إستنهاض الوعي التشريعي واثره في القانون العراقي

رؤية في المستقبل التشريعي للعراق

د. وليد سعيد البياتي

توطئة:

تقدم دراسة علاقة الانسان بحركة التاريخ فهما لترتيب واشكال لعلاقة الانسان (بالتعالي) الله من منطلق ان علاقته بالخالق تتشكل وفق الجدل الصاعد، باعتبارها علاقة تعبدية، اما علاقته بالطبيعة والمجتمع، فيمكن تفسيرها وفق مفاهيم تفسر اندماجه بالطبيعة والمجتمع لاعتبارات طبيعية واجتماعية، وفي نفس الوقت تفسر موقفه منهما باعتباره متعاليا عليهما بصفته خليفة الله في ارضه. وهنا يظهر دور الوعي في ادراك قيمة الانسان نفسه، فالانسان باعتباره عنصرا فاعلا في حركة التاريخ لايمكن له العمل على تغيير اوضاعة ما لم يكن قادرا على التعالي عليها وتجاوز الاخفاقات ومعوقات حركة التاريخ. فالوعي يمكن ان يصبح معيارا لكشف التباين بين المثل العليا السلبية (المزيفة) وبين المثل العليا الايجابية (الحقيقية والتي هي تتمثل هنا بالتعالي أو الله عزوجل).  ومن هنا يصبح الوعي الايجابي يمثل تحركا عقلانيا ومسؤولا، لتعني المسؤولية من جانب آخر تحركا تشريعيا (مستلهما ومرتكزا على علاقة الانسان بالتعالي – الله -  اذا كان موقف المجتمع من التشريع في هذه الحالة يرتكز على اسس الهية)، وذلك الامر ينطبق ايضا على  المجتمعات التي تتبنى التشريعات التي تزاوج بين التشريع الالهي والوضعي ففي كلتا الحالتين يحتاج الانسان الى الوعي لادراك الجوانب الايجابية وتمييزها عن السلبية وبالتالي يمكن له تخليص القوانين من الاتجاهات اللاواعية والمنحطة. فالغاية من التشريع لاتحددها المواقف الانية ولا الصراعات الفكرية الحاضرة. فالتشريع ينحو باتجاه تحقيق العدل وسعادة الانسان ونقض الحالات الفاسدة المؤسسة على الظلم واسقاط  قيم الانسان.

الوعي التشريعي في العراق المعاصر:

 لاشك ان عملية تغييب الوعي التشريعي التي مارسها حزب البعث ثم صدام خلال فترة حكمه قد اوجدت فجوة تشريعية و قانونية في المفاهيم والقيم القانونية التي شهدتها حركة التاريخ للثلاثين سنة الماضية، كما لايمكن اعتبار ان العراق شهدت تقدما في الوعي التشريعي والقانوني للمرحلة التي سبقت وصول البعث للسلطة. ومن هنا فان المشرع في العراق المعاصر و بعد سقوط الصنم عليه ان يعي الجوانب السلبية لتراكمات وافرازات عصر التداعي والانحطاط النفسي الذي عاشه المجتمع العراقي في الحقب الماضية. ويصبح على المشرع لزاما ان يتبنى موقفا مستقبليا في الرؤى التشريعية، كما عليه ان يكون عاملا مؤثرا في تبيان الاتجاهات التطبيقية للقوانين، فلا يمكن للمشرع ان يكتفي بوضع الاسس دون ان يبين كيفية التطبيق، وهنا تظهر ضرورة الخروج من حالة الجمود التشريعي، فتبني النظرة المستقبلية ستضع المشرع امام مسؤولية الاجيال القادمة، لكن الشكل المستقبلي للتشريع لا يعني الخروج من الماضي والتخلي عنه، كما لايمكن في الوقت ذاته فهم التشريع من منطلقات ماضوية، فالماضوية لا تعني الجمود بقدر ما تعني التجربة, وهنا لايمكن اهمال اسهامات الاجيال والقرون الماضية في اغناء التجربة التشريعية.

أن التنظير لفلسفة تشريعية معاصرة تخدم الاتجاهات المستقبلية للعراق بعد سقوط الصنم تصبح ضرورة ملحة بل مسالة حتمية في ضوء تصارع الايديولوجيات، وتزاحم الاحتياجات والقوانين على حد سواء، ففي البدء ستظهر الحاجة الى وضع مناهج قانونية تسعى الى تخليص القوانين والتشريعات الوضعية القديمة من اكثر الجوانب سلبية الى حين الانتهاء من التنظير لأسس تشريعية معاصرة وفق معطيات ابستمولوجية تجمع التاريخ والاجتماع والاقتصاد في بودقة واحدة. ولما كان الوعي يمثل عملية تراكمية لفهم الاحداث والتجارب عبر اجيال من التاريخ الانساني، فلا يمكن الوصول الى قناعة تفيد ان التحول الى الديمقراطية يمكن ان يتم عبر حرق المراحل التاريخية والغاء التأصيل التاريخي للفهم التشريعي. من هنا نجد أن التجربة الاسلامية في التشريع لا تنطلق من فراغ بل انها تفاعلت مع الماضي وعاصرت الحاضر لتكون رؤيا مستقبلية. غير ان هذه التجربة لايمكن ان تصبح فاعلة خارج حدود الوعي، فالمجتمع الاسلامي والعربي عامة والعراقي خاصة يفتقر الى ادراك قيمة التشريع في الحياة ويستثنى من ذلك اصحاب الاختصاص من مشرعين وقانونيين، فالعلاقة بين الانسان والتشريع تخضع في الغالب لعوامل السلطة وقدرتها على فرض تشريعات معينة وتنفيذ تشريعات اخرى، ففي عصور الدكتاتوريات كعصر  صدام نجد انه حصر بشخصة السلطتين التشريعية والتنفيذية، مما ادى الى تردي المفاهيم وضياع القيم التشريعية والقانونية. ومن هنا نحتاج الى ادراك حقيقة التشريع وازليته من عدمها.

قضية العقل والحق:

 لاشك ان العقل هو المعيار الحقيقي لضمان فهم الحق بإعتبار ان الوحي الالهي جاء ليعيد الانسان الى فطرته الاولى أي الى مدارك العقل الخالصة، وهو في نفس الوقتيحدد المسافة بين العقل الايجابي ( الحقيقي ) والعقل السلبي ( المزيف )، وبذلك يمكن التمييز بين قيم الحق الحقيقية وتلك المزيفة، فالعقل الايجابي في موازنته للقيم يدرك الحقائق وهذا العقل الايجابي يمثل العقل الرسالي وهو بالتالي لايمثل قانونا وضعيا، و ومن هنا كان العقل الرسالي اكثر ادراكا لقيم الوحي  واكثر وعيا به، ولذلك يصبح قادرا على تقييم دورة الحياة واستقامتها. ولما كان القانون الالهي ينفي نظرية (تأليه الدولة) الذي قال به  (هيجل) في ضوء مفاهيم نظرية القانون الطبيعي، والذي ارادوه ان يحل محل الوحي، غير ان عقل الدولة لايمكن ان يصبح عقلا كاملا وشموليا باعتبار ما تقدم لدى الفلاسفة من نفي خلود الدولة وانتفاء ازليتها، وباعتبارها كيانا خاضعا للفناء، وبذلك لايمكن اعتبار الدولة بانها تمثل مطلق الحق، ولكنها قد تمثل جانبا من الحق او بعضا من الحق وفق حركة التاريخ. ولذا يصبح لزاما على الدولة في سعيها لتحقيق العدل والحق ان تعيد استنهاض الوعي التشريعي لدى المجتمع عبر رجال التشريع من اعلام الحوزات العلمية ومن المشرعين القانونيين، على ان لاتتنافى هذه التشريعات والعقيدة الاسلامية، بل ان عليها ان تجعل الشريعة الاسلامية المصدر الاساسي للتشريع ان امكن. وهذا لايتم دون تطوير الوعي الجمعي بحقيقة التشريع وضرورة الالتزام بتطبيق القانون. فلايمكن ان يعيش المجتمع خارج القانون ولايمكن ان تتطور التفاعلات الحياتية ( اجتماعية وسياسية واقتصادية وفكرية) خارج معايير التشريعات وهذه لاتصبح حقيقية دون ان يكون هناك ادراك ووعي.

المستقبل وكونية الامة:

 يثير الحديث عن المستقبل تساؤلا ت حول فيمة الوجود فالامة التي لايتدرك قيمة وجودها لا يمكن لها ان تتفهم امكانية تطوير كياناتها وتحولها من الماضي الى المستقبل، فلا يمكن الاعتماد على الارث التاريخي و الرسالي والفكري دون ان يتم تحديد الاصول التي نشأ عنها هذا الارث، فمثلا نجد ان الاصول التي نشات عليها الفلسفة الراسمالية والماركسية هي نتاج لمنطلقات الفكر الغربي، وبالتالي لا يمكن فرضها وتعميمها على شعوب وامم الارض وذلك لقصور مفاهيمها وحدودية ما تسعى اليه في تشريعاتها، فهي لا تمثل فكرا كونيا يتسم بالشمولية ويمتلك القدرة على الاستمرار، كما ان كلتا الفلسفتين لاتحمل مشروعا مستقبليا للوجود الانساني، وبالتالي يفتقران  للقدرة على البقاء، ومن هنا شهدنا انهيار الماركسية وتقويض مبانيها الفكرية، فالماركسية ولدت وهي تحمل جرثومة فنائها، وكذلك الامر بالنسبة للفكر الرأسمالي فقد شهدت حركة التاريخ على بدأ انهيار نظريتها. فالعالم الراسمالي المتسارع في لهاثه لم يستوعب حركة التاريخ وبالتالي فان انهيار النظرية الرسمالية الوشيك سيكون مدويا اكثر من سابقتها الماركسية، والسبب يكمن في انها لا تحمل مشروعا مستقبليا ولا ترتكزعلى أسس كونية حقيقية، فالنظم التشريعية في المدرسة الرأسمالية تعتمد على منطلقات آنية وبالتالي فالقوانين التي تؤسس لها لاتتصف بالديمومة وستخضع للفناء تبعا للحتمية التاريخية لانها صنعت كونية مزيفة تعتمد على الشكل المادي.

أما الامة الاسلامية فهي على النقيض من الفكر الغربي لانها ترتكز على معايير رسالية كونية. فبينما اعتمدت الحضارة الغربية موقفا سلبيا من الانسان وحولته الى كائن مستهلك وفقا لنظرة تجزيئية ناقصة، جاء الفكر الاسلامي ليطرح نموذجا كونيا قادرا على القيام بتحولات جذرية باعتبار ان مصادره تتشكل خارج الظروف والمعايير التي انتجت أشكاليات الحضارة المعاصرة، فالنموذج الحضاري الاسلامي يتحكم في مسارات حركة التاريخ بدلا من ان يخضع لها أو يسعى لتبرير نتائجها.

هنا يصبح الوعي التشريعي وعيا بمستقبل الامة وهو ينطلق من الماضي نحو الاتي لكنه لايتعامل مع الماضي تعاملا رجعيا، فهو يخلص الماضي من شوائبة ليحقق للامة مستقبلها، فالشريعة الاسلامية خلصت الامة من القوانين الجاهلية ومن ماضويتها وارتباطها بالماضي ارتباطا تقليديا، وانتجت قوانين ترسم حركة الانسان في الاتي وتستلهم الماضي دون ان يصبح عبئا. ولما كنا نبحث في المستقبل التشريعي للعراق وهو يعيش ارهاصات المرحلة ويعاني زخم التحولات ويسعى الى ارساء اسس الدولة في ضوء ظهور عدد كبير من الافكار والاحزاب والتجمعات المرتبطة بحركة المجتمع المدني، فان المشرع عليه ان يدرك قيمة الاحداث كما عليه ان يحدد ملامح الدولة ففي الوقت الذي سعت فيه الفلسفة الماركسية الى (زوال الدولة كما جاء في افكار ماركس) او سيادة الاتجاهات الليبرالية كما تسعى اليه الرؤيا المادية الراسمالية،  باعتبار ان حل الاشكالية الاجتماعية يقع بين الحل السياسي والحل الاقتصادي الساعي الى تحويل المجتمع الى مجتمع استهلاكي يمكن اخضاعة لحاجيات الفرد والتي هي تقع في الغالب تحت يد السلطة الرأسمالية التي ظهرت في الماضي بشكل الانظمة الاستعمارية، والتي تبنت في الحاضر فكرة تأسيس القواعد العسكرية في دول ادعتانها دول حليفة. ومن هذه الرؤية ننصح الحكومة العراقية ان لا تبني رؤاها المستقبلية في قيادة المجتمع هذه الفلسفات فحل الاشكالية الانسانية ليس سياسيا او اقتصاديا بل يكمن في ادراك الانسان لقيمة وجودة وهو ما تقدمه الفلسفة الاسلامية، فوعي الانسان بذاته وتاريخه ومستقبله هو احد العوامل المحركة للتطور، فالانسان لايستمد قيمته الا من علاقته بالخالق.

ففي الوقت الذي اعتبر فيه الغرب ان مرجعيته التاريخية تتشكل عند عصر النهضة ثم تتحدد بعد ذلك في عصر الثورة الصناعية، فان الفكر الاسلامي تتحدد مرجعيته بالشكل الرسالي الذي يؤسس للشريعة الالهية، فالمجتمع الاسلامي يخضع للسلطة الالهية (الشريعة السماوية) بالشكل الذي ارسل به الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله، وهي نفس الشريعة التي حمل لوائها الامام علي عليه السلام، ففي الوقت الذي فشلت فيه الفلسفة الغربية في الشرق، فقد واجهت اشكالية في اخضاع المجتمع الاسلامي وخاصة اتباع اهل البيت. أذ لايمكن صنع تاريخ هذه الامم خارج مفاهيمها التاريخية نفسها، ومن هنا ندرك كيف نجحت الثورة الاسلامية في ايران في تحويل المجتمع الاسلامي الى عنصر فاعل في حركة المستقبل في حين نجد فشل الغرب في التحكم بالشعوب واخضاعها إلا عن طريق الاستعمار والقهر ونهب الثروات.

لابد لهذه الامة ان تطور مناهج الوعي الجمعي، لابد لها ان تستنهض عقل الفرد لتخرج به من حالة السكون الى الحركة، فادراك الحقيقة لايبدا من خارج البناء الحقيقي ولكن من الداخل، والمخاض العراقي الحالي سيشهد الكثير من الاخفاقات على المستوى الفكري والاجتماعي كما سيحقق نتائج ايجابية، فلا يمكن للجوانب السلبية ان تستمر لما لا نهاية لان هذا الموقف يعاكس حركة التاريخ.

* المملكة المتحدة – لندن

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 16 نيسان/2008 - 9/ربيع الثاني/1429