دَعْوَةُ الرَسُولِ... و نُكوصُ الأُمّة

محمد جواد سنبه

إنّ وعي أي أمّة لا يمكن اختباره مالم تتعرض تلك الأمّة إلى هزّة فكرية او معتقديّة قويّة، هذه الهزّة هي التي تعيد توازن الأمّة، وتجعلها تبحث عما فقدته من وعي،  وتعيد ترتيب أولويات قناعاتها، حسب الأهمية التي تفرضها، ثوابت الدين أو العقل أو العصبيّة أو المصلحة أو حتى العاطفة، تبعاً لقناعة الانسان في وضع السُلّم الترتيبي لهذه الأوليات.

 وهي التي تجعل الأمّة تراجع مواقفها، وتعيد تقييماتها للمواقف من جديد. ومن المعروف أن قسماً من الأمّة (أيّة أمّة كانت)، لا يستشعر بوجود القائد أو المفكر أو المصلح، استشعاراً كاملاً، مادام ذلك القائد على قيد الحياة يعمل مع الأمّة. وسرعان ما يختفي وجود القائد، ينتبه المجتمع جزءاً أو كلاً، بأنّ هناك وجوداً كان يسدّ فراغاً سياسياً أو فكرياً أو عقائدياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً قد انتهى. وان كان هذا الاستشعار، له خصوصيات من حيث القوّة والضعف، تتصل بتوجّه الأفراد والجماهير إلى القائد، و أيضاً تخصّ وعيهم واستيعابهم لأفكاره.

 فكل شخص له قراءآته لشخصيّة القائد، تعتمد على الفهم في كيفيّة التعاطي معه أو ضدّه. فهناك معطيات كثيرة تتولد منها قناعات الأشخاص، هي التي تحدد طريقة القراءة، و بالتالي اتخاذ القرار في أنْ يكون الشخص ضدّ هذا القائد أو معه. فالافراد أو الجماهير أو الأمّة، الذين لا يعرفون قراءة الحقائق والثوابت، لا يستطيعون أنْ يحددوا رأيا صائباً (على ضوء ثوابت معينة) يوصلهم لموقف صائب، يستطيعون من خلاله اتخاذ قرار، أو تحديد اتجاه، أو بلورة قضية توحدهم مع القائد. فأؤلئك الافراد أو الجماهير أو الأمّة، يمثلون حالة موت الوعي على مستوى الفرد والمجتمع والامّة أيضاً.

فالأمم والمجتمعات والأفراد، الذين يتّسمون بصفة الوعي الفكري، والثقافي، والعقائدي، يكونون أشدّ التصاقاً وتواصلاً مع قياداتهم، وهذه المسافة في القرب من القائد، هي التي تحدد لحظات الإنتصار، عبر التاريخ الإنساني لأمم وشعوب ومجتمعات انسانية مختلفة، (إذا كان القائد صاحب قضية حقّة). وخير مثال على ما أقول، أنّ الرعيل الأول من الصحابة المسلمين المؤمنين، الذين لم يتجاوز عددهم المئة إنسان. هذه الثلّة التي فرّت مهاجرة مرتين، من قسوة أهل الجاهلية في مكّة، (مرّة إلى الحبشة، وأخرى إلى يثرب). وجراء تفاعلهم وقناعتهم وانشدادهم مع قيادة الرسول (ص)، استطاعوا ان يحققوا وجود أمّة، أنْ يصنعوا كيان أمّة، بمكونات مادية بسيطة جداً، معوضين النقص المادي بقوّة روحيّة عظيمة، في زمن صعب مليئ بالتحديات والتناقضات معاً. فتحدت هذه الثلة ملك قيصر الروم وجبروت كسرى فارس. هذا الوجود الحديث الذي يمتلك معطيات عقائدية ومفاهيم قيمية جديدة، لم ينجزها أو يكتسبها من الفتوحات الجغرافية، وأسر الجواري والاستحواذ على الغنائم، واستيراد الخمور من (ماندرين). فجغرافية الارض ليست من هدف الأديان السماية على الاطلاق، إنّها هدف الملأ المنتفعين المترفين والطغاة والجبارين. أمّا الدّين فهدفه الذات، هدفه المعنى، هدفه الجوهر وليس العرض أو الصورة. فالصورة والمظهر عروض زائله لا تصمد، أمام تغيرات الزمن. وحتى لا تعطي هذه المظاهر العَرَضِيّة، أي تقدم للبشرية، ولا تعود إليها بأيّة فائدة، سوى ما تعطيه من جمال أيام حياتها. فلم يسجل التاريخ أنّ امرأة جميلة، قد أغدقت على التاريخ البشري مسحات من جمالها. أبداً لم يحصل هذا، وانما إذا قدمت المرأة (غير الجميلة) للانسانية عطاءاً معيناً بروحها، فانها ستخدم الانسانية اكثر من الاولى الجميلة.

واجد من المناسب ان اسوق مثالاً مادياً آخراً، فتلك جنائن بابل المعلقة هي مجرد خرائب تحكي عن طغيان وجبروت ملوك سخّروا قوى الفقراء والمغلوب على امرهم لبناء هذا الصرح كي تسعد به امرأة الملك، هذا الحادث شغل قطعة من الزمن وتوقف اثره. بينما لو نأخذ ما قدم افلاطون للبشرية، نجد تفاعل التاريخ مع فكره مازال لحد الآن يتفاعل مع التاريخ اضافة وتطويراً وانضاجاً وسعة. فالرسالات السماوية تهتمّ بصناعة الذات و إنشاء الكيان الإنساني السليم وغرس المبادئ في الصميم، لذا نرى المبادئ السامية تتفاعل مع التاريخ، ولا تكون أبداً في منطقة ما، خارج التاريخ. 

إنّ ما حصل مع نبينا محمّد (ص)، جسّد الحالة السلبيّة مِنْ وعي الأمّة، وهذه الحالة انتجتها بالتأكيد، مرحلة تاريخيّة سابقة، كانت في حينها تتميّز بتأصيل، قيم الوثنيّة و الحرب والظلم والتعسف والاستعلاء والوأد والربا والمتاجرة بالعبيد والجنس، وتقسيم الناس الى طبقة غنيّة وأخرى فقيرة... وغيرها الكثير. وكانت الأمّة تتفاعل معها(بصورة عامّة) على أساس انها من امجاد المفاخرة، ومن أصل التراث المقدس لها: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ). إن ومضة الرسالة التي جاءت على اليد المباركة للمصطفى(ص)، والتي استوعبت مفاهيمها الثلة المخلصة من الأمّة، التي عاشتها بروحها و طبقتها على جوارحها، قبل أن تطبقها على الغير، ففهمت مقاصد الدين وعقلته، كما اشار الى ذلك أمير المؤمنين الامام علي بن ابي طالب (ع)(عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية، فان رواة العلم كثير، ورعاته قليل.)(شرح نهج البلاغة/ابن أبي الحديد/ج 13/ص 317).

إنّ مديات الاستيعاب الفكرية للرسالة المحمدية المباركة، جعلت من كل مؤمن بها خصوصيته المتميّزة، فشكّلت هويّة ذلك المؤمن وميزته.  فمثلاً علي بن ابي طالب (ع) من احدى خصوصياته أن منزلته من النبي(ص) (بمنزلة هارون من موسى)، و أبو ذر(رض) اصبحت هويته (الصدق)، وجعفر بن ابي طالب (ذو الجناحين)، وسلمان (منا اهل البيت)، وعمار (من عادى عمارا عاداه الله) واسامة بن زيد (من خياركم)، وزيد بن حارثة (أحب الناس إلي)، و سلمان وصهيب وبلال (اذا كنت اغضبتهم لقد اغضبت ربك) (فضائل الصحابة/ النسائي). وهناك غيرهم من المخلصين لايتسع المجال للتعريج على مميزاتهم. وبما اننا في معرض ذكر فضائل بعض الصحابة (المخلصين)، لابد أن نتذكر ان صفّ المسلمين، كان يضم ايضاً اصنافاً أخر مثل: صنف (المنافقين) وصنف (الطلقاء) وصنف (الملعونين) وصنف (الافاكين) وصنف (المتخاذلين) وصنف (المؤلفة قلوبهم)....

فمن الطبيعي ان يتحمل الصنف الأول، اعباء رسالية كبيرة ومسؤولية تاريخيّة عظيمة وتضحيات جسيمة، لأن نشر الدعوة والمحافظة على سلامتها، أمران يصعب جمعهما معاً. و هؤلاء المخلصون (رض) أمدّوا الأمّة بزخمين عظيمين جداً، فكري ومعنوي، ولا غرابة لو قلنا ان استمراريتهما متوقدة لحدّ الآن، ولا عجب إذا قلنا أنّ الأمّة تأخذ لحدّ اليوم من عطاء أولئك الأخيار.  ففي عقدين وسنين قليلة عاشت تلك النخبة الخيّرة من الأمّة، مع الرسول (ص) حولت المجتمع الذي كان يعيش في غياهب الجاهلية والتخلف، من مجتمع كان منعزلاً، لا يقوى من الوقوف امام تحديات و مدنيات وحضارات ذلك العصر، الى أمّة تصارع جبروت كسرى وقيصر. فتفتحت عيون الناس على ثقافات ومدنيات وعقائد وانماط عيش مترف ولذيذ، لم يعرفها مجتمع الجزيرة العربية من قبل.

تقول السيدة فاطمة الزهراء (ع) في خطبة لها، تكشف فيها عن حالة العرب قبل البعثة: (...وكنتم على شفا حفرة من النار مذقة الشارب ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطئ الاقدام تشربون الطرق وتقتاتون الورق أذلة خاشعين تخافون ان يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله برسوله صلى الله عليه وآله وسلم بعد اللتيا والتي وبعد ما منى بهم الرجال وذؤبان العرب)(بلاغات النساء/ابن طيفور/ص13). في زمن الرسول محمّد(ص) كانت الجرعات المعتقدية، تسري في نفوس الناس بحرارة أقوى ودفق اعظم عمّا هي عليه لاحقاً، (أي بعد التحاق الرسول (ص) بالرفيق الأعلى). كانت مرحلة قيادة الرسول مرحلة يسودها مبدأ نشرعقيدة الاسلام وفكره، ونشر تعاليم وسلوكيات الاسلام ابتغاء مرضاة الله تعالى، دون ان تشوبها شائبة من حبّ الدنيا، انها كانت دعوة متوجهة إلى الله تعالى باخلاص صادق. لكن فيما بعد خالط الاخلاص شيئاً من حبّ المكاسب والمغانم، من هنا اخذت جذوة المدّ العقائدي والفكري ينتابها شيء من الوهن والضعف، وهذان العاملان (الوهن والضعف) اخذا يشتدان كلما تقدم الزمن الى الامام مبتعداً عن المقطع الزمني لحياة الرسول (ص). ولا غرابة اذا سمعنا ان لقب(كسرى العرب) يطلق على احد الصحابة (الطلقاء) في زمن الخلافة الراشدة. إن الكارثة حلت بالأمة اثناء احتضار الرسول(ص) وبعد وفاته، فظهر تيار(حسبنا كتاب الله)، الذي يتبنى فكرة الاكتفاء بما في القرآن الكريم، والاستغناء عن عترة أو سنة رسول الله (ص)، على كلا روايتي (العترة أو السنة) (جاء في خطبة الرسول (ص) في حجة الوداع  (اني تارك (مخلف) فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا)،(  وفي احدى الروايات (...كتاب الله وسنتي)). لقد تاسس منهج الفصل الواضح بين القرآن والعترة، أو بين القرآن والسنة. والفصل بين القرآن والعترة لا نناقشه، لأنه كما يدعي البعض من مختصات كتب معينة، لكن الذي يجب ان يخضع للنقاش مبدأ الفصل بين القرآن والسنة، الذي يفرضه السؤال التالي: اليس قول رسول الله وفعله وتقريره سنة ؟ الاجابة نعم بالتأكيد. إذن كيف تردّ سنة لرسول الله (ص) يريد ان يثبتها للأمّة ليمنعها من الضلالة ؟. (وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ). ومن ثم كيف تصبح سنة رسول الله (لاحقاً) هي السيف الفيصل في الامور ؟. ان رزية امّتنا تكمن في تاريخها، وعلتها تعيش في ذاتها، ومكمن ضعفها في عصبية بعض ابنائها.

بعد رحيل رسول الله (ص) ظهرت حالة التصدع في الجسم الاسلامي، ونما تيار (حسبنا كتاب الله) وتبين ان هذا التيار لا يعرف تفسير آيات الكتاب العزيز كقوله تعالى (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ)(سورة عبس31-32)، وهذا التيار لا يعرف الكثير من الاحكام ومنها حكم(الكلالة). وجاءت فترة تدوين الأحاديث النبوية المطهرة في القرن الثاني من الهجرة، واخذت الاحاديث التي يتذوقها الخلفاء تاخذ طريقها بين طيات الكتب، هذه المرحلة فرضت السياسة إرادتها، بان تُفَصّل شخصية الرسول (ص) على مقاسات الحاكم لا العكس. ولا عجب اذا لاحظنا في هذه الكتب ان رسول الله (ص) يتبول واقفاً، ويمص لسان زوجته وهو صائم، وانه(ص) يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل و النهار  وهن احدى عشرة امرأة، لأنه اعطي قوة ثلاثين رجل، والنبي(ص) يقتل ويقطع الأيدي والأرجل ويسمر العيون، ويسمع ضرب الدفوف من الجواري، وحضر (ص) يوم عيد يلعب فيه السودان بالدرق والحراب ويجعل احدى زوجاته خلفه، خدها على خده، تتفرج على هذا الاحتفال، والنبي(ص) يسهو في صلاته، ومن هذه المواقف المخزية الكثير. (يراجع كتاب كشف المتواري في صحيح البخاري / محمد جواد خليل /ثلاث مجلدات/ وكتاب فسئلوا أهل الذكر، كتاب ثم اهتديت/د.محمد التيجاني وغيرها). وبناءاً على ذلك فلا غرابة إذا قال ابن الأثير: (إن عبد الملك بن مروان أول من نهى عن الأمر بالمعروف، فانه قال في خطبته بعد قتل ابن الزبير:( ولا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلاّ ضربت عنقه)(قراءة في المسار الأموي/ اعداد مروان خليفات/ص19).        

إن الأمّة التي تتعاطى مع نبيها بهذه السماجة من الاخلاق، وان الأمّة التي يسترزق دعاتها على الوعظ، فيحقق واحد منهم ورادات قدّرت بـ(2,5 مليون دولار)، وهذا الداعية لا يزال يصر وينشر على موقعه اللالكتروني ان: (ضحكه (هكذا في المصدر) النبى تعجبا من فعل النسوه. قال سعد بن ابى وقاص رضى الله عنه: (استاذن عمر بن الخطاب رضى الله عنه على الرسول وعنده نسوه من قريش يكلمنه ويستكثرنه فلما استاذن عمر بن الخطاب قمن فبادرن الحجاب فاذن له رسول الله فدخل عمر والنبى يضحك.فقال: اضحك الله سنك يارسول الله فقال:عجبت من هولاء الاتى (هكذا في المصدر) كن عندى،فلما سمعن صوتك بادرن الحجاب فقال عمر: فانت احق ان يهبن يارسول الله ثم قال: ياعدوات انفسهن،اتهبننى ولاتهبن رسول الله فقلن:نعم انت فظا (هكذا في المصدر) واغلظ من رسول الله فقال رسول الله:ايها يا ابن الخطاب والذى نفسى بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط الا سلك فجا غيره)(المصدر/ http://forum.amrkhaled.net/showthread.php?t=137379).

وان الأمة التي تخرق في كل لحظة، تعاليم دينها وعقيدتها، وتسيئ للآخرين بتنفيذ ابشع الجرائم البربرية باسم الجهاد، ألا تعطي الف مبرر ومبرر للغرب، من الاستهزاء بشخصية الرسول (ص) كما يفعل الدنماركيون في رسومهم الكريكاترية، ومن ثم يقوم اولئك المتجنون على حضرة الرسول(ص) بتنظيم (حمله الجهاد بالمقاطعه قاطع وانصر نبيك واخوانك ودينك).

* كاتب وباحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 8 آذار/2008 - 29/صفر/1429