الامن المطلوب في العراق.. والخلايا الأميبية

عدنان الصالحي/ مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

 جميلة هي الأيام التي مرت على البلاد ولاسيما العاصمة العراقية بغداد حيث لم يسمع فيها صوت إطلاق نار أو هزة انفجار أو دخان في مكان ما، هذا الهدوء يبدو إن محافظاتنا ليست على موعد لاحتوائه الآن بصورة كاملة وان كان الوضع نسبة للسابق قد تطور كثيرا.

ما حدث في الأيام الأخيرة خير دليل على ما حذرنا منه سابقا واشرنا إليه في جملة ما سقناه من آراء، فالعمليات الأخيرة التي استهدفت شخصيات مهمة ومواقع إستراتيجية كاغتيال اللواء (قيس المعموري)  قائد شرطة محافظة بابل  والمعروف بحنكته ومناورته العسكرية والذي فشلت ست محاولات في استهدافه وأصابته السابعة واستهداف المواقع النفطية في مصافي الدورة إضافة إلى الهجمات شبه المنظمة في مناطق (بهرز وبعقوبة) وأخرها الانفجارات الدموية في محافظة العمارة وغيرها تشير بوضوح إلى وجود إستراتيجية جديدة لدى العناصر المسلحة للمناورة والاختفاء.

الوضع الظاهر لكل متتبع ومتابع للواقع الأمني والسياسي في العراق يستطيع مقارنته بكثير من مواقع العالم المشابهة له، فالعنف في العراق اخذ منحا تصاعديا في السنوات الأولى من التغيير السياسي وهو بكل تأكيد سيأخذ نفس المنحى في الانخفاض ومن ثم الاختفاء أو القضاء عليه، أما القفزات الأمنية نحو المرتبة الأولى فلا نعتقد بأنها ذات فكر صحيح وان كانت تشير إلى تفاؤل جيد في ذلك.

واقع الحال يشير إلى أن الحالة التي تسود الآن والهدوء المفاجئ يرجع إلى عدة أسباب أهمها:

1- تقدم العملية السياسية بشكل مطرد والتزام أكثر الأطراف فيها بالقاعدة الأساسية المتبناة على المشاركة الجماعية ونبذ التفرد بالحكم وإعادة أساليب عقود مضت،وتيقن البعض من عدم القدرة على عرقلة العملية السياسية ومحاولة الاندماج فيها من جديد.

2- ارتفاع مستوى الروح القتالية والمهارات الفردية والثقة بالنفس لدى القوات الأمنية وابتعادها عن الحاجة الفعلية للقوات الأمريكية وتنفيذها عمليات واسعة بالاعتماد على العنصر ألاستخباراتي والجهد العسكري العراقي والتنفيذ المباشر بدون أي إسناد.

3- فقدان العناصر الرئيسية للإرهاب والعصابات المنظمة مواقع مهمة في مناطق كانت تعتبر حواضن رئيسية لها بعد انتفاضة سكان المناطق ضد تلك المجاميع، والتي يرى البعض إنها تمت بتعاشق عمل سياسي داخلي وجهد دبلوماسي عراقي خارجي.

4- تغير أسلوب عمل المجاميع المسلحة من طريقة توزيع العنف على مساحة البلد وحصره في عمليات نوعية وبفترات متباعدة متخذة من أسلوب الخلايا النائمة طريقة لممارسة عملها مما يصعب كشفها.

5- تلون خلايا أخرى بنفس نوع الوضع الخاص الجديد ببعض المناطق واتخاذها حلقات مشابهه فيها لعناصر الصحوة أو العناصر الأمنية وتشكيلات يصعب تميزها وهذا ما يطلق عليه بالشكل (الأميبي) أي انه يمارس نشاط إرهابي بلون امني أو اجتماعي.

التغيير النسبي في الحالة الأمنية واضح للعيان وجميع ما اشرنا إلية من الأسباب هي نتاج لعمل مثمر طوال سنوات خلت، ولكن يجب الاعتراف بان الحالة الآن أصبحت بحاجة إلى جهد اكبر من خلال مواجه التغيير الكمي للعمليات بالتغيير النوعي لمجابهته بالضد النوعي.

أي إن كثافة العمليات العسكرية قد تكون في الوضع الحالي غير مجدية إن لم يصحبها أو يسبقها جهد استخباري كبير وهذا بالتأكيد يتطلب بناء منظومة استخباراتية وقاعدة بيانات كبيرة(data base) لجميع المناطق  في البلد وبعيدا عن تدخل القوات الأمريكية إلا بطرق الإسناد الجوي والتدريب العلمي لرفع المهارات المعلوماتية.

   من جهة أخرى يرى بعض المراقبين أن الوضع القادم سيشهد انخفاضا كبيرا في العمليات العسكرية الكمية ولكنهم يتخوفون من الانتقال إلى عمليات نوعية قد تكون فداحتها أكثر بكثير مما هو متوقع، وهو ليس بالبعيد فالجميع يعلم بان تحرك المجاميع المسلحة في البلاد يتم بأجندة وتمويل خارجي وهذا يعني إنها تراقب وتدرس عن كثب مدى تقدم وتطور القدرات العسكرية للقوات العراقية، فمن غير المعقول أن تبقى تمارس الطريقة القديمة في عملها (اضرب واهرب)، وعليه فمن المفترض أن تكون الدولة وأجهزتها الأمنية في أوج حركتها (الناعمة) في هذه الفترة بحيث تستطيع اختراق الخلايا المشار إليها وكشف مواقعها وتحركاتها الجديدة وإجهاض أي عملية  قد تسبب فوضى عارمة فيما لو حصلت ( لا قدر الله)، وهذا بالنتيجة يحتاج إلى فك طلاسم الكثير من الجماعات المسلحة والتي تشير أكثر المعلومات إلى عدم تفاهمها فيما بينها أو وجود ارتباط مسبق في العمل لصالح جهة واحدة.

 فالوقت ليس لجذب الأنفاس أو للاحتفال بنصر يعتقد الكثيرون بأنه مازال من المبكر الإعلان عنه، وخير دليل على ذلك هو طبيعة المقاتلين والعناصر الملقى القبض عليهم والتي تشير الدلائل على كونهم ذات تاريخ طويل في العمل المسلح او التطرف الديني.

 حيث يقول الجنرال (دوغلاس ستون)، القائد العام لعمليات المعتقلين في العراق في احد المؤتمرات الصحافية الأسبوع الماضي، إنهم يخوضون الآن(معركة العقول)، وكان الجنرال ستون قد أدخل العمل بإجراءات فحص مكثفة على المعتقلين الذين يرسلون إلى مراكز الحبس في كل من (كامب كوبر)، بالقرب من العاصمة بغداد، و(كامب بوكا) جنوب العراق، وقال الجنرال ستون في ان إدارة المعتقل في كل من (كامب كوبر و بوكا) باتت تخصص قدرا أكبر من الوقت مقارنة بالسابق لمعرفة معلومات حول المعتقلين والوقوف على دوافعهم والسبب وراء حملهم السلاح.

وأضاف إن إلا دارة في (كامب بوكا) تجري تقييما لكل معتقل يرسل إلى المعسكر وتستغرق هذه العملية 72 ساعة ثم تعمل إدارة المعتقل على تصنيف الأفراد، وبناء على عملية التقييم، التي يشارك فيها أئمة لمعرفة معتقدات المعتقل الدينية، يجري اتخاذ القرار حول المعسكر المناسب لحبسه.

   كلام الجنرال يشير بوضوح إلى تعدد العناصر والجهات العاملة في الساحة العراقية والتي ترتبط كلا منها باتجاه ومنحى معين، والتي يتطلب تحديدها وتشخيص العلاج المناسب لها من حيث الفعل المباغت والتوجه العسكري  او تجفيف منابعه.

قد تكون نفس تلك العناصر تتضارب في اتجاهاتها او توجهاتها وليس بالضرورة ان ترتبط بعمل او هدف واحد، فالبعض يسعى لإعادة نظام الدكتاتورية الفردية على أساس انه النظام الشرعي،فيما يرى البعض الآخر بأنه يسعى لا قامة ما يسمى(الحكومة الإسلامية في العراق) فيما يبقى جزء آخر بعيد عن هذين التوجهين مخصص هدفه لمقاتلة القوات الأمريكية بعيدا عن سابقيه من العناصر (حسب وجهة نظر البعض).

أين ذهبوا؟

 لا نريد أن نذهب بمساحة البلد على امتداده الجغرافي ولكن لنأخذ مساحة محددة نضعها تحت الدراسة المبسطة، ففي حين كان المسافر إلى مناطق شمال البلاد يرى قبل أيام قلائل وبوضح العناصر المسلحة وهي تنتشر وبشكل علني في بعض المناطق المترامية الأطراف على جانبي الطريق ولاسيما المنطقة (بؤرة الموت)، منطقة (العظيم )وما يحيطها من مناطق أخرى  قرب محافظة  ديالى، هذه المشاهد اختفت في ليلة وضحاها بقدرة قادر وتحولت فيها مظاهر الزي الرسمي للدولة بشكل يجلب الانتباه.

 وهنا اعتقد أن القارئ الكريم عرف ما نريد قوله؟

   أين اختفت تلك العناصر المسلحة؟، والتي يعرف الجميع مدى موقفها من العملية السياسية برمتها، لأنها بكل تأكيد كانت تمثل في اغلبها في تلك المناطق تنظيم القاعدة او ما يطلق عليه بـ (دولة العراق الإسلامية)،  والسؤال هنا هل اقتنعت تلك العناصر بالتغيير السياسي في البلاد بسواد ليلة، أم أنها تلاشت قبيل عملية عسكرية كبيرة قادمة، او جاءت لتسلم نفسها بأعدادها إلى مقرات الجيش لتضع نفسها أمام القضاء العادل؟.

  هذا بمجملة كبير وصعب القبول فعلا وفكرا، ولكن الأجدر بنا أن ننظر ونفتش في جميع أجزاء وأرجاء المنزل الكبير أين اختفت هذه المجاميع، وبأي لباس استعارت وأي شكل(أميبي) اتخذت لتنتظر فرصة جديدة تنقض على مساحة أخرى يفتر العمل والجهد العسكري فيها.

 نحن لانشك بأي عمل نهضوي عراقي  بما فيه مجالس الإنقاذ او الصحوة ولكن من حقنا الإشارة إلى  شيء مهم هنا إلا، وهو كيفية التمييز بين العناصر القادمة للعمل بإخلاص وبين تلك التي تحاول الاندساس بشكل أو بأخر من اجل الوصول إلى أهداف خفية وخطرة وأولها إحداث الاختراقات الأمنية، وهذا ما شهدته بعض المناطق في بغداد وبعض المحافظات الأخرى والتي ثبت فيها تلون بعض عناصر التنظيمات الإرهابية بلون عناصر الصحوة، أو الأجهزة الأمنية او حمايات الشخصيات المهمة.

ولعل مسؤولية المتابعة والمراقبة والتفحص (وحسب وجهة نظرنا) تقع على الجميع بدون استثناء بدا من المواطن كونه العين الناظرة على واقع الحال إلى أعلى قمة الهرم في الدولة، وفي هذا المجال لا مكان للتساهل أو التنصل لان المرحلة لا تتحمل الخطأ مرتين فضلا عما تعانيه من تشوهات ولادية في تركيبتها أو الناتجة من سوء الاختيار لقيادات غير منضبطة أصلا كما في بعض الوزارات التي أثبتت الأدلة تورطها في عمليات الاغتيالات وتمويل الإرهاب.

أما مسؤولية الحكومة المهمة فهي عدم التسويف في القضايا المثارة أو التي اثبت التحقيق تجريم بعضهم وعدم تهميش القضية نتيجة توافق سياسي أو ضغوط شخصية.

ماذا نريد؟

لا شك من أن قيام أي دولة يحتاج إلى تذليل الكثير  من الصعوبات وترسيخ  الركائز  وتسخير الطاقات البشرية الهائلة، وفي الدولة المتعددة الرئاسات او منفصلة السلطات لابد من تعاشق السلطات المتعددة في اتجاه العمل الميداني والمسؤولية وهنا تسجل ملاحظة كبيرة وللأسف سلبية المعالم باتجاه الرئاستين التشريعية ورئاسة الجمهورية واللتان جعلتا من رئاسة الحكومة تقف بمفردها في وجهة الضغوط الداخلية والخارجية،وهذا ينتج عنه و بلا شك إظهار رئاسة الحكومة على إنها منفردة الرأي وهو ناتج طبيعي بعد تنصل الرئاسات الباقية من حمل المسؤولية وهذا بدورة يسجل نقاط ضعف للعملية السياسية بصورة عامة،  فعلى سبيل المثال لا الحصر ترك أحكام القضاء الأخيرة  بحق مداني الأنفال بدون المصادقة رغم مرور أكثر من الشهرين ونيف على مصادقتها من قبل محكمة التمييز،  وهو نوع من المجاملات السياسية على حساب القانون والقضاء، والتي أظهرت الحكومة  للمشاهد والمراقب على أنها حكومة مكبلة الأيدي وهذا يرسل بكثير من الإشارات الخاطئة والتي تكون نتائجها غير متزنة.

   فقيام الدولة المبتغاة إقامتها بثياب جديدة وبلون متناسق وان كانت مختلف عن شبيهاتها في دول المنطقة التي مازالت تأن من النظام الكلاسيكي في حكمها، فهي بحاجة إلى الهدوء في الحديث بعد أن هدأت نوعا ما أصوات الانفجارات، بعيدا عن كلام الشد والجذب.

والبدء بخطوات فاعلة وسريعة بداية العام المقبل لإعلان الحرب على الفساد والذي يعتبره الكثيرون ومنهم الحكومة العراقية العمود الفقري للإرهاب و هذا يتزن مع بدء عملية كبيرة ومنظمة لإعادة النظر في تركيبة دوائر الدولة بهيكلياتها في جميع مواقعها وإلغاء واختزال المترهلة منها، وخيرا فعل وزير الداخلية بإعلانه نية وزارته إعادة هيكلة الوزارة وقوات الشرطة الوطنية والتي أثبتت التحقيقات وجود اختراقات كثيرة فيها من قبل المجاميع المسلحة وبعض المليشيات.

أما الخطوة الأخرى والتي يراها البعض الحجر الأساس لالتفاف المواطن العراقي حول حكومة أصبحت عنوانها (منتخبة)، هو اختبارها القادم والتحقيق على ارض الواقع في رفع المستوى المعاشي للفرد ودخله اليومي مع سيطرتها على باقي نواحي التجارة ولا نعتقد بان المواطن العراقي يطلب أكثر من ذلك في الوقت الحاضر.

* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

http://shrsc.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 6 كانون الثاني/2008 - 26/ذو الحجة/1428