التجديد الديني من منظورات مغايرة

الاستاذ زكي الميلاد

من الكتابات التي تناولت الحديث عن التجديد في الإسلام والفكر الإسلامي, هناك نسق فكري يصنف من حيث الهوية والمرجعية والانتماء إلى ما هو خارج عن منظومة الفكر الإسلامي, وينتمي إلى منظومات فكرية ومرجعية أخرى مغايرة.

وقد ارتبط الاهتمام بهذا المجال عند من ينتمون لهذا النسق الفكري, نتيجة سياقات موضوعية وزمنية, كانت لها طبيعتها الفكرية والسياسية والاجتماعية, المحفزة والضاغطة بعض الشيء نحو الاقتراب من هذا المجال, والتعاطي معه, وإبداء وجهات النظر في مسائله وقضاياه, لدواعي هي في الغالب أيديولوجية وسياسية.

وهذا يعني أن الاهتمام بهذا المجال عند هؤلاء, جاء طارئاً ودخيلاً, ولم يكن أصيلاً ومنسجماً في الغالب مع مسلكهم الأيديولوجي, ونهجهم السياسي, وطبيعة اهتماماتهم الفكرية, لكون أن الدين ومسائله وقضاياه يمثل في نظرهم أو نظر بعضهم حذراً من التعميم, من موضوعات الماضي العتيق, وينتمي إلى عالم التراث الرتيب, ويصنف على مرحلة ما قبل تطور الفكر الإنساني نحو الوضعية العلمية والعقلانية, ولكون الحديث عنه أيضاً, لا يثير الدهشة, ولا يبعث على اليقظة, ولا ينخرط في عالم الحداثة. 

والكشف عن هذه السياقات الموضوعية والزمنية, بإمكانه أن يفسر لنا كيف تطور الاهتمام بهذا المجال عند هؤلاء, وكيف تغيرت صورته, وما هي طبيعة الخلفيات والبواعث.

وفي هذا النطاق يمكن الحديث عن أربعة سياقات رئيسية, سوف نشير في هذه المقالة إلى سياقين هما:

أولاً: السياق الذي يتحدد بمرحلة ما بعد نكسة حرب 1967م, النكسة التي أحدثت صدمة عنيفة في منظومة الأيديولوجيات العلمانية واليسارية, ودفعت بها نحو ما سمي في وقتها بمعركة تفسير الهزيمة, حيث حاول البعض أن يحمل الفكر الديني مسؤولية هذه الهزيمة, ويفتح عليه معركة فكرية تضعه في دائرة النقد والمسائلة, وفي قفص الاتهام.

وفي هذا النطاق, صدرت بعض الأعمال الفكرية, لعل من أبرزها كتابين هما: كتاب (نقد الفكر الديني) لصادق جلال العظم, الذي أراد أن يصور فيه على حد زعمه بؤس الفكر الديني, ومدعياً الكشف عن بنيته الخرافية, والبرهنة على عدم انسجامه مع الفكر العلمي والتطور العلمي, ومنتصراً في المقابل إلى الماركسية ومنهجها في التحليل العلمي حسب ادعائه. وقد أثار هذا الكتاب في وقته جدلاً فكرياً ساخناً ارتد على صاحبه بمحاكمة قضائية رفعت بحقه في القضاء اللبناني.

والكتاب الثاني هو: (نحو ثورة في الفكر الديني) لمحمد النويهي, وهو عبارة عن مجموعة كتابات نشرها بمجلة الآداب اللبنانية, بعد تلك النكسة, وجمعها لاحقاً في كتاب صدر عام 1983م.

ثانياً: السياق الذي يتحدد بما عرف في الأدبيات الإسلامية بعصر الصحوة الإسلامية, أو اليقظة الإسلامية, أو الانبعاث الإسلامي, الذي شهدته معظم المجتمعات العربية والإسلامية في حقبة ثمانينات القرن الماضي, حيث أخذت الأفكار الإسلامية بالصعود والامتداد الأفقي والعمودي, الواسع والمؤثر بين الشريحة الكبيرة من الناس, وتراجعت في المقابل وانكمشت الأفكار غير الإسلامية التي فقدت بريقها وسحرها الثقافي والاجتماعي, الوضع الذي أثار حساسية ونقمة المنتسبين لهذه الأفكار غير الإسلامية, دفعت البعض منهم لأن يفتح حديث التجديد الديني لمواجهة هذه اليقظة الإسلامية ونقدها ومحاصرتها.

وفي هذا النطاق, جاء ملف: (تجدد الفكر الديني), الذي خصصته مجلة (الوحدة) الصادرة بالمغرب, في عددها الثالث عشر لشهر أكتوبر 1985م, فحين تحدثت المجلة عما أسمته الخلفية النظرية لاختيار هذا الموضوع, اعتبرت أنه جاء في ظل ما أصبح متعارفاً عليه بالصحوة الإسلامية, وانتشار الحركات والطوائف الدينية. شارك في أعمال هذا الملف الدكتور محمد أحمد خلف الله من مصر, والدكتور برهان غليون من سوريا, والدكتور محمد أركون من الجزائر, والدكتور سالم حميش والدكتور سالم يفوت من المغرب.

ومن الذين ناقشوا هذا الملف في وقته الدكتور رضوان السيد, وختم هذه المناقشة بوجهة نظر قال فيها (إن هذا الملف بمجلة الوحدة يقرأ المسالة الإسلامية المعاصرة من وجهة نظر الساخطين عليها, والمتضررين منها, فضلاً على أنه يترك مسائل كثيرة بغير نقاش).

النخب الفكرية والتجديد الديني

ثالثاً: السياق الذي يتحدد بالمرحلة التي شهدت فيها النخب الفكرية الإسلامية المعاصرة, اهتماماً بالحديث عن تجديد الفكر الإسلامي, وذلك مع بداية تسعينات القرن العشرين, حيث ظهرت العديد من الكتابات التي تضمنت في إطار الحديث عن تجديد الفكر الإسلامي مراجعات نقدية للظاهرة الإسلامية المعاصرة, ودعت إلى تطويرات وإصلاحات بنيوية ومنهجية, واقتربت من الحديث عن الأفكار والمسائل والمفاهيم التي ينشغل بها العالم المعاصر, كالديمقراطية والحداثة وحقوق الإنسان والعلاقة مع الآخر وحوار الحضارات وغيرها, كما قدمت هذه الكتابات معالجات واجتهادات إسلامية لإشكاليات وقضايا معاصرة.

وقد لفتت هذه الكتابات نظر واهتمام بعض النخب غير الإسلامية, التي وجدت في هذا النمط من الطرح, مدخلاً حيوياً للانخراط فيه, بقصد التأثير على بنية ومكونات واتجاهات الفكر الإسلامي, وتغيير مساراته ومسلكياته الفكرية والثقافية.

وفي هذا النطاق, جاءت العديد من الكتابات, منها على سبيل الإشارة ملف: (آراء وأفكار عن الفكر الإسلامي وتجديده), الذي نشرته (صوت الوطن) المسجلة بقبرص في عددها الثالث والأربعين, لشهري مارس وابريل 1993م, وشارك فيه خليل عبد الكريم من مصر, ومحمد جمال باروت من سوريا, وماهر الشريف من فلسطين.

رابعاً: السياق الذي يتحدد بمرحلة ما بعد أحداث الحادي عشر سبتمبر 2001م, الأحداث التي وضعت الظاهرة الإسلامية في دائرة النقد والحصار والاتهام, وكانت سبباً لفتح أوسع حديث حول تجديد الخطاب الديني بضوابط وبدون ضوابط, حيث بات الحديث حول هذا الموضوع مفتوحاً ومستباحاً لكل من يريد أن يدلي بدلوه بعلم وبدون علم, فقد كثرت فيه الأقوال, وتباينت فيه وجهات النظر, وارتفعت معه وتيرة النقد والسجال.

وأمام هذا الوضع, وجد الناقدون والناقمون على الفكر الديني الإسلامي فرصتهم, في توجيه النقد والاتهام إليه, ووضعه في دائرة الحصار, والزج به في قفص الاتهام.

وفي هذا النطاق, جاءت العديد من الكتابات التي من الصعب حصرها والإحاطة بها, وهكذا العديد من الندوات التي عقدت في عواصم ومدن عربية وإسلامية وأوروبية, كما تطرقت لهذا الموضوع العديد من التقارير والدراسات الصادرة من جهات حكومية وغير حكومية.

هذه لعلها أبرز السياقات الموضوعية والزمنية, الفكرية والسياسية, التي دفعت أصحاب المنظومات الثقافية والسياسية غير الإسلامية, للحديث عن التجديد في الفكر الإسلامي, وكيف تغيرت وتطورت عند هؤلاء صور واتجاهات الحديث حول هذا الموضوع.

وبالتأكيد هذه ليس نهاية السياقات, فقد تستجد سياقات أخرى تكون لها طبيعتها واتجاهاتها المختلفة, وتغير معها صورة ونمط الحديث حول هذا الشأن.  

* باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة

رئيس تحرير مجلة الكلمة

http://www.almilad.org

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 7 أيار/2008 - 30/ربيع الثاني/1429