تاريخ العراق ومستقبل الديمقراطية

أحمد شهاب

لم يبق حجر قديم يعبق بتاريخ العراق وتراثه العريق إلا وعبث به الغزاة من كل جانب، ولم تبق مدينة يطل عليها نجم نبي، أو وصي نبي إلا ودمرها العتاة على رؤوس أهلها بغتة وهم غافلون، بعض هذا التدمير يجري رغبة في السرقة وجمع المزيد من الأموال والكنوز، لكن بعضه الآخر يتم لأهداف غير مفهومة في الظاهر، التدمير من أجل التدمير، والسرقة من أجل المال، أو هكذا يبدو للمشاهد من بعيد، فما الذي يستفيده المحتل من الصمت تجاه حركة النهب المنظمة للمتاحف والأماكن والقطع الأثرية؟ وما العوائد التي سوف يحرزها من تعتيمه على مجريات إتلاف أو اختفاء الكنوز والآثار من المتاحف والمناطق الأثرية فور احتلال بغداد وحتى الآن؟

كيف نبرر أو نفسر عملية تحويل مواقع أثرية وتاريخية مهمة إلى قواعد وثكنات عسكرية للجيوش الغازية؟ وكيف نفسر عملية النهب المنظم التي طالت الوثائق الجامعية والأجهزة المخبرية في الجامعات ومراكز البحوث؟ وكيف نبرر استهداف واغتيال عشرات المفكرين والعلماء والعقول المبدعة خلال فترة وجيزة لا تتجاوز العام الواحد، نذكر بعضهم ويغيب عن ذاكرتنا العشرات منهم؟

قد يظن البعض أن ما حدث هو نوع من الممارسات الساذجة، فكيف يُفرط العراقيون أو العرب بتاريخهم بهذه البساطة، ويقومون بإتلافه، أو سرقته ولو كان برسم الحاجة؟ وكيف يصمت الغزاة أمام هذا الفعل على رغم بشاعته، ولا يقتنصون الفرصة لتقديم المجرمين للعدالة؟ وهي أسئلة معقولة إذا اتفقنا على أن ما حدث هو مجرد فعل ساذج وعابر، وهو اعتقاد غير منطقي على الإطلاق، فأنا أميل إلى أن ما حدث هو عمل مدروس ومحبوك بدقه عالية، وبالكثير من الفطنة بتاريخ وأهمية منطقة مثل العراق.

أسرار القوة المعنوية

حسب القراءة الأولية للحدث فإن تجريد العراق من تاريخه وجذوره مطلب حساس وضروري في المرحلة القادمة، حتى يمكن التخفيض من قوته المعنوية ونفوذه الثقافي والديني في المنطقة، فللعراق قوة وتأثيرات معنوية جبارة على كل أبناء المنطقة العربية والإسلامية بلا استثناء، فهو مهد الحضارة البشرية، ومقر أولى الحضارات في العالم، والمحتضن الرئيس لأهم الآثار الإنسانية التي لو تم الحصول عليها ودراستها لأحرز العلماء معلومات مهمة ودقيقة تتصل بحركة تطور الجنس البشري، فمن بين المسروقات عدد كبير من المخطوطات والتي توضح تطور مراحل الكتابة في العهد السومري والبابلي والآشوري، إضافة إلى اختفاء المئات من الأختام الحجرية والبرونزية التي كان بالإمكان الاستعانة بها للتعرف على السلالات الحاكمة، وبالتالي التعرف على تطور السلالات البشرية في تلك الحقب.

والأهم من ذلك كله أن أرض العراق تضم مراقد لكوكبة من الشخصيات المهمة من أنبياء ومرسلين وأولياء صالحين، وقيادات دينية وتاريخية بارزة في العصور الإسلامية الأولى، يؤمن بصلاحهم وطهوريتهم جمع كبير من المسلمين إلا ما ندر، وهؤلاء يمثلون إشعاعا روحانيا ودينيا ضخما لا يمكن التقليل من حجمه وسطوته على النفوس. ويبدو لي أن المطلوب في هذه المرحلة بالذات محاصرة وحجب امتدادات وآثار هذا التراث العريق والدفق المعنوي الهائل ووقف زخم القوة الروحية الكبيرة التي يمتلكها تاريخ العراق عند العرب والمسلمين.

ولذلك لا يستبعد العارفون أن تكون المراقد المقدسة في النجف وكربلاء تحديدا هي الهدف الاستراتيجي القادم لأعداء العراق، بعد تجرؤهم على تكرار الاعتداء على مراقد سامراء، ومتاحف بغداد، وكنوز العراق ومختبراته، والاعتداء المتواصل على المدن والمناطق الأثرية المهمة، فضرب هذه المناطق من شأنه إشعال فتنة طائفية في العراق تربكه في حرب داخلية طويلة تستهلك طاقات وجهود كل أبنائه، كما من شأنه استكمال مشروع استهداف المقدسات والآثار النفيسة عند المسلمين.

المسألة السياسية

من المؤكد أن المسألة لا تتصل بمستقبل قيادة العراق الروحية والدينية في العالم العربي والإسلامي فحسب، وإنما ترتبط كذلك بمستقبل القيادة السياسية للعالم العربي، فخلال السنوات القليلة القادمة يُقدر للعراق أن يشكل تحديا حقيقيا للطموحات الغربية في المنطقة العربية، ولو استطاع العراق الفكاك من معضلة الأمن الداخلي، لأمكن له إذّاك أن يأخذ مسارا مختلفا، وإلى حد ملفت للنظر في المسار الديمقراطي.

يمكن لنجاح الديمقراطية في العراق أن تنهض بالبلد إلى مراحل قياسية خلال فترة وجيزة نسبيا، وكل المعطيات التي بين أيدينا تؤكد أن العراق قادر على خلق أنموذج ديمقراطي حقيقي في بحر عربي يعتبر الديمقراطية بالنسبة إليه مجرد كليشهات عامة، لكن من المعلوم أن الديمقراطية لا تقدم ضمانات للنجاح بقدر ما تساعد فقط العراقيين على تشكيل مستقبلهم الذي يتمنون تحققه على أرض الواقع.

ولعل أحد أهم المظاهر البارزة في عراق اليوم، والتي يمكن البناء عليها للأمل الديمقراطي، هو قدرة المتنافسين على الحديث بصوت عال في ساحة البرلمان، حيث تدور منقاشات حامية تتصل بمستقبل البلد، وطموحات أبنائه، والعوائق التي تقف أمام نهضته، وتطرح جميع الآراء على اختلافها من دون خوف كبير من التعرض للعقاب على أيدي السلطة القائمة.

وبإمكان هذه الأجواء، فيما لو كتب لها الاستمرار، أن تشجع الشخصيات العراقية والأحزاب على التوصل إلى نقاط اتفاق حول حزمة من المشكلات العالقة بعيدا عن المشاحنات والانقسامات المضرة سياسيا واجتماعيا، كما من شأنها أن تعزز استمرار الأمل بالقدرة على سد كل المنافذ لانفراد البعض بالسلطة من دون الآخرين، والدفع في اتجاه استقرار الديمقراطية على رغم شدة الانقسامات العرقية والطائفية المسيطرة على البلاد حاليا.

هذه الحركة الدؤوبة نحو الاستقرار الديمقراطي في بلد له وزنه وثقله في العالم العربي والإسلامي مثل العراق يمثل مشروع تحد للطامحين بثروات المنطقة السياسية أو الاقتصادية، ويظهر من تسلسل الأحداث أن أعداء العراق لا يريدون للعراق أن ينهض من جديد، ولا يريدون لديمقراطيته أن تواصل تقدمها إلى الأمام، لكن الحرب تأتي مرة ضد مشروع استقرار العراق السياسي، ومرة ضد تاريخ العراق ومكانته المعنوية، وكأن المطلوب أن تستمر حركة تدمير العراق سواء في جانبه التاريخي أم السياسي، وكلا المشروعين يستهدفان تحييد العراق، وبالتالي إبعاده عن الاضطلاع بأي دور مركزي لاحق داخل المنطقة.

* كاتب كويتي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثلاثاء 6 أيار/2008 - 29/ربيع الثاني/1429