صمت الخانعين، وجراحات الحقيقة في الكرادة

بقلم د. وليد سعيد البياتي

 لعنة الصمت:

     بضعة اشخاص قتلوا في القدس فقامت الدنيا ولم تقعد، اميركا، الامين العام للامم المتحدة، الجامعة العربية، دول غربية وشرقية تندد وتطالب بانزال العقوبات وزراء خارجية العالم كلهم تصارخوا، لنصرة دم يهودي سقط هناك بل حتى ان عباس نفسه تباكى عسى ان يكسب عطف العزيزة كوندليزة رايس، أما نحن!! وما ادراك ما نحن!! فقد ذبحنا في الكرادة وفي غير الكرادة يوما بعد يوم، وسنة بعد أخرى، حيث الاجساد تفجر والرؤوس تقطع والاعراض تنتهك والحرمات تداس بنعال امريكية وغيرها ومع ذلك فقد لبست خارجيتنا عباءة الصمت، والتحفت بالسكون، وكأن الذي يجري في كوكب آخر، في مجرة اخرى،  والحكومة ارتحلت الى واد آخر، ونوابنا منشغلون بالترحال مرة وفي نهش لحم بعضهم البعض مرات.

 لقد اصبح الصمت لعنة فلا ادري مالذي يفعله وزير الخارجية وسفراءه، اليست مهمتهم كشف الحقائق للعالم حيث يتواجدون!! ام انهم يريدون فقط الاعتماد علينا نحن عراقيي المهجر!! اليس الاجدر ان يقال وزير الخارجية من منصبه لضعف كفائته ولتهافت الاداء الدبلوماسي، فنحن هنا في بريطانيا لم نستلم اي بيان من وزير الخارجية او من سفيرة المنشغل بالدعوات والولائم، والذي يثير جوا من الكراهية بين افراد الجالية بتفضيله البعض على الاخر!! اما في الداخل فياللصمت، وكانهم تعودوا الصمت، حتى صار الكلام عيبا، وصفة يكرهها العرف الاجتماعي، لقد كتبت اكثر من مرة حول ضعف الاداء الحكومي، وفي كل يوم يخرج علينا مجلس الرئاسة بقضية تشغل الناس عن الحقيقة، فما الذي فعله البرلمان كجهة تشريعية والحكومة كجهة تنفيذية ومجلس الرئاسة بصفته القيادية، مالذي فعلوه حقيقة لايقاف نزيف الدم؟!!

 أين الحزم الذي هو اساس الحكم؟ اين الشجاعة في التصدي بشكل حاسم وقاطع؟ حتى نظرية المصالحة التي تقاتل البعض عليها واوقف كل النشاطات لاجل تمريرها لم تؤتي ثمارها وستتحول مجالس الصحوات الى عنصر هدم جديد بعد ان تم اختراقها وتلقيها الاموال من السعودية، كل ذلك يجري والاستاذ زيباري اما منشغل بسفراتة التي لم تظهر اي جدوى او بالظهور على شاشات الفضائيات معلنا براءة وزارته من الفساد في تبريرات مضحكة ومبكية في آن، والحكومة بدل ان تعمل بشكل جاد تعلق امالا وهمية على جامعة الدول الخرفة، فقتل خمسون شخصا في اليوم بدل من مائة اصبح انتصارا تطبل له وسائل الاعلام وكان الدم لايكون دما إلا بالكثرة!! وإذا قتل ثلاثون بدلا من ستين اصبح رقما يستحق الدخول في كتاب غينيس للارقام القياسية، وليس غريبا ان المجلس الاسلامي هو الكيان الوحيد الذي اصدر بيانا ومع ذلك فان اصدار بيان لايعني شيئا بالنسبة لقيمة الدم المنتهك والمباح على قارعة الطرقات.

ففي دولة في عالم آخر كانت الجهات الرسمية ستخضع للتحقيق وترمى خارج العملية السياسية، اقول في عالم آخر في وطن آخر، فالعراق صار حلبة للدماء والوزراء والنواب يفضلون الخوض في قضايا جانبية وشخصية بدلا عن الاهتمام بمداواة الجراح، فجراحات العملية السياسية لاتحاج الى اطباء وجراحين من مستشفى مدينة الطب ولا من مستشفى ابن النفيس، او اي مستشفى تخصصي آخر، بل تحتاج الى جراحين في علم السياسة، جراحين في الفكر الحضاري، تحتاج الى فلاسفة كي يجيبوا على الاسئلة المتراكمة منذ سقوط الصنم، تحتاج الى خبراء في تحويل الكلمات الى فعل، تحتاج الى عباقرة لا يحترفوا مهنة الصمت، تحتاج الى رجال دين تعلموا من الحسين عليه السلام حس الثورة وقيمة النهضة والجهاد، لا الركون الى زوايا الغرف ليدير الاخرون شؤون الدين، فالشعب الذي يقدر ان يخرج بتسعة ملايين إنسان في الاربعينية الحسينية وبثلاثة ملايين في زيارة الرسول الاعظم صلوات الله عليه وآله في استشهاده العظيم، شعب لا يتعب من البحث عن قيادة حسينية، قيادة علوية جهادية، شعب يرفض صمت الاخرين، من ابناء جلدته ومن اعراب النفط، شعب كهذا يستحق ان يضحي سياسيوه حتى بمناصبهم من اجل راحته وانماءه ونهضته، فهل سنجد من يكسر حاجز الصمت؟! ام سنبقى حتى ياتي الاخرون ليحطموا لنا الاصنام.

صرخة الجراح:

     قبل أشهر طلب مني استاذ اللاهوتيات في المجمع الكنسي البريطاني ان افسر له سبب "الانهيار السريع للحضارة العربية الاسلامية وتراجع الاتجاهات العلمية العربية والاسلامية التي كانت سائدة في العالم والغرب خاصة الى قبل اكثر بقليل من ثلاثة قرون، وكيف ان العلوم والفلسفة لم تستطع الصمود في حين انها كانت اهم مصادر الفلسفة الاوربية المعاصرة " فقلت له : " أن المشكلة لاتكمن في مصادر العلم والفكر أو التشريع الاسلامي ولكنها تكمن في الاشخاص وفي التطبيق ومناهج البحث بعد ان تخلت هذه عن اصالتها، فبدلا من نصير الدين الطوسي وابن سينا وصدر المتالهين والفارابي وغيرهم من العباقرة ظهر حفنة من انصاف المتعلمين ومن جهال المفكرين كابن باز وابن جبرين وابن عثيمين، وحتى بين الشيعة هناك كثرة من لايفقه في المذهب الا ما يدركة طالب الابتدائية في حضرة اكاديمي عريق، ولا يدرك من العلم ألا اولياته وبدلا عن العلم انتشر الجهل وصار التفقه في الدين عيبا ومذمة، وصار العلم الحقيقي مستنكرا امام ظلامية الفكر المعاصر وجاهلية العقل في خوضه في مستنقعات الضحالة الفكرية... " بقي صاحبي مندهشا: " كيف ان امة مثل هذه لم تتمكن من اعادة انتاج عبقريات اخرى"،  فقلت له وفي صدري من الجراح ما فيها: " أن المشكلة ليست في انتاج عقول فلدينا عبقريات لاتعد ولا تحصى ولكن المشكلة تكمن في المناخ والسياسات والاهواء، فالعلماء مازالوا يبعدون عن مراكز القرار، ولا تؤخذ مشورتهم، والمناصب تتوزع وفق الحسابات السياسية وليس وفق المنهج العلمي الاختصاصي ... " .

لاشك انه ثمة تباعد مقصود بين السياسة والعلم، فالسياسي بات يخشى العالم لان يدركا ان الاهواء السياسية لاتتفق والعقل التحليلي، فحتى الاكاديمي عندما يمارس السياسة ينزع معطف المختبر ( اي يتخلى عن المنهج العلمي) لصالح الاهداف والمصالح السياسية، وبالتالي تخسر السياسة الاتجاه العقلي لهذا العبقري، فبدلا من ان يبقى عقلا ناطقا يتحول الى عقل صامت ألا فيما ندر، وقد يكون الدكتور القاضي وائل عبد اللطيف احد هؤلاء القلة، فهذا رجل لم تستلب السياسة عقله العلمي بل انه قد غذى الوعي السياسي بعلميته، فرفض ان يكون في دائرة الصمت، وآلى على البقاء ضمن كوكبة العقل. لقد كتبنا وناشدنا ودعونا الاخرين في محاضرات عدة، وفي تجمعات عدة لكن الصمت صار لغة السياسة، بل صار جرثومة العصر، ووباء سريع الانتشار، والاخوف ان يتحول الى قانون بعد ان صار عرفا سياسيا مرة واجتماعيا مرة اخرى، واخشى ان يتحول الصمت الى حكمة خالدة فلا نسمع من ينطق، حتى يصير النطق لعنة وجريمة يحاسب عليها القانون. فمتى نتعلم النطق؟!! متى يتعلم السياسي انه من دون العالم لا يكتسب شرعيته!! متى يتعلم السياسي ان صمت الشعوب لايعنى ابدا الرضا بالواقع والا لما عرفت الثورات على مسار حركة التاريخ.

اي شعب هذا الذي يرضى ان يداوم على قتل نفسه؟!! اي شعب هذا يقبل بالاستمرار في تقديم رقاب ابنائه ليستمر الساسة في صراعاتهم؟!! فمتى نتعلم صرخة الثورة متى ندرك ان الحسين عليه السلام ما ثار ليعلمنا الصمت ولكن ليعلمنا الثورة، فمتى تأتي ايها الغائب لتعيد لألسنتنا القدرة على النطق؟

* المملكة المتحدة – لندن

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 12 آذار/2008 - 4/ربيع الاول/1429