الأَمْنُ فِي المَنْظُورِ القُرْآنِي

(الحلقة الأولى)

 محمّد جواد سنبه

بدون أدنى شكّ، لا يمكن اقامة أيّة دولة بدون وجود عنصر الأمن الذي يحفظها من المخاطر الداخلية والخارجية، وإن توافرت لها مقومات الوجود المادية والمعنوية. فالأمن ربما يقابل وجود الدولة برمته، إذا ما وضعناهما في كفتي ميزان واحد. فكم من دول انهارت بسبب عدم ضبط الأمن فيها، ولأجل ذلك تنبه حكام الدول، منذ بواكير تأسيس الدول المستقرة، في فجر التاريخ لـهذا الموضـوع. ولأجل البحث في مفهوم الأمن، لابدّ ان يكون لهذا المفهوم تعريف محدد، ومدلول معيّن، لغرض تناول أبعاده و دراستها. فقد ورد في الصحاح للجواهري: [(أمن) الأمان والأمانة بمعنى. وقد أمنت فأنا آمن. وآمنت غيري، من الأمن والأمان.... والأمن: ضد الخوف. والأمنة بالتحريك: الأمن. ومنه قوله عز وجل: (أمنة نعاسا)](انتهى). ولعل الزبيدي في معجمه (تاج العروس)، يقدم لنا مفهوماً أوسع لمفردة الأمن بقوله:((أمن) عدم توقع مكروه في الزمن الآتي، وأصله طمأنينة النفس وزوال الخوف..... والأمن: المستجير ليأمن على نفسه.. وقرئ في سورة براءة: (إنهم لا إيمان لهم)، بالكسر، أي لا إجارة، أي لم يفوا وغدروا)(انتهى).

فمن هذه المصادر نستخلص مفهوماً محدداً لمصطلح الأمن هو: عدم خوف الانسان واطمئنانه على جميع ما يخصه مادياً ومعنوياً حاضراً ومستقبلاً. لقد غطى القرآن الكريم موضوع الأمن من عدة جوانب منها ؛ الأمن النفسي، و الأمن الشخصي، و الأمن الاجتماعي، و الأمن الاقتصادي، (ويمكن أنْ نُضيف إليها الأمن العقائدي (الذي يجعل الانسان يحافظ على عقيدته من الإنحراف)).

ومع تطور حياة الانسان برزت الحاجة لعدة انواع من الأمن منها ؛ الأمن الصحي، و الأمن البيئي، و الأمن العسكري، و الأمن النووي، وأمن المواطنة و الكفاءآت، وغير ذلك الكثير من مصاديق الأمن، التي تتصل بحياة الانسان المتعددة الجوانب والمختلفة الأغراض.

1. الأمن النفسي: إنّ حالة الاطمئنان والاستقرار النفسية، عالجها القرآن الكريم في العديد من الآيات الكريمة، فاصبح المنظور القرآني لموضوع الأمن، له رؤيته الخاصة حسب قضايا الإنسان المختلفة الزوايا والمتعددة المواضيع، فمرة يعالج الأمن بوصفه مشتقاً من مفهوم الإيمان، بمعنى التصديق القلبي بالشيء، الذي يقود إلى حالة نفسيّة مستقرة، ويمكن أنْ نطلق عليه مصطلح (الأمن النفسي). كقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). وقال تعالى: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ)، نلاحظ في هذه الآية المباركة، اقتران الأمن بالنعاس، وهو تعبير عن حالة الاطمئنان، التي توّلد حالة الراحة النفسية حيث يسترخي الانسان، و يستيجيب فيها للنوم الطبيعي، على عكس حالة الخوف التي تولد القلق و تبعد النوم عن الانسان.

2. الأمن الشخصي: وهناك وجه آخر للأمن يتعلق بالشخص (الأمن الشخصي)، وقد عبّر عنه القرآن الكريم بالآية التالية: (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ)، واصفاً حالة الخوف عند نبي الله موسى (ع)، و قلقه النفسي عندما قتل شخصاً في مصر، فأدت هذه الحالة من الخوف، الى عدم أمنه واستقراره، فكان دائم الخوف والتوجس..

3. الأمن الاقتصادي: القرآن الكريم يربط بين موضوع الأمن وموضوع الاقتصاد ربطاً مباشراً، حيث ينعكس تأثير احدهما على الآخر بشكل مباشر، فإذا وجد الأمن انتعش الاقتصاد، وإذا ازدهر الاقتصاد تحقق الأمن والعكس صحيح. هذه النظرة التكامليّة تشكل ركيزة اساسية من ركائز الأمن، بالاضافة الى ركائز اخرى ؛ منها الوعي وعدم الجهل، والثقافة، والتقنيات المساعدة في ضبط الأمن، وصرامة القانون، واختفاء مظاهر الفساد الاداري والمالي، والاحساس العميق بالمواطنة وحب الوطن، والشعور العالي بانسانية الانسان وكرامته، وعوامل التربية البيتية والمدرسية، وغيرها. فالأمن لا يتحقق بوجود الفقر والحرمان، والقرآن الكريم وضع لنا استراتيجة أمنية غاية في الدّقة، حيث قال: (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ). فالمجتمع الجائع لا يمكن ان يستقر أمنياً، لأنّ الفقر يولد عند الانسان الفقير(نقصد الفقير غير المحصّن بالايمان والتقوى والاخلاق القويمة، وغير ذلك من الفضائل)، حالة من الهلع والخوف من الحاضر، و يأساً من المستقبل، إضافة إلى انهيار عزيمته وقواه النفسية، فيصبح صيداً سهلاً لكل من يقدّم له سدّ خلته، وبذلك يسيطر عليه و يسخره كيف شاء وانّى شاء، وهذا ما يحصل فعلا في تجنيد المجرمين والارهابيين في جميع البلدان.

لنأخذ من مدرسة الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع)، درساً في أثر الوضع الاقتصادي على الانسان. يقول (ع) لابنه محمد بن الحنفية: (يَا بُنَيَّ، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ الْفَقْرَ، فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْه، فَإِنَّ الْفَقْرَ مَنْقَصَةٌ لِلدَّينِ، مَدْهَشَةٌ لِلْعَقْلِ، دَاعِيَةٌ لِلْمَقْت!). يشير الإمام في كلمته، إلى تأثيرات الفقر على الانسان، وانعكاسه على الحالة الذهنية له، يقول (ع): (مَدْهَشَةٌ لِلْعَقْلِ)، اي أنّ العقل يصاب بالدهشة، أي التحير وعدم القدرة على اتخاذ القرار الصائب الصحيح، ويقول (ع) كذلك: (الْفَقْرُالْمَوْتُ الاََْكْبَرُ)، (وَالفَقْرُ يُخْرِسُ الْفَطِنَ عَنْ حُجَّتِهِ) أي الفقر، يجعل الانسان الذكي الفطن عاجزاً عن تقديم علمه وعطائه للآخرين.

 وللحديث تتمة في الحلقة المقبلة انشاء لله تعالى.

* كاتب وباحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 20 أيار/2008 - 13/جماد الاول/1429