الحرية والإكراه ضدان في مدرسة التعددية

نضير الخزرجي

لا يمنع وحدة الرسالة الإسلامية من التنوع والاختلاف في المجتمعات الإسلامية في إطاراتها الفكرية والثقافية والاجتهادية والمذهبية، بل إن الإسلام الذي جاء مكملا لرسالات السماء (اليهودية والمسيحية) لا يمنع من التنوع العقيدي، حتى داخل حدود دولة الإسلام، ولا يقسر غير المسلمين على تقبل الإسلام، لان الإسلام في حقيقة الأمر يتوخى سعادة ذات الإنسان في الدارين، ولا يريد أن يضع غير المسلم تحت مظلة الإسلام رغما عن انفه، لان محور تعاليم الإسلام هو الإنسان نفسه، فإذا لم يتقبل الإنسان الدين الإسلامي، فان الإسلام الذي جاء رحمة للعالمين لا يتعامل مع الطرف الآخر من باب الضدية والعدائية، وإنما من باب احترام إرادة الطرف الآخر، فعلى سبيل المثال فان الرسول محمد (ص) عندما عقد صلح الحديبية مع مشركي مكة تنازل في احد بنود الاتفاقية عن المعاملة بالمثل، وهو البند الذي أعطى لمشركي مكة الحق في أن يُرجع الرسول إلى المشركين أي شخص يخرج من مكة مسلما مهاجرا إلى المدينة، فرسالة الإسلام تتوجه إلى ذات الإنسان، فإذا عاد مسلم طواعية إلى جبهة المشركين في مكة، فلا حاجة للرسول به.

 ربما يعتبر البعض هذه الفقرة من بنود الصلح انتصارا للمشركين، ولكن ما لم يكن يعلمه المشركون أو غيرهم أن الرسول (ص) لم يكن يرغب في أسلمة الناس سعيا وراء تكثير سواد القوم والتحكم برقابهم، وإنما يبغي هدايتهم سبيل الرشاد والفوز بالجنة والرضوان، فإذا عزف المرء عن الإسلام وارتد إلى جبهة المشركين فهو وشأنه، قال تعالى في محكم كتابه: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر...) المائدة:41، وقال تعالى: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى والى الله عاقبة الأمور. ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور) لقمان:22-23، وقال تعالى: (إن تحرص على هداهم فان الله لا يهدي من يُضل وما لهم من ناصرين) النحل:37، وقال تعالى: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) يوسف:103، وغيرها.

واعترض البعض من المسلمين على هذه الفقرة من بنود الاتفاقية واعتبرها انتكاسة للإسلام وإجحافا بحق المسلمين، وشنع على الرسول (ص) ونطق بما لا يصح النطق به، وقال هذا البعض: سبحان الله!! كيف نرد إليهم من جاء مسلما، ولا يردون إلينا من جاء مرتدا؟ فأجابهم الرسول (ص): "انه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم فرددناه فسيجعل الله له فرجا ومخرجا"، وقد شكك البعض بنبوة الرسول (ص) وحرض بالضد منه (ص) وألّب عليه، حتى قال أحدهم: "مازلت أصوم وأتصدق وأصلي واعتق مِن الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت يومئذ، حتى رجوت أن يكون خيرا"(1)، مع علم هذا البعض انه (ص) لا ينطق عن الهوى بنص القرآن الكريم: (ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى) النجم:2-3-5. وزاد تشكيك هذا البعض بخاصة بعدما عمل الرسول (ص) بالاتفاقية وتم إعادة أبو جندل العاص بن سهيل القرشي (ت 18هـ) إلى معسكر المشركين.

سلاح الضعفاء

 ولم يلجأ الرسول (ص) إلى استعمال القوة في أسلمة الناس مع أن كثرة المسلمين يزيدهم قوة في قبالة المشركين، وان كان هذا المطلب يتناغم وجدانيا مع ما كان يدور في خلد النبي (ص) ورغبته الجامحة ومن أعماق قلبه في أن يسلم جميع من على الأرض أملا في أن ينالوا رضى الله وسعادة الدنيا والآخرة، فذات مرة سأل المأمون العباسي (ت 218 هـ)، الإمام علي بن موسى الرضا (ع) (ت 203 هـ) عن معنى قوله تعالى: (ولو شاء ربك لآمن مَن في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين. وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) يونس:99-100، فقال الرضا (ع) عن آبائه عن الإمام علي (ع): "إن المسلمين قالوا لرسول الله (ص): لو أكرهت يا رسول الله مِن قدرت عليه من الناس على الإسلام لكثر عددنا وقوينا على عدونا. فقال رسول الله (ص): ما كنت لألقى الله عز وجل ببدعة لم يحدث اليّ فيها شيئا وما أنا من المتكلفين. فأنزل الله تبارك وتعالى: يا محمد: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا) على سبيل الإلجاء والاضطرار في الدنيا، كما يؤمنون عند المعاينة ورؤية البأس في الآخرة، ولو فعلت ذلك بهم لم يستحقوا مني ثوابا ولا مدحا لكني أريد منهم أن يؤمنوا مختارين غير مضطرين، ليستحقوا مني الزلفى والكرامة، ودوام الخلود في جنة الخلد: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) وأما قوله عز وجل: (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) فليس ذلك على سبيل تحريم الإيمان عليها، ولكن على معنى أنها ما كانت لتؤمن إلا بإذن الله، وإذنه أمره لها بالإيمان، ما كانت مكلفة متعبدة وإلجاءه إياها إلى الإيمان عند زوال التكليف والتعبد عنها"(2).

من هنا فان النبي محمد (ص) لم يدع على قومه رغم ما لاقاه من أذى حتى قال عن نفسه: (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)، وإنما كان دعاؤه جزاء من نصب له العداوة والبغضاء وآذاه: "اللهم اهدي قومي فإنهم لا يعلمون"، فعلى سبيل المثال وحينما اشتد أذى المشركين للرسول (ص) يوم احد إذ قُتل عمه حمزة (ت 3هـ)، ومُثل بجسده الشريف، وقُطع كبده وأصابع يديه ورجليه، وجُدع انفه، وصلموا أذنيه.. وفُعل به ما فُعل، وقُتل العشرات من المسلمين.. فتقدم بعض الصحابة إلى النبي (ص) واقترح عليه أن يدعو عليهم ليعذبهم الله بعذاب من عنده كما كان يعذب المشركين الأولين بدعوة أنبيائهم عليهم.. ولكن النبي (ص) وسياسة العفو العظيمة امتنعت من ذلك فقال: "إني لم أُبعث لعاناً، ولكن بعثت داعيا ورحمة"، "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون"(3). ولما رحل النبي (ص) عن الطائف بعدما آذته ثقيف وأذاقته ألوان الهوان والعذاب، قال له رجل من أصحابه: يا رسول الله ادع عليهم، فقال (ص): "اللهم اهد ثقيفا وأت بهم"(4). وفي  الحديث الوارد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) (ت 148 هـ): "اجعلوا أمركم لله ولا تجعلوه للناس فانه ما كان لله فهو لله وما كان للناس فلا يصعد إلى الله، ولا تخاصموا الناس لدينكم فان المخاصمة ممرضة للقلب، إن الله تعالى قال لنبيه (ص): (انك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) القصص:56، وقال: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس:99، ذروا الناس، فان الناس أخذوا عن الناس وإنكم أخذتم عن رسول الله (ص) أني سمعت أبي (ع) يقول: إنّ الله عز وجل إذا كتب على عبد أن يدخل هذا الأمر كان أسرع إليه من الطير إلى وكره"(5).

الحرية والاعتقاد

فالحرية هي علامة بارزة في الاعتقاد، بل هي السارية وبدونها لا تقوم للاعتقاد راية، يقول البنا: "فالأديان ما دامت تقوم على الإيمان القلبي والاقتناع العقلي، فإنها تفترض مقدمات وجود الحرية، فلا إيمان دون اقتناع ولا اقتناع دون تفكير، ولا تفكير دون حرية، ولهذا حق للقران أن يستنكر... (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) وصرح بالمبدأ...(لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي) البقرة:256، واعتبر الرسول أن (الأعمال بالنيات) كما قرر الفقهاء أن (النية) شرط لسلامة الشعائر وهذه كلها، اعني النية والإيمان تتنافى مع وجود صورة من صور الضغط والإكراه، ومن ثم تفترض وجود الحرية"(6).

وفي الواقع إن الإنسان السوي ابن الدليل كما يقول الأصوليون، فان أخذ به فلنفسه، وان رماه وراء ظهره فهو وشأنه، وفي الحالتين، فهو حر بان يأخذ بما يدله عليه عقله تارة، أو تقوده إليه نفسه تارة أخرى، والإسلام الذي يدعو الناس إلى البحث عن الدليل، يجد نفسه منفتحا على الجميع ولا يخشى الرأي المخالف، بل يدعوهم في أكثر من موضع إلى المحاججة، يقول السيد فضل الله: "إن دراستنا للمنهج القرآني في عرضه للفكر المضاد وتخليده كل المفردات المنفتحة على مواقع الكفر الفكرية، توحي بان الإسلام يجتذب الفكر الآخر ليدخل معه في جدال علني حول كل القضايا المختلف عليها من دون فرق بين أن يتصل الفكر الإيماني بالمقارنة مع الفكر الكافر، وبين أن يترك له الحرية في أن يعبر عن نفسه بشكل مستقل لينطلق الإسلام بعده في عملية مواجهة عنيدة ليحدد للناس الفواصل بين الحق والباطل على أساس الدليل"(7).

وينبغي الإشارة إلى انه يستحيل أن يوجد إنسان على وجه البسيطة لا يؤمن بدين أو معتقد ناهيك عن المعتقد السياسي، حتى الذين يزعمون أنهم لا دينيون (none religious)، فاعتقادهم هذا هو بحد ذاته دين، ومثل اللا ديني كمثل اللا منتمي سياسيا أو (المستقل) بالمفهوم السياسي، فاللا انتماء هو انتماء سياسي، ولا يوجد مستقل سياسيا بالمعنى الاصطلاحي، لان الاستقلال هو نوع من التوجه السياسي، بخاصة وان مفهوم الاستقلال ليس مجردا وإنما مأخوذا في اعتباره الاستقلال عن جهة أو فكر، ولذلك فان المراقب الخارجي حينما يريد أن يصنف الاتجاهات السياسية فلابد أن يعطي للمستقلين رقما، لا أن (يصفّرهم) لان تصفيرهم من الناحية العملية يعني فيما يعني الغاءهم ومحوهم من الوجود مع أنهم موجودون كرقم إلى جانب الوجودات الأخرى، ولهم الحق والحرية في الحياة السياسية والمشاركة في كل مفاصل السلطة السياسية.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى اللا ديني، فانه معتقد بشيء أسماه هو اللا دين، وبالتالي فان وجوده الاعتقادي يُنظر إليه بلحاظ تجافيه عن دين أو أديان هو يعرفها أو اُخبر بها، وبغض النظر عن كون الدين سماويا أو أرضيا، يقول الفيلسوف الإيراني الجعفري (ت 1998م): "إن الحد الأقل من تفسير الحياة أن يعتقد الإنسان بان الحياة هي هذه التي يراها مطلوبة له، أو هذه التي يصورها في ذهنه ويقبلها وان لم تنطبق على واقعه القائم، وحينئذ نعلم إن من المحال أن يعيش الإنسان بلا عقيدة وحتى لو أن إنسانا أراد أن يعيش بلا عقيدة فانه بحاجة إلى مستند في حياته اللا اعتقادية وهذا السند هو نفسه اعتقاد"، ثم يضيف: "يرى أرسطو (ت 322 ق.م) وهو يتحدث عن ضرورة تحصيل الفلسفة: إن كان الواقع يقتضي أن نحصل الفلسفة كان علينا أن نحصلها ونتفلسف، وان لم يقتض الواقع أن نحصلها كان علينا أن نتفلسف أيضا لكي نثبت أن التفلسف والفلسفة لا مقتضى لهما"(8).

ومجمل القول أن الوحدة والدعوة إليها أمر محبب في ذاته، لكنها لا تتخالف أو تتقاطع مع التعددية السياسة أو المذهبية أو الاعتقادية، لأن الوحدة القائمة على الإكراه، وحدة خاوية على عروشها، لها أن تنهار أمام أية صدمة أو هزة، وضرّها أكثر من نفعها. كما إن الاستقلال أو اللا إنتماء هو مذهب ومنهج، والمستقلون هم جزء من المكون المجتمعي في اتجاهاته المختلفة العقيدية والمذهبية والسياسية، وهذه المكونات القائمة على التعددية وقبول  الرأي والرأي الآخر في إطار الوحدة العامة تقود المجتمع إلى الرقي المدني والحضاري.

..............

1-      العمري، د. نادية شريف، اجتهاد الرسول (بيروت، مؤسسة الرسالة، ط3، 1405هـ/1985م) ص80 وما بعدها.

2-      القزويني، محمد كاظم، موسوعة الإمام الصادق.. العقل والعلم والتوحيد والعدل ج4 (قم إيران، مؤسسة نشر علوم الإمام الصادق، ط1، 1416هـ) ص440-441.

3-      الشيرازي، صادق، السياسة من واقع الإسلام (إيران، ط2،1401هـ) ص47.

4-      الشيرازي، محمد، السيرة الفواحة (الكويت، شركة مكتبة الألفين، ط1، 1418هـ/1997م) ص75.

5-      القزويني، محمد كاظم، (مصدر سابق) ص471.

6-      البنا، جمال، الإسلام والحرية والعلمانية (القاهرة، دار الفكر الإسلامي) ص9.

7-      الميلاد، زكي، "التعددية الحزبية في الفكر الإسلامي.. التأصيل، الأنماط، التحول" مجلة الكلمة (بيروت، منتدى الكلمة للدراسات والأبحاث، السنة 1، العدد 2، 1414هـ/1994م) ص40.

8-      الجعفري، محمد تقي، "مقدمة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان" كتاب: حقوق الإنسان في الإسلام (طهران، منظمة الإعلام الإسلامي، 1408هـ/1988م) ص174.

* الرأي الآخر للدراسات- لندن

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 26 شباط/2008 - 18/صفر/1429