التنبؤ بالمستقبل... حاجة وطنية

جماعة ثوابت الأمة في الكويت  سوف تتحول من مراقبة الحسينيات والمخيمات إلى أعمال العنف المسلح

أحمد شهاب

 أخطر ما يهدد الدول عجزها عن قراءة المستقبل بصورة دقيقة وشاملة، ولذا تحفل الدول المتقدمة بقاعات بحثية من مهامها الأساسية وضع نبوءات علمية لمستقبل الدولة السياسي والاقتصادي والاجتماعي، في أوروبا على سبيل المثال أصدر فريق الخبراء في معهد دراسات الأمن للاتحاد الأوروبي كتابا تحت عنوان “العالم في العام 2025”، كثفوا خلاله عصارة بحثهم لاستنطاق الزمن المقبل برؤية علمية معتمدة على الإحصاءات والتحليلات العلمية الدقيقة، وفندوا خلاله الكثير من الاعتقادات الراسخة حول مستقبل العالم.

ومثل هذا التوجه الأوروبي نجده في الدول المتقدمة الأخرى بتفاوت، لكن من النادر ألا تجد في أي منها ميزانية محددة للبحث العلمي والذي يشمل استقصاء المستقبل، الفرص والمخاطر، تتيح للمعنيين باتخاذ القرار وضع خطط استباقية تعينهم على اقتناص المكاسب التي قد تتوافر أمامهم في الأيام المقبلة، ومواجهة أية عقبات قد تعترض طريق البناء والتنمية في الدولة.

قبل ثلاثين عاما من الآن، استطاعت بعض الكليات الغربية وضع تصورات حول المشكلات الاجتماعية والأسرية التي يمكن أن تطرأ على مجتمعاتها خلال العشرين سنة المقبلة، وذلك من خلال قراءة علماء الاجتماع والنفس لحالة تلك المجتمعات قراءة عقلانية ومتأنية، واقترحوا جملة من التدابير لمواجهة تلك المشكلات قبل أن تتحول إلى أمر واقع، وقد أسهمت تلك الجهود في تأجيل بروز العديد من الظواهر، على الرغم من أنها لم تستطع أن تمنعها تماما، ولو افترضنا جدلا أن تلك الجهود العلمية كانت غائبة، فمن المؤكد أن تلك الظواهر وغيرها ستفتك بالجسد الغربي أكثر مما هو عليه الوضع الآن، إن التنبؤ العلمي حث الدولة ودفع المجتمع نحو تشييد مؤسسات اجتماعية تقاوم ظهور سلوكيات ومظاهر سلبية يمكن أن تظهر بعد عشر سنوات أو أكثر.

بالنسبة إلى المستوى الاقتصادي، أعتقد أنه مثال مفتوح أمام الجميع، والحديث عن مستقبل اقتصادات العالم، ومصير الطاقة، وهل سوف يستمر الاعتماد على النفط العربي من عدمه؟ والبدائل عن مصادر الطاقة الحالية في حال نضوب النفط، أو في حال ارتفاع أسعاره إلى قيمة مبالغة، أمر لايخفى على أحد، لكن رغم أهمية هذا الجزء، إلا أن مسألة المستقبليات تمتد إلى ما هو أعقد من مستقبل الاقتصادات بكثير، وتعالج قضايا وتطورات ترتبط بحسم مصير البشرية ككل، أو جزء منها على أقل تقدير.

ثوابت الأمة

من المؤسف حقا أن دولنا بعيدة كل البعد عن هذا المجال، ولايزال الاعتقاد السائد لدينا أن قراءة المستقبل لا تحتوي على عظيم فائدة، فالمستقبل مثل الماضي، والأمور سوف تتحرك وتتغير مثلما تحركت وتغيرت في الماضي، وهو ما ثبت أنه استنتاج خاطئ، ولا يمكن الاعتماد عليه، فالقضايا متغيرة، والتحديات مستحدثة، والفرص التي يمكن استثمارها من قبل الدول والمجتمعات والبناء عليها كمحطات دعم إضافية، أصبحت أوسع من أي لحظة تاريخية أخرى، والتحديات التي تواجه الدول والجماعات البشرية أضحت أكثر شراسة من أي وقت مضى.

الكثير من الحوادث الجسيمة التي حدثت داخل مجتمعاتنا الراهنة، كانت بوادرها واضحة قبل أن تستفحل وتتحول إلى آفة تهدد الكيان المجتمعي، ولو كانت لدينا مراكز رصد تتنبأ بمثل هذه التحديات والأخطار الاجتماعية والسياسية، لأمكن لدولنا ومجتمعاتنا أن توفر الكثير من الخسائر التي دفعتها مرغمة، فجماعات العنف والتطرف هي بنات للتشدد الفكري والديني، والأطراف التي تلجأ إلى السلاح، وتهتك الأمن الوطني هي أحد مخرجات الجماعات الدينية والسياسية التي تستسهل تكفير المختلفين لأسباب عقدية وفكرية.

فإذا وجدنا جماعة تعطي لنفسها حق مراقبة الجماعات الأخرى وملاحقتها، مثلما تفعل جماعة “ثوابت الأمة” في الكويت، فمن الطبيعي أن الخطوة المقبلة لهذه الجماعة وأمثالها هي أن تعطي لنفسها حق تكفير المختلفين معها وربما تصفيتهم لاحقا، ومن الطبيعي أن الدولة إذا أرادت ألا تفاجأ بجماعات التطرف تتوالد في ساحتها المحلية، أن تقرأ حركة مثل هذه الجماعات وتبحث مسببات نمو التطرف في المجتمع، وتدرس الأفكار والمشاريع التي لو تبنتها لأسهمت في تخفيف الاحتقان الداخلي، وتعليم المواطنين مجالات العيش المشترك، وإعادة تأهيل المنحرفين منهم، ويبدو غريبا أن دولنا المتوترة بالعنف والتطرف تغيب عنها أي مراصد علمية لكشف أبعاد هذه الظاهرة ومساراتها، كما ينعدم وجود أي مؤسسة بحثية تختص بدراسة ظاهرة العنف وقراءة خطوطها الزمنية ومستقبلها المقبل، والتنبؤ بالجماعات المرشحة للتطرف في المجتمع وأسباب ذلك.

إن قراءة مستقبل الدولة ومواجهة المشكلات التي تهدد أمن البلد تتطلب فحص مواطن الضعف والقوة داخل كل مجتمع على حدة، وداخل المجتمعات المتشابهة بالهوية الدينية أو الثقافية بصورة عامة، ووضع قراءة متعالية على الواقع تحاول الوصول إلى أقصى ما يمكن من احتمالات في المستقبل، وفق قراءة علمية هادئة وعقلانية للمعطيات المتنوعة داخل المجتمع، إذ يمكن للتنبؤ العلمي أن يروض المستقبل، ويخضعه للسيطرة العلمية، وتكون الدولة والمجتمع هم أصحاب القرار في تحديد مصائرهم، بدلا من أن يفاجؤوا بالأزمات والمعضلات المتنوعة تنهش المجتمع وتنخر الدولة.

ويمكن الادعاء أخيرا أن كل الدول التي تقدر نفسها وتاريخها وشعوبها، هي تلك التي تعتني أكثر بقراءة المستقبل ووفق خطوط علمية دقيقة. أما الدول التي تستهين بذلك كله، فإنها تلك التي لا تنظر إلا لتاريخها المنصرم، والأخيرة وحدها تكون ضحية أزماتها.

* كاتب كويتي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 1 آذار /2008 - 22/صفر/1429