الميلاد وتاصيل الحقيقة الكونية للرسول الخاتم

صلوات الله عليه وآله

بقلم: الدكتور وليد سعيد البياتي

توطئة في التكوين الرسالي:

لاشك انه لا اختلاف في المظاهر التكوينية للانسان مهما تباين شكله وتعددت الوانه، او تنوعت محال وجوده، إلا انه يبقى  جزء من الوحدة التكوينية الاولى التي خلق منها، بل انه يصبح مثالا واقعيا لهذه الوحدة والتي هي ذاتها وحدة تكوين الوجود الكلي، حيث ان الانسان احد مظاهر هذا الوجود. ومن هنا تصبح الولادة اية ولادة، تعني ولادة وجود في حيز من الوجود، هذا بالنسبة للولادات العامة بشكلها المطلق، لكن كيف يكون الامر بالنسبة لولادة انسان جعل الوجود الكلي في حوزته، وتحت طاعته، لاشك ان ولادة هذا الانسان ستتجاوز القيم الانية للوجود، كما انها ستعيد تقييم الزمان والمكان من منطلقات علوية.

 وفي ضوء هذه الرؤيا الاخيرة جائت ولادة الرسول الخاتم محمد صلوات الله عليه وآله الاطهار, فلم تكن ولادته استنساخا عمليا لولادات بشرية سابقة، بل كانت تحولا تكوينيا يطرح مشروعا مستقبليا للانسان. لقد جائت ولادة النبي الخاتم لتضع الانسانية امام حقبة تاريخية غير مسبوقة، لاعتبارات خاتميتها من جهة ولكونها خلاصة الكمال الوجودي من جهة اخرى.

لاشك ان ولادته شكلت اصلا في فيض الباريء في وصول الانسانية الى غاية مراحل كمالاتها الوجودية والنفسية، لاشك ان الرسول الخاتم كان انسانا بكل معايير الانسانية لكنه في ذات الوقت كان معيارا للكمالات التي يفترض بالانسان الارتقاء اليها، ومن هنا كان الانتخاب والاختيار من الله تعالى شأنه ان يختار محمدا صلوات اللهعليه وآله ليكون خاتم انبيائه ورسله، فلم يكن الاختيار عشوائيا او عبثيا، اذ لاعبثية في الوجود " افحسبتم انما خلقناكم عبثا وانكم الينا لاترجعون " المؤمنون/115. وهذه اللاعبثية سنة ثابتة ترسخ قيمة الخلق وبالتالي قيمة الولادة، وهي من جانب أخر تنحو منحا ارتقائيا تتكامل فيه المكونات لتصل تقصى درجاتها التكوينية، ولهذا فانولادة نبيى تكون مصحوبة على الدوام بتفاعلات تكوينية ووجودية فوق العادة، اشبه بالتفاعلات الكيمائية في الكيمياء الفيزيائية التي تؤشر لانتاج عناصر راقية، ومن هنا كانت تلك الظواهر والخوارق الفلكية والكونية التي تؤكد حدوث هذا الحدث الجبار.

الرسول يمثل حقيقة كمال الوجود وكمال النعم:

قال بعض الفلاسفة: " ان الله تعالى شأنه قد جعل لكل كمالا ينساق اليه بطبعه وقد هداه الى هذا التخصيص به تسخيرا " كما جاء في قوله عزوجل: " أعطى كل شيء خلقه ثم هدى " طه/50. وقد كان من لطفه تعالى ان وهب الانسان نعما لاتحصى: " وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها ان الانسان لظلوم كفار " ابراهيم/34. فقد جعل الله ضربا من التعم دائم لايبيد ولا يحول وهي النعم الاخروية، وجعل ضربا آخر يبيد ويحول وهي النعم الدنيوية، ولاشك ان الرسول الخاتم كان صلوات الله عليه وسلامه كان نعمة كبرى بل هي افضل النعم الني وهبها الله عزوجل للانسانية بل للتكوين والوجود الكليين، فكان وجوده الشريف نعمة لامتناهية تؤتي آثارها في الحياة الدنيا وفي الاخرة وهي بالتالي من النعم الباقية والتي لاتبيد، لقد شهد الوجود الكلي على حقيقة هذه النعمة منذ الولادة المباركة، بل انها كحقيقة ثابتة كانت منذ الخلق الاول.

يبدو انه ثمة تلازم بين التكامل الوجودي وتكامل النعم، فكلما كان الوجود وجودا راقيا كلما كانت النعمة تحتل منزلة اعلى في سلم النعم. لقد جائت ولادة النبي الاكرم صلوات الله عليه وآله لتربط الماضي بالحاضر ولتؤسس لمستقبل الانسانية، فقد سارت عملية التكامل الوجودي عبر حركة التاريخ  لترتقي في ذروات مثلت الرسالات والنبوات المباركة اعلى مراتبها، فولادة كل نبي ورسول ووصي كانت تمثل ذروة عالية، لكن ولادة النبي الخاتم مثلت منتهى ذروات الانسانية في تطلعها نحو الكمال المطلق.

ولادة كمال العناصر الارضية:

قد لا يكون التفاضل بين البشر نتاجا للتمايز العقلي فقط، بل هو نتاج للطبيعة التكوينية التي جبل منها الانسان، فالجبلة الاولى لها تأثير كبير في تحديد النفسيات والسلوكيات، ومن هنا قال الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله " إنني وعلي خلقنا من طينة واحدة " فلا شك ان العناصر الكيميائية التي تكون المادة الجسمية للانسان تكاد تكون نفسها لكل بني آدم، لكن هناك على الدوام تخصيص وتفضيل يحدد التباين، فالعناصر الطبيعية التي جبلت منها طينة الرسول الخاتم وامير المؤمنن علي صلوات الله عليهما وآلهما بالتأكيد تختلف عن بقية الهناصر في طهارتها ودرجة نقاوتها، ففي هذه الطينة المباركة لاتوجد شوائب كيميائية او فيزيائية، بل انها الكمال العنصري الذي تتميز به طينة الانبياء والرسل والاوصياء، فاختيار الله عزوجل لهذه الشخصيات لتكون شخصيات قيادية ليس اختيارا عشوائيا، بل اختيارا انتقائيا، فالعنصر الرسالي هو عنصر تتوحد فيها لكمالات المادية والنفسية و لكن هذا التوحد لايخرج الرسول او النبي والوصي من انسانيته وبشريته، فهو يبقى انسانا وبشرا يحس ويتالم، يجوع ويعطش، بتعب ويستشعر النشاط، لكنه يروض نفسه للحفاظ على هذه الكمالات والارتقاء بها نحو التسامي والتعالي ( نحو ما هو الهي)، من هنا تصبح ولادة الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله ولادة كمال العناصر الارضية في عالم حقيقة الوجود ( باعتبار وجود اطلق عليه اسم عالم حقيقة الخفاء او الغيب) / من دراسة لعلم الحقائق للبياتي.

وفي هذا الباب وفي تصنيف من يدخلون الجنه يقول صدر المتالهين الشيرازي (قدس) : " منهم المقربون الكاملون في المعرفة والتجرد " فهذا التكامل النفسي هو نتاج لرياضة النفس ودفعها نحو الطاعة والتجرد عن الماديات وبالتالي سيعني الخلو لله عزوجل والذوبان في طاعته، والنظر الى الدنيا والاخر بعين البصيرة استجلاء لما هو آتي وتنزيها للنفس عن ما هو حاضر في الحياة الدنيا من شهوات ورغبات.

لقد استطاع الرسول الخاتم هو آل بيته الاطهار صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين ان يحقق المعادلة المستحيلة نسبيا بين المادي والالهي، بين الارضي والكوني، فكانت ولادته تعني ارتقاء بالوجود المادي وتجليا للحقيقة الاخروية على سطح الارض، فعلى الرغم من ارضية العناصر التي ولد منها الا انه تجلت فيه الانوار الالهية التي جعلها الله له منذ التكوين الاول فتركبت فيه عناصر النور وعناصر الارض، فسما حتى على املاك السماء، بخلقة ورأفته فكان حقا رحمة للعالمين كما ارادها الخالق تعالى شأنه، فهذا الازدواج بين الارض والكوني لاتعني تناسخا لما هو كوني على الارض، ولكنه يعني الارتقاء بالارضي الى ما هو كوني عبر الطاعة ورياضة النفوس والخضوع الكلي لارادته تعالى شأنه وجلت قدرته، فالناس متوجهون نحو المبدأ الاعلى حسب ما اودعه الخالق في غرائزهم، فما من انسان إلا وفيه الحركة المعنوية نحو التكامل الدنيوي في مسيرته الدائبة نحو الاخرة، غير ان الحركة المعنوية تتفاوت بين انسان وآخر، هذا في حدود الانسان غير المكلف برسالة سماوية فما بالك بالانبياء والرسل عليهم ألاف التحايا المكلفون بحمل رسالة الله وتبليغها للبشر.

 وحتى في هؤلاء المكرمون مراتب تفضيل: " ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض" الاسراء/55.  وهو تفضيل يتناسب طرديا ودرجة التكليف، ليتكامل التكليف بالرسالة الخاتم وصاحبها محمد صلوات الله عليه وآله.

من هنا نجد ان هذه الولادة المباركة قد حققت للانسانية اقصى غاياتها في التكامل على كافة المستويات الماديوة والنفسية والعقلية وقبلها كلها على المستوى الالهي باعتبارها تكريسا لحياة الانسان باتجاه الاخرة في عملية تفاعل ايجابي، بل انه في المفهوم التاريخي والحضاري تمثل اعلى مفاهيم الحضارة الانسانية الساعية الى بلوغ قيم عليا يحققها النهج الرسالي.

هذا هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب النبي المكي المدني الهاشمي صلوات الله عليه وآله. هذا محمد ليس في سلسلته من آدم عليه السلام الى يوم مولده ألا نبي او رسول او وصي، هذا محمد نبي خاتم الانبياء ورسول خاتم الرسل ابا الزهراء البتول سيدة نساء العالمين، هذا محمد سيد المخلوقات وسيد بني أدم فالسلام عليك ياسيدي يا رسول الله يوم ولدت والسلام عليك يوم ارسلت شاهدا ومبشرا ونذيرا، السلام عليك يوم بلغت رسالة ربك فجاهدت في الله حق الجهاد، وصبرت في جنب الله وعبدت الله عبادة هي حق اليقين، والسلام عليك يوم استشهدت والسلام عليك يوم تبعث حيا.

* المملكة المتحدة – لندن

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية-الثلاثاء 25 آذار/2008 - 17/ربيع الاول/1429