الثقافية والاجتماعية، سلسلة دراسات التنمية البشرية، اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا ( الاسكوا )، 1996م، ص25.

5- تيمونز روبيرتس، ايمي هايت، من الحداثة الى العولمة، مصدر سابق، ص223.

6- عبد الوهاب شعلان، خطاب الحداثة في الفكر العربي المعاصر، مصدر سابق، ص49-50.

7- تيمونز روبيرتس، ايمي هايت، من الحداثة الى العولمة، مصدر سابق، ص226.

8- عبد الوهاب شعلان، خطاب الحداثة في الفكر العربي المعاصر، مصدر سابق، ص56.

9- نفس المصدر السابق، ص53.

10- نفس المصدر السابق، ص47-48.

11- مازن مرسول محمد، هجرة الذات، مقال منشور على موقع مجلة النبأ الالكتروني:

www.annabaa.org/nbanews/48/399.htm

12- رضوان السيد، المصادر الفكرية للعقلانية في الفكر العربي المعاصر، مجلة المستقبل العربي، العدد 315، السنة 28، بيروت، 2005م، ص91.

13- محمد عابد الجابري، محمد محمود الامام، مصدر سابق، ص26.

14- نفس المصدر السابق، ص26.

شبكة النبأ المعلوماتية- االسبت  28/حزيران/2008 - 24/جمادي الثاني/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م