الدفن والمقابر والزيارة عبر التاريخ

جاسم فيصل الزبيدي

المقدمة

ثمة أمرُ ((نظري)) بنوع خاص يهمنا نحن بني البشر – بمختلف الأديان والأعراق – قد يكون ذلك لإنه في نهاية رحلة العمر سوف نستقل قطار الموت لنمضي إلى حيث الملكوت الأعلى. عاجلاً أم آجلاً. فأننا ألان أمام ثلاث علاقات الأولى:- شاملة، وهي علاقة الحي والميت، وهو أمر مؤسف جداً. إذ من السهل على الإنسان أن ينسى نفسه ولكن من الصعب عليه أن ينسى روحاً قد سكنت فيه ولكنها إرادة الله تعالى في بني البشر، إذ لابـد على الإنسانية أن تتحمله شاءت أم أبت.

أما العلاقة الثانية والثالثة:-هي الشعور فالإنسان الذي يرى الموت أو يرى أحد يموت، ينتفض قلبه وينقبض إزاء هذا المنظر المؤثر:- انه يشعر به شعوره بعدو، واحياناً بصديق. أنه يخشاه أو يستدعيه أو يأسف له، ويرثي الذي أصابهم وهذا هو ميدان علم النفس الخاص بالموت.

أن مسألة الدفن وأقامة المقابر والزيارة، لم تكن مفاجأة قد أخرجها الإسلام بصيغة استثنائية، وانما هي وليدة التاريخ العميق والأصيل.لذا فإن الدين الإسلامي لم ولن يكون دين تكريسي كهنوتي بل ولا دين سلوك فحسب، إنما هو – قبل ذلك وفوق ذلك – دين وحضارة.

المقابر والدفن عبر التاريخ(نظرة موجزة)

قبل البدء بموضوع الزيارة. لابد لنا من وقفة لبعض الجوانب التاريخية لعملية الدفن وإقامة المقابر. وهل هنالك علاقة بين الدين ونشأة المدن..؟! إذ إن مسألة دفن الأموات قد برزت عند سكان وادي الرافدين وغيرهم من الأمم الغابرة، كطقوس دينية، ومعتقد إيماني يتمثل بأن الآلهة قد قررت منذ البداية الموت على الإنسان، ذلك لأن البشرية ومن خلال التجارب التي مرت بها عبر الأزمنة لم تعرف في يوم من الأيام أن فرداً قد استطاع الإفلات من قبضة الموت، فلا بد لهم من معالجة الجثث ودفنها تحت الأرض، لاعتقادهم أن الحياة تعود إلى الإنسان بعد دفنه. فكانوا يضعون بعض الحاجات الأساسية التي يحتاجها بعد عودة الحياة له.. وقد أكدت الاستكشافات التاريخية والآثارية عن وجود عدد من القبور في قرية الصوان الآثارية – 11 كم جنوب سامراء – على ما يربو (100 قبر) احتوت على عدد من الحلي والدمى الصغيرة والأواني الحجرية وغيرها والحال نفسه في مدينة أريدو – 24 كم جنوب غرب مدينة اور القديمة – فقد وجد ما لا يقل عن ألف قبر، وكانت هذه القبور منتظمة ومبنية باللبِن متجمعة بهيئة مقابر عامة خارج المستوطنات..

أما في قرية تبه كورا – 20 كم شمال الموصل – فقد كانت القبور عبارة عن حفر دفن اعتيادية بالقرب من المعابد، وكان سكان قرية تبه كورا الآثارية يقبرون أطفالهم في جرار كبيرة من الفخار.. أما في مدن أور ولكش ونفر والوركاء فكانت لهم مقابر يدفنون بها الجثث. أذن فمسألة دفن الجثث كانت موجودة خلال العصور الغابرة عن طريق دفنها في الأرض غالباً سواء في حفر أو لحود أو أقبية (سراديب) –باستثناء عدد صغير من شهادات آثارية مشكوك فيها ولا يتجاوب معها في شيء من الوثائق المكتوبة – فإن سكان وادي الرافدين – بل وحتى الحضارات الأخرى – لم يتركوا الجثث في الهواء الطلق أو حرقها إلا حينما كانوا يتعمدون إساءة معاملة الموتى المعنيين، بدافع البغض أو الانتقام. فكانوا يضعون الجثة وفق شعائر جنائزية لغرض السماح للميت بعبور نهر (خوبور) من خلال حفرة القبر بغية الوصول إلى العالم السفلي أو من خلال أية حفرة أخرى في الأرض أو من خلال المدخل الرئيسي الموجود في مدينة الوركاء.. بعد دفن الميت في بيئته الجديدة في مقابر خاصة، وربما في سراديب البيوت الخاصة بأسرهم، سواء كان ذلك للملوك أو لرعاياهم بل وحتى لأوضع الناس، كان على أهل الميت أن يقوموا بعدة واجبات، وكان أقرب أفراد العائلة هو المكلف بالاهتمام بالمراسيم الأخرى دون استبعاد الآخرين بالطبع. ولكي لا يصبح الميت طي النسيان، كانت الزيارة عندهم في أوقات معينة، وغالباً ما تكون والقمر غائباً للشعور الإحساس بالموت، وتذكر العالم السفلي (ينظر بتوسع: كتاب حضارة العراق – الجزء الأول، وكتاب بلاد الرافدين.. الكتابة، العقل، الآلهة، وكتب ميثولوجيا الموت).

تأملات في مبعث الرسل

وأود أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى نقطتين مهمتين قد تكونا خافيتين عليه النقطة الأولى:-هي أن الرعاية السماوية لم تترك الأجناس البشرية سُدى فمن المتواتر عند المسلمين أن الأرض لا تخلو من حجة، وإذا كانت نفوس بعض الأقوام القديمة قد غطاها ضباب معتم نتيجة الظروف التي حاطت بها أو بعبارة أدق نتيجة التفسير الخاطئ لمفهوم العبودية لله. فإن العناية الإلهية بعدالتها ورحمتها المطلقة، ترسل الرسل والأنبياء لتعريف الناس وتعليمهم وإنذارهم، قال عز من قال:- ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)) الإسراء / 15. ((وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ)) الشعراء / 208. وقد أجابت العناية الإلهية عن تساؤلات الجنس البشري عن السبب فقال عز من قال:- ((لئلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)). يقول أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو يذكر بعث الرسل والأنبياء:- ((وأصطفى الله من ولد آدم أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم، فجهلوا حقه، وأتخذوا الأنداد معـه وأجتالتهم – أي صرفتهم عن قصدهم – الشياطين عن معرفته وأقتطعتهم عن عبادته. فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة من سقف مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعايش تحييهم، وآجال تفنيهم وأوصاب تهرمهم، وأحداث تتتابع عليهم)) … ثم يمضي (عليه السلام) وهو يذكر تتابع قافلة الأنبياء (عليهم السلام) في تاريخ البشرية فيقول:- ((فأستودعهم في أفضل مستودع، وأقرهم في خير مستقر، تناسختهم كرائم الأصلاب إلى مطهرات الأرحام، كلما مضى منهم سـلف قـام منهم بين يدي الله خلف)). (ينظر: نهج البلاغة – محمد عبده، شرح نهج البلاغة –لأبن أبي حديد المعتزلي)..

فمن البديهي جداً أن تكون تلك الأقوام القديمة قد حظيت برسول أو نبي فإذا ما بحثنا المصادر التاريخية وجدنا أن أكثر الأقوام المذكورة في القرآن كانت متوزعة ما بين حضارة وادي الرافدين وحضارة الفراعنة وفي أرجاء شبه الجزيرة العربية..

دعني أضرب لك مثلاً:- قوم عاد تلك القبيلة الأكثر شهرة تقول عنها الروايات إن منازلها كانت منتشرة في رمال الأحقاف ما بين اليمن وعُمان والبحرين شرقاً متوغلة جنوباً الى الشحر وحضر موت (ينظر: الطبري – التاريخ، 1: 150، أنساب الأشراف – البلاذري، 7 القلقشندي – صبح الأعشى، 5:18) فقد أرسل الله عز وجل إليهم (هود).. وكذلك قبيلة ثمود، إذ حددت المصادر التاريخية منازلهم في منطقة من وادي القرى بالحجر أو مدائن صالح أستنتاجاً من قوله تعالى: ((وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي)).. وفي حضارة الفراعنة كان موسى ويوسـف (عليهم السلام) (ينظر: المفصل في تاريخ العرب – جواد علي، 299:1 و 346 – جرجي زيدان، العرب قبل الإسلام،54 – دائرة المعارف – محمد فريد وجدي، مادة عرب،288).. وفي حضارة وادي الرافدين كان إبراهيم وغيره من الأنبياء والرسل..

أن ما أريد أن أصل إليه هو أنه من المحتمل جداً أن يكون الأنبياء والرسل قد نشروا بعضاً من التعاليم السماوية كالدفن مثلاً.. أما النقطة الثاني:- هو قوله تعالى: ((وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ(27) لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(28)إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(29)فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ(30). فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتي أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ)) يقول الإمام السيوطي في معرض تفسيره للآية ما نصه:- (فطوعت) زينت (له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح) فصار (من الخاسرين) بقتله ولم يدر ما يصنع به لانه أول ميت على وجه الأرض من بني آدم فحمله على ظهره (فبعث الله غراباً يبحث في الأرض) ينبش التراب بمنقاره ورجليه ويثيره على غراب ميت حتى واراه (ليريه كيف يواري) يستر (سوأة) جيفة (أخيه قال يا ويلتي أعجزت) عن (أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين) على حمله، وحفر له حفرة وواراه) (ينظر: تفسير الجلالين – للسيوطي –141 –دار المعرفة – بيروت)..

ان البشرية كمجموعات غير قادرة على الاختراع مالم يكن هناك من يحفزها على الاختراع وهذا الحافز هو الانبياء الذين كما يصفهم امامنا علي بن ابي طالب(ع)(ليثيروا دفائن العقول).

ان ظهور الغراب المرسل من قبل الله(عزوجل)لتعليم ابن آدم(الانسان الاكثر تطوراً) وتعليمه كيفية الدفن دليل على عجز البشرية على الاختراع مالم يكن هناك (حافز)لتنشيط وتعليم العقل البشري.

من خلال ذلك نستنتج أن عملية الدفن بدأت منذ بدء الخليقة وإن فكرة الدفن قد تناقلتها البشرية فيما بينها إما عن طريق الاتصال أو الترحال أو عن طريق الرسل و ما شابه ذلك..

عوداً على بدء.. أما عرب ما قبل الإسلام فقد كانت لديهم بعض المقابر – هذا فيما يخص مناطق الاستيطان – فقد أكتشف علماء الآثار على قبر أمرؤ القيس ملك الحيرة في أطلال النمارة في حوران على حجر، كتابة عربية بالخط النبطي نقشت في أوائل القرن الرابع للميلاد، أي قبل الاسلام بثلاثة قرون (ينظر جرجي زيدان، تاريخ آداب اللغة العربية،28:1) وجاء في شعراء النصرانية بعد ذكر موت أمرؤ القيس الشاعر الجاهلي المعروف المتوفي نحو 540م بالجدري ما نصه: (وذكر في كتاب قديم مخطوط. أن ملك قسطنطينة لما بلغه وفاة أمرؤ القيس، أمر بأن ينحت له تمثال وينصب على ضريحه..ففعلوا، وكان تمثال أمرؤ القيس هناك إلى أيام المأمون، وقد شاهده هذا الخليفة عند مروره هناك لما دخل بلاد الروم ليغزو الصائفة (جرجي زيدان –تاريخ آداب اللغة العربية، 98:1) كما كان لليهود مقابر ومدافن في المدينة المنورة (الطبري – التاريخ، 593:2)..وأما عرب الصحراء فقد عرفوا الدفن يقول المهلهل في رثاء أخيه كليب:- فلو نبش المقابر عن كليب … فيخبر بالذنائب أي زيــر بيوم الشعثمين لقـر عيناً … وكيف لقاء من تحت القبور (ينظر: أيام العرب في الجاهلية – محمد أحمد جاد المولى: 157).

أما في العصر الإسلامي، فقد أختار الرسول الأعظم صلى الله عليه وأله وسلم – موضعاً في شرقي المدينة المنورة، وكان مغطى بالأعشاب والصخور والنبات البري يسمى الغرقد (ينظر: الحميري – الروض المعطار:113) فأمر بتسويته وتمهيده، وأنشأ فيه مدفناً للمسلمين سمي ببقيع الغرقد (ينظر أبن سيد الناس – عيون الأثر، 361:1، أبن جبير – الرحلة:144، أبن بطوطة – الرحلة،143:1 ياقوت الحموي – المعجم 473:1) وكان البقيع قريباً من المسجد النبوي وبيت رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم – إذ كان الشخص القائم عند قبر عثمان بن مضعون يرى بيت رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم – وليس دونه حجاب (السمهودي – وفاء الوفا،894:3) كما كانت مقابر للأنصار والمهاجرين في محلات سكناهم في المدينة المنورة فكانت مقبرة بني خطمة قرب بئر غرس، ومقبرة بني سلمة وهي عند خطط بني حرام، ومقابر بني سالم وبني بياضة، ومقبرة قباء (السمهودي، 872:3 –888-941). كما أن هناك مقبرة شهداء أحد، حيث أمر النبي صلى الله عليه وأله وسلم – أن يدفن شهداء معركة أحد في الموضع الذي أستشهدوا فيه. بعد أن رأى بعض المسلمين ينقلون قتلاهم الى مقابر المدينة، وبخاصة الى مقبرة البقيع ومقبرة بني سلمة (ينظر: النويري –نهاية الأرب،103:17، الطبري – التاريخ، 532:2، أبن سيد الناس – عيون الأثر،30:2، السمهودي –وفاء الوفا، 940:3-941) وقد رغب المسلمين في دفن موتاهم في البقيع، بعد أن دفن رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم – أبنه ابراهيم –عليه السلام- عند قبر عثمان بن مضعون في البقيع، فقاموا بقطع الشجر، وأختارت كل قبيلة ناحية من البقيع تدفن موتاهم لما كثرت الأحاديث التي تمتدح مقبرة البقيع والدفن فيه (ينظر: أبن حزم –جمهرة أنساب العرب: 16، السمهودي – وفاء الوفا 886:3 – 891 –892) أما في مكة المكرمة فقد كان أهلها يدفنون موتاهم عند ظهر الحجون (ياقوت الحموي – المعجم، 225:2) أما بعد أنتشار الإسلام في أرجاء المعمورة فقد ظهرت ونشاة مدناً بسبب مدفن أو قبر أو ضريح كما سيمر عليك.. إذ أن علاقة المدن بالدين علاقة ذات روابط قوية مترابطة. فكثيراً ما تنشأ المدن نتيجة حدث أو رؤى أو معتقد ديني، كسقوط الحجر الأسود في مكة المكرمة أو كمرتفعات سيناء التي أصبحت مركز الأديرة الكبيرة (ينظر: إبراهيم أمين غالي – سيناء المصرية عبر العصور: 123) أو كضريح الأمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – عليه السلام – في النجف الذي كان له السبب الأعظم في نشأة مدينة النجف الاشرف أو كقبر سيد الشهداء الإمام الحسين السبط –عليه السلام – في كربلاء تلك المدينة التي لم تستحق الذكر في التاريخ قبل وجود القبر إلا نادراً جداً (ينظر: يوسف غنيمة – مدن العراق: 169)، أو كمدفن الشيخ منصور في سفاقس في الجمهورية التونسية الشقيقة وغيرها مما يضيق بنا المجال هنا. فكان المواطنون وما يزالون في العراق وفي غيره من البلدان الإسلامية ينظرون إلى الأئمة والأولياء الصالحين نظرة إجلال وأكبار، واحترام وتقديس. ويعتقدون في طهر أبدانهم وسمو مكانتهم – عند الله سبحانه وتعالى – وصفاء سريرتهم فيتبركون بهم، في المدلهمات، وما تزال الأماكن المقدسة تحتفظ باعتبارات خاصة في حالات الحرب والكوراث وما إلى ذلك، وأحتفظت التشريعات المحلية والقومية والدولية بهذه الميزات، مما أضفى عليها القوة والحصانة وأشعر سكانها بأنهم في وضع تأميني مدى الحياة ضد كل حوادث الزمن. وأصبحت تلك المراقد والأضرحة والمشاهد قبلة للزائرين في العراق تؤومهم الناس من كل جهات المعمورة – يومياً وسنوياً – ومن أشهر المزارات:- ضريح الأمام علي (عليه السلام) في النجف الاشرف وضريح الإمام الحسين وأخيه العباس (عليهما السلام) في كربلاء المقدسة وضريح الإمامين الجوادين (عليهما السلام) في الكاظمية وضريح أبي حنيفة النعمان (رض) والشيخ عبد القادر الكيلاني (رض) في بغداد وضريح الإمامين العسكريين (عليهما السلام) في سامراء أضافة إلى عدد كبير جداً من الاضرحة والمقامات والان وبعد أن عرفتم تاريخ المقابر والدفن عبر التاريخ.

تأملات في الزيارة(نظرة موجزة)

دعونا نخوض غمار موضوع الزيارة إستكمالاً للفائدة التاريخية. الزيارة في اللغة قال الطريحي في مجمع البحرين:- ج 1 ص 305:- \" زاره يزوره زيارة:- قصده فهو زائر وفي الحديث من زار أخاه في جانب المصر أي قصده وفي الدعاء:- اللهم اجعلني من زوارك.. اني من القاصدين لك والملتجئين اليك.. أما أبن فارس في مقايس اللغه 3: 36 قال:- ((الزور اصل واحد يدل على الميل والعدول ومن هذا الباب الزائر لانه اذا زارك فقد عدل من غيرك)). وأما أبن منظور في لسان العرب مادة زور فقال:- (الزَّورُ):-بالتحريك: الميل) أذن فالزيارة تعني ميل أو قصد المزور أكراماً له وتعظيماً وأستئناساً به للذين يشعرون بالزائر (ويكفي في هذا تسمية المسلَّم عليهم زائراً، ولوا أنهم يشعرون به لما صح تسميته زائراً، فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره لم يصح أن يقال زاره وهذا هو المعقول من الزيارة عند جميع الامم وكذلك السلام عليهم أيضاً، فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلَّم محال).(ينظر:- أبن قيم الجوزيه – كتاب الروح: 15 – دار الفكر – بيروت - لبنان). الزيارة في الكتاب - قال تعالى:- (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) (التوبة /84) دلت الآية الكريمة على إن الله عز وجل قد نهى رسوله الأعظم –صلى الله عليه وأله وسلم – عن مطلق الاستغفار والترحم سواء بالصلاة أو الدعاء وعدم زيارتهم – أي المنافقين قال الإمام السيوطي في تفسير الجلالين، في تفسيره للآية:- (ولا تقم على قبره لدفن أو زيارة) وقال الألوسي البغدادي في كتابه (روح المعاني 1: 155):- ((ويفهم من كلام بعضهم إن (على) بمعنى [عند] والمراد: ولا تقف عند قبره للدفن أو للزيارة، أما الشيخ إسماعيل حقي البروسي في كتابه ((روح البيان 3: 378)) قال:-{ ولا تقم على قبره } أي ولا تقف عند قبره للدفن أو للزيارة أو الدعاء)) وقد سبقهم البيضاوي في كتابه { أنوار التنزيل 1: 416 } ط دار الكتب العلميه – بيروت. ويستفاد من مضمون الآية الكريمة جواز زيارة قبر المؤمن وقراءة القرآن والدعاء له ولسائر المسلمين كما سنرى من خلال البحث في زيارة قبور المسلمين. - قال نبارك وتعالى:- { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } (النساء /64).. يقول الإمام السبكي الشافعي فــي كتابه (شفاء السقام في زيارة خير الأنام ص81) { دلت الآية على الحث على المجيء إلى الرسول –صلى الله عليه وأله وسلم – والاستغفار عنده واستغفاره لهم وذلك وإن كان ورد في حال الحياة فهي رتبة له لا تنقطع بموته تعظيماً له } فالآية المباركة دلت على شمولية الحضور والزيارة إلى قبره –صلى الله عليه وأله وسلم – بعد موته الزيارة في السنة النبوية لا يخلو مصدر من مصادر السنة النبوية المطهرة في الكتب المعتبرة عند المسلمين من موضوع الزيارة.

وقد ألف الإمام تقي الدين السبكي الشافعي كتابا أسماه \" شفاء السقام في زيارة خير الأنام \" كما ألف الحافظ نور الدين علي بن احمد السمهودي كتاباً أسماه { وفاء الوفا بإخبار دار المصطفى } وكذلك الكاتب الإسلامي فضيلة الشيخ محمد الفقي أحد علماء الأزهر الشريف، فقد ألف كتاباً أسماه { التوسل والزيارة في الشريعة الإسلامية }..

 والى القارئ الكريم نبذه يسيره عن ما في بطون أمهات الكتب المعتبرة حول الزيارة في السنة:

 1- روى الدار قطني في ســننه { 2: 278 } بـاب المواقيت الحديث 194 ط دار المحاسن / القاهرة بسنده عن ابن عمر – رض – قال:- رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم –:- { من زار قبري وجبت له شفاعتي } ورواه البيهقي في سننه 5: 245، والماوردي في الأحكام السلطانية 105. 2- اخرج السبكي الشافعي في شفاء السقام: 37 عن أنس بن مالك أنه قــال، قال رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم –:- { من زارني ميتاً، فكأنما زارني حياً ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة، وما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني، فليس له عذر } خرجه كذلك السمهودي عن ابن النجار عن أخبار المدينة بسنده عن أنس 4: 1345. 3-اخرج الحافظ ابن عدي بسنده عن ابن عمر انه قــال، قال رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم –:- (من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني) السبكي شفاء السقام: 27، السمهودي، في وفاء الوفا 4: 1342 4- روى علقمة عن أبن عمر قال، قال رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم –:- { من حجَ حجة الإسلام وزار قبري وغزا غزوة وصلى علي في بيت المقدس لم يسأله الله عز وجـل فيما افترض عليه } السبكي، شفاء السقام: 303، السمهودي، وفاء الوفا 4: 1344. 5- اخرج الفردوس في مسنده عن ابن عباس انه قال:- قــال رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم –:- (من حج إلى مكة ثم قصدني في مسجدي كتبت له حجتان مبرورتان) السمهودي، وفاء الوفا 4: 1347، الشوكاني في نيل الأوطار 4: 426 6- روى ابن عدي بسند حسن عن ابن عمر قال، قال رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم –:- { من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني } محمد الفقي/ التوسل والزيارة في الشريعة الإسلامية: 48، 49 7- روى الصدوق بسنده عن أبي عبد الله –ع- عن آبائه عن جده رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم – انه قال:- ((من أتى مكة حاجاً ولم يزرني إلى المدينة جفوته يوم القيامة)) الصدوق، علل الشرائع:- 460، المجلسي، البحار 97: 140 8- روى ابن قالويه بسنده عن علي بن الحسين السبط عن آبائه عن جده رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم – انه قال:- { من زار قبري بعد موتي كان كمن هاجر إلي في حياته فأن لم تستطيعوا فأبعثوا إلي بالسلام فانه يبلغني } ابن قالوية، كامــل الزيارات: 12، المجلسي، البحار 97: 142 9- روى الصدوق بسنده عن أبي عبد الله –ع- عن آبائه عن جده رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم – انه قال للحسن ابن علي بعد أن سأله الحسن –ع-:- يا أبتاه ما جزاء من زارك، فقال –صلى الله عليه وأله وسلم –:- { من زارني حيا أو ميتاً أو زار أباك أو أخاك أو زارك كان حقاً علي أن أزوره يوم القيامة فأخلصه من ذنوبه } علل الشرائح: 460، المجلسي في بحاره 97: 140 10- روى الحميري (م/ 299) بسنده عن أبي عبد الله الصادق – ع- عن آبائه عن جده رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم –:- قال:- قال رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم –:- (من زارني حياً أو ميتاً كنت له شفيعا يوم القيامة) الحميري، قــرب الإســناد: 31، المجلسي: بحار الأنوار 97: 139 نكتفي من هذا المقدار، وما موجود في الكتب المعتبرة اكثر بكثير فليراجع من أراد الزيارة.. وبهذا يتضح لدى المسلمين اتفاقهم على استحباب زيارة الرسول الأعظم –صلى الله عليه وأله وسلم –

الزيارة في التاريخ

أن أهم ما يميز المسلمين عن غيرهم من الأمم الأخرى هو وجود العيان الملموس والتاريخ، والإنسان المسلم إنما يقوم فكرة على مبدأ البحث للوصول إلى الحقيقة على عكس غيره من سائر الأمم إذ انهم يقومون وفق منطق التقليد الأعمى والهوية الشخصية القائمة على نظرية التشكيك.. أن حيوية أي أمة إنما يكون مصدرها التاريخ، والأمة التي ليس لها تاريخ لا تستطيع أن تحفز أبناءها لبناء المستقبل.. والأمة العربية إنما يمتد تاريخها إلى آلاف السنين ولهم في تاريخهم ما يجعلهم اكثر صمودا بوجه المتصيدين في الماء العكر.

مقتطفات من التاريخ

ومن هذا التاريخ نقتطف هذه الأزهار من تاريخنا الإسلامي العريق: - 1- روى ابن عساكر في تاريخه بسنده عن أبي الدرداء قال:- { لما فرغ الخليفة عمر بن الخطاب – رض – عن فتح بيت المقدس فصار إلى الجابية، سأله بلال – مؤذن رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم – أن يقره في الشام ففعل ذلك.. إلى أن قال:- ثم أن بلالاً رأى في منامه رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم – وهو يقول:- ما هذه الجفوة يا بلال أما آن لك أن تزورني يا بلال فأنتبه حزيناً وجلا خائفاً فركب راحلته وقصد المدينة المنورة فأتى قبر النبي –صلى الله عليه وأله وسلم – فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه فأقبل الحسن والحسين – سلام الله عليهم – فجعل يضمهما ويقبلهما – لأنهم ريحانتي رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم – فقالا له:- نشتهي آذانك الذي كنت تؤذن به لرسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم – في المسجد، ففعل، فعلا سطح المسجد فوقف موقفه الذي كان يقف فيه فلما أن قال:- الله أكبر , الله أكبر إرتجت المدينة، فلما قال:- أشهد أن لا اله ألا الله إزدادت إرتجاجاً , فلما قال:- أشهد أن محمداً رسول الله خرجت العواتق من خدورهن , وقالوا:- بعث رسول الله. فما رؤي يوم اكبر باكياً ولا باكية بالمدينة بعد رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم – من ذلك اليوم } مختصر تاريخ دمشق 5: 265، الحافظ جمال الدين المزي , تهذيب الكمال 4: 289. 2- روى أبو الليث السمرقندي الحنفي في الفتاوي / باب الحج: قال أبو القاسم:- لما أردت الخروج إلى مكة. قال القاسم بن غسان:- أن لي إليك حاجة , إذا أتيت قبر النبي –صلى الله عليه وأله وسلم – فقرأه مني السلام، فلما وضعت رحلي في مسجد المدينة ذكرت.. قال الفقيه:- فيه دليل إن من لم يقدر على الخروج يأمر غيره ليسلم عنه فانه ينال فضيلة السلام } السبكي الشافعي , شفاء السقام: 56 3- روى ابن الجوزي في كتابه مثير الغرام الساكن انه قد استفاض عن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز – رض – انه كان يبرد البريد من الشام إلى المدينة يقول:- سلم لي على رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم – 4- روى القاضي عياض في الشفاء بإسناده عن أبن حميد قال:- ((ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله –ص- فقال له مالك:- يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فأن الله تعالى أدب قوماً فقال ((لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)) الحجرات /2، ومدح قوماً فقال ((إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ)) الحجرات/3 وذم قوماً فقال ((إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ)) الحجرات/4، وأن حرمته ميتاً كحرمته حياً، فإستكان لها أبو جعفر، وقال:- يا أبا عبد الله أأستقبل وأدعو، أم أستقبل رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم –؟!فقال:-ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم –ع- الى الله تعالى يوم القيامة، بل أستقبله وأستشفع به فيشفعه الله تعالى:- ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا)) النساء /64.. فأنظر هذا الكلام من مالك – رحمه الله – وما أشتمل عليه من الزيارة والتوسل بالنبي صلى الله عليه وأله وسلم – وحسن الأدب معه)) السبكي الشافعي، شفاء السقام: 70 5- روى سفيان بن عنبر عن العتبي – وكلاهما من مشايخ الشافعي وأساتذته – أنه قال:-كنت عند قبر رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم –فجاء أعرابي فقال:- السلام عليك يارسول الله، سمعت الله يقول: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَــدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا)) النساء /64 وقد جئتك مستغفراً من ذنبي، مستشفعاً بك الى ربي)) ثم بكى وأنشأ يقول:-

يا خير من دفنت في القاع أعظمه

فطاب من طيبهن والاكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنــه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

ثم أستغفر وأنصرف)) السمهودي، وفاء الوفا 1361:4، أحمـد زيني دحلان، الـدرر السنية،21 6- روى أبو سعيد السمعاني عن أمير المؤمنين الأمام علي بن أبي طالب – عليه السلام- أنه قال: ((أن أعرابياً جاء بعد ثلاثة أيام من دفن الرسول –صلى الله عليه وأله وسلم –فرمى بنفسه على القبر الشريف وحثا من ترابه على رأسه وقال:- ((يا رسول الله قلت فسمعنا قولك، ووعيت عن الله ما وعينا عنك فيمـا أنزله عليك ((ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم)) وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي إلى ربي)) السمهودي، وفاء الوفا 612:2 أحمد زيني دحلان، الدرر السنية:21،وأبن حجر في الجوهر المنظم كلمات أعلام المذاهب الإسلامية أعرب أكابر علماء المذاهب الإسلامية على ضرورة زيارة قبر الرسـول الأعظم –صلى الله عليه وأله وسلم – وتعظيمه

والى القارئ الكريم أقوالهم:- 1- قال أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي في كتابه الأحكام السلطانيـة: 109 دار الفكر، بيـروت:- ((فأذا عاد (ولي الحاج) سار بهم على طريق المدينة لزيارة قبر رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم – ليجمع لهم بين حج بيت الله عز وجل وزيارة قبر رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم – رعاية لحرمته وقياماً بحقوق طاعته، وذلك وإن لم يكن من فروض الحج فهو من مندوبات الشرع وعبادات الجميع المستحبة)) 2- قال الإمام الغزالي في كتابه أحياء علوم الدين / كتاب الحج، 306:305:1 قال:- الجملة العاشرة في زيارة المدينة وآدابها قال:- ((من زارني بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي)) وقال –صلى الله عليه وأله وسلم –:- ((من وجد سعة ولم يفد إلي فقد جفاني)) إلى أن قال أبو حامد الغزالي:- فمن قصد زيارة المدينة فليصل على رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم – في طريقه كثيراً فأذا وقع بصره على حيطان المدينة وأشجارها قال:- اللهم هذا حرم رسولك فأجعله لي وقاية من النار وأمامناً من العذاب وسوء الحساب … ثم ذكر الزيارة وآدابها وطقوسها، وذكر زيارة الشيخين –رض- وزيارة البقيع بمن فيه، كزيارة قبر عثمان –رض- وقبر الإمام الحسن المجتبى أبن علي بن أبي طالب –عليهما السلام- ثم قال:- ويصلي في مسجد فاطمة –رضي الله عنها- ويزور قبر إبراهيم –ع- أبن رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم – فذلك كله بالبقيع، ويستحب له أن يأتي مسجد قباء في كل سبت ويصلي فيه لما روي عن النبي –صلى الله عليه وأله وسلم – قوله:- ((من خرج من بيته حتى يأتي مسجد قباء ويصلي فيه كان له عدل عمرة)) 3- قال أبن هبيرة (م/560هـ):- أتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل – رحمه الله عليهم – على زيارة النبي –صلى الله عليه وأله وسلم – مستحبة ((أبن الحاج، المدخل 256:1)) 4- قال الإمام القدوة أبن الحاج محمد العبدري القيرواني المالكي (م/738 هـ) بعد أن ذكر لزوم وكيفية زيارة الأنبياء والرسل – ص- والتوسل بهم إلى الله تعالى وطلب الحوائج منهم قال:- وأما في زيارة سيد الأولين والآخرين –صلى الله عليه وأله وسلم – فكل ما ذكر يزيد عليه أضعاف، أعني في الانكسار والذل والمسكنة، لأنه الشافع المشفع الذي لا ترد شفاعته و لا يخيب من قصده، ولا من نزل بساحته، ولا من إستعان أو إستغاث به إذ أنه عليه الصلاة والسلام قطب دائرة الكمال وعروس المملكة … الى أن قال:- فمن توسل به أو أستغاث به أو طلب حوائجه منه، فلا يرد و لا يخيب لما شهدت به المعاينة والآثار ويحتاج إلى الأدب الكلي في زيارته عليه الصلاة والسلام، وقد قال علماؤنا – رحمة الله عليهم:- إن الزائر يشعر بنفسـه بأنه واقف بين يديه عليه الصلاة والسلام كما هو في حياته)) أبن الحاج، المدخل 257:1 … قلت: نعم وأيم الله هذا هو شعور كل مسلم ومسلمة في عصرنا الحاضر كيف لا وهو –روحي وأرواح العالمين له الفداء – منقذ الإنسانية ومعلمها وصاحب الفضل الأول والأخير –صلى الله عليه وأله وسلم – على أمته والناس جميعاً 5- قال الشيخ زين الدين عبد الرؤوف المناوي (م / 1031 هـ):- وزيارة قبره –صلى الله عليه وأله وسلم – الشريف من كمالات الحج، بل زيارته عند الصوفية فرض وعندهم الهجرة إلى قبره كهي إليه حياً)) شرح الجامع الصغير 160:6 6- قال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الشيرازي الفقيه الشافعي (م / 476):- ((ويستحب زيارة قبر رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم –)) المهذب في فقه الإمام الشافعي،233:1 دار الفكر بيروت 7- حكى عبد الحق بن محمد الصقلي (م / 466 هـ) عــن الشيخ أبي عمران المالكي:- ((أن زيارة قبر النبي –صلى الله عليه وأله وسلم – واجبة، قال عبد الحق:- يعني من السنن الواجبة)) تهذيب الطالب كما في شفاء السقام: 68 8- قال القاضي عياض المالكي (م / 544 هـ):- ((وزيارة قبره سنة مجمع عليها وفضيلة مرغب فيها.. ثم ذكر عدة من أحاديث الباب فقال:- قال إسحاق بن إبراهيم:- ومما لم يزل من شأن من حج المزور – قيل بكسر الميم وسكون الزاء وفتح الواو: مصدر ميمي بمعنى الزيارة – بالمدينة والقصد الى الصلاة في مسجد رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم – والتبرك برؤية روضه ومنبره وقبره ومجلسه وملامس يديه ومواطن قدميه والعمود الذي أستند إليه ومنزل جبرئيل بالوحي فيه عليه)) الشفاء، 194:2-197 ط دار الفيحاء – عمان 9- قال القاضي أبو العباس أحمد السروجي الحنفي (م / 710 هـ):- ((إذا أنصرف الحاج والمعتمرون من مكة فليتوجهوا الى طيبة مدينة رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم – وزيارة قبره فأنها من أنجح المساعي)) الغاية كما في شفاء السقام: 66 10- قال نجم الدين بن حمدان الحنبلي (م / 695 هـ):- ((ويسن لمن فرغ عن نسكه زيارة قبر النبي –صلى الله عليه وأله وسلم – وقبر صاحبيه –رض- وله ذلك بعد فراغ حجه وإن شاء قبل فراغه)) الرعاية الكبرى في الفروع الحنبلية، كما في شفاء السقام: 67 زيارة قبور المسلمين لم يفصل القرآن والسنة النبوية بين الإنسان ومشاعره بل العكس فأن القرآن يرى أن على الإنسان أن يعيش بالفطرة التي فطرها عليه الله سبحانه وتعالى … فالحزن والألم والبكاء على فقد الأحبة طبيعية في النفوس الإنسانية من دون إعتراض على إرادة الله سبحانه وتعالى.. وزيارة القبور إنما هي من باب الاعتبار وقطعة من الادب العالي ((أما مسألة الحكم الشرعي في هذا الأمر فهو واضح لقوله –صلى الله عليه وأله وسلم – في الحديث الصحيح في عموم زيارة القبور ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فأنها تذكركم بالآخرة)) ثم خصوصية قبور الصالحين بخروج النبي من المدينة إلى أحد لزيارة شهداء أحد، ثم ذكره –صلى الله عليه وأله وسلم – في ما رواه الإمام مسلم في صحيحه أنه ليلة أسري به قال: ((مررت بموسى فإذا هو قائم يصلي عند الكثيب الأحمر ولو كنتم هناك لأريتكموه)) لم يرنا –صلى الله عليه وأله وسلم قبر موسى ؟! أما تكفي القبور التي في بلداننا للاعتبار، لولا أن لقبور الصالحين خصوصية وهذه الخصوصية هي أنها منزل للرحمة.. والقبر كما جاء في الحديث الصحيح أما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، فلا شك أن قبر الإمام الحسين بن علي روضة من رياض الجنة و لا يختلف في هذا إثنان من أهل العقل ثم أن هناك قضية أخرى وهي ما يثار اليوم من أن هذا شرك أو وسائل للشرك يقول النبي –صلى الله عليه وأله وسلم – في ما رواه البخاري في صحيحه في أكثر من خمسة مواضع ((والله ما أخاف أن تشكروا من بعدي)).. الذي أؤتمن على رسالة التوحيد لا يخاف أن تشرك)) جريدة الرأي العراقية العدد 164 في 30 حزيران 2002 وتعقيباً على ما نقلناه نقول:- أن الصلة بين الأحياء والأموات لا تنقطع ويجب أن لا تنقطع حتى لا ينسى الأموات وخاصة القادة والأولياء الصالحين والشهداء الذين ضحوا بأرواحهم من أجل نصرة الدين والوطن وزيارتهم إنما هي من باب رد الجميل والعرفان وإستذكاراً للمعاني السامية التي سطروها فـي الماضي.. وللحاضر وللمستقبل أيضاً.. قال تعالى ((وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِـمْ مِـنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) [ آل عمران: 171] يقول العلامة أبن قيم الجوزيه حول مقاصد الزيارة إن:- ((أحدهما:- تذكرة الاخرة، والاعتبار والاتعاظ وقد اشر النبي –صلى الله عليه وأله وسلم – الى ذلك بقوله:- ((زوروا القبور فإنها تذكركم الاخرة)).

الثاني:- الاحسان الى الميت وإن لا يطول عهده به، فيهجره ويتناساه كما إذا ترك زيارة الحي مدة طويلة تناساه، فإذا زار الحي فرح بزيارته وسر بذلك فالميت أولى، لانه قد صار في دار قد هجر أهلها إخوانهم وأهلهم ومعارفهم، فأذا زاره وأهدى اليه هدية من دعاء، أو صدقة، أو أهدى قربة أزداد بذلك سروره وفرحه كما يسر الحي بمن يزوره ويهدي له ولهذا شرع النبي –صلى الله عليه وأله وسلم – للزائرين أن يدعوا لأهل القبور بالمغفرة والرحمة وسؤال العافية فقط ولم يشرع إن يدعوهم ولا أن يدعوا بهم ولا يصلي عندهم … الثالث:- إحسان الزائر الى نفسه بأتباع السنة، والوقوف عند ما شرعه الرسول –صلى الله عليه وأله وسلم – فيحسن الى نفسـه والى المــزور)) أبن قيم الجوزيه، (ت / 751 هـ) في كتابه إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان ص 218، دار أبن زيدون، ط بيــروت تحقيق د: السيد الجميلي.

نبذة مقتظبة من الاحاديث

و للقارئ الكريم نبذة عن أحاديث زيارة القبور 1- عن أبن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وأله وسلم – ((نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)) صحيح مسلم 46:7 سنن الترمذي 370:3 سنن النسائي 89:4 2- قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم -:- ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور، الافزورها فأنها ترق القلوب وتدمع العين وتذكر الاخرة، ولا تقولوا هجراً)) المتقي الهندي، كنز العمال،15: الحديث 42555 و 42998 3- عن السيدة عائشة –رض- قالت: ((كان رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – كلما كان ليلتها من رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – يخرج من آخر الليل الى البقيع فيقول:- ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم أغفر لاهل بقيع الغرقد)) صحيح مسلم 41:7 4- وعنه – صلوات الله وسلامه عليه وآله – قال:- ((زوروا القبور فانها تذكركم الاخرة)) أبن ماجة في سننه 500:1 ح 1569 5- عن بريدة قال:- ((كان رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – يعلمهم إذا خرجوا الى المقابر أن يقول قائلهم:- السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية)) رواه أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه، وأبن ماجه في سننه – المنتقى، 116:2 6- عن عبد الله بن أبي مليكه:- ((أن عائشة –رض- أقبلت ذات يـوم من المقابر فقلت لها: يا أم المؤمنين من أين أقبلت ؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن فقلت لها: أليس كان نهي رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم – عن زيارة القبور ؟ قالت: نعم كان نهي عن زيارة القبور، ثم آمر بزيارتها)) أبن تيميه، المنتقى من أخبار المصطفى وأبن ماجة في سننه والحاكم في مستدركه، والبغوي في شرح السنة 7- وعن رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم – أنه قال:- ما من رجل يمر بقبر كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه الا عرفه ورد عليه السلام)) قال المتقي الهندي في كنز العمال:- وسنده جيد والروايات التي جمعها في كنز العمال الجزء الثامن الصفحة 99 وما بعدها والصفحة 125 وما بعدها يقرب من ثمانين رواية ومن أراد الاطلاع عليها فليراجعها. وفي لقاء نشرته جريدة الرأي المذكورة اعلاه مع مفتي مصر الدكتور أحمد الطيب نقتطف منه هذه الاوبة القيمة:

* هل زيارة قبر الوالدين وقراءة القرآن من البر والصدقة ؟

- نعم..الزيارة ايضا تكون للاصدقاء والمعارف، فالرسول صلى الله عليه وأله وسلم – قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور الافزوروها).. فالزيارة هنا للاتعاظ والعبرة

* خرج علينا بعضهم بأن زيارة قبر رسولنا الكريم صلى الله عليه وأله وسلم – بدعة وأن الزيارة للمسجد وليست للقبر ؟

-هذا كلام خطأ مئة في المئة، لأن الامة قبل القرن السابع مجمعة على زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وأله وسلم – وهناك أحاديث ومؤلفات كتبت للرد على مثل هذا الكلام، وهذا رأي شاذ في الامة الاسلامية، فزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وأله وسلم – مستحبة وفيها خير وإجماع المسلمين استمر مدة طويلة قبل ظهور بعض العلماء الذين قالوا ان الزيارة ينبغي ان تكون للمسجد النبوي وليس لقبر الرسول صلى الله عليه وأله وسلم –.

* هل هذا ينطبق على زيارة قبور آل البيت والصالحين ؟

-أي قبر زيارته تجوز، اذا كنا نقول ان زيارة قبور العامة تجوز، فما بالك بقبور آل البيت..يجوز شرعاً زيارة قبور الصالحين وآل البيت والعلماء والاولياء وأدعوا لهم وأتعظ بما كانوا عليه.

* بعضهم يحرم الصلاة في المساجد التي بها أضرحة.

-هذا كلام غير صحيح وسوف ادلل لك بعيداً عن الاحاديث حتى لا يشكك فيها أحد في مسجد النبي صلى الله عليه وأله وسلم – توجد ثلاثة قبور للرسول صلى الله عليه وأله وسلم – وأبي بكر وعمر، والمسلمون يصلون في هذا المسجد من خلف القبر وعن يمينه وعن شماله، ومن أمامه فلو أخذنا هذا الكلام وقلنا أن الصلاة لا تجوز أذن فعليك أن تحكم بأن صلاة المسلمين جميعاً في هذا المسجد باطلة، وأن هؤلاء المسلمين من بقاع الارض كلهم عباد قبور، فهل يمكن هذا؟

* بعضهم يصف هؤلاء بالشرك ؟

-هل يوصف الذين يصلون في المسجد النبوي بالشرك، فأنا بين امرين مطلوب مني أن اصلي في المسجد النبوي وبنص حديث نبوي شريف، لان الصلاة فيه تفضل الصلاة في المساجد الاخرى، وهذا المسجد نشد اليه الرحال، وهذا محل اتفاق اذن حينما اشد الرحال الى هذا المسجد وأصلي فيه ستقول لي أن صلاتي فيها شرك. كيف يكون مطلوب مني أن اشد الرحال الى مسجد الصلاة فيه شرك ؟ هل يستساغ هذا الكلام. كل ما هنالك أن الصلاة على القبر ممنوعة، واذا اعتقدت انك تصلي لهذا القبر فهذا كفر، انا اصلي لله في مسجد وهذا المسجد ملحق به قبر.

* يقول بعضهم ان التوسل الى الله برسوله صلى الله عليه وأله وسلم – شرك، وان كان جائزاً في حياته، فهو غير جائز بعد وفاته فما رأي فضيلتكم ؟

-هذه من القضايا التي تثار لارباك المسلمين وتشتيتهم وللاسف الشديد تظهر تلك الاسطوانات بين الحين والاخر ويلتف حولها الشباب، أنا أقول لك أن التوسل بالرسول صلى الله عليه وأله وسلم – حياً وميتاً. القرآن الكريم يقول: (ولو انهم اذ ظلموا انفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً). وايضاً ثبت في الحديث الصحيح ان المسلمين ومنهم ابو بكر وعمر توسلوا بسيدنا العباس عم النبي صلى الله عليه وأله وسلم – في حياته. أذن التوسل بالاحياء جائز برغم ان العباس ليس نبياً فاذا جاز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وأله وسلم – فيجوز التوسل بالنبي ومن رحمة الله ان حدث التوسل بالعباس وكأنه اراد الا يترك الامة في هذه المذاهب الضيقة التي استنفدت طاقات الامة في كلام غير مجد. اذن من كان على مستوى العباس من صحابي او صالح يجوز التوسل به، ابن تيمية نفسه اعترف بأنه يجوز التوسل بالحي وكل ما هنالك انهم يقولون بعدم جواز الوسل بالميت هؤلاء يمنعون التوسل بالميت لان فيه شركاً فإذا قلت لك وأجزت التوسل بالحي أذن أنا أجيز الشرك للحي، وكأنك تقبل ان يكون لله شريك حي ولا تقبل ان يكون له شريك ميت. السؤال الذي يطرح نفسه هل يعرف الاموات زيارة الاحياء ؟! ظاهر الروايات الواردة أدناه توحي بالايجاب الذي لايقبل معه أدنى شك والسلف الصالح مجمعون على ذلك وقد تواترت الاثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر ويستأنس به (1) ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وأله وسلم – من وجوه متعددة: أنه أمر بقتلى بدر فألقوه في قليب ثم جاء حتى وقف عليهم ونادهم باسمائهم: (يافلان بن فلان، ويافلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً ؟ فأني وجدت ما وعدني ربي حقاً فقال له عمر –رضي الله عنه-: يا رسول الله ما تخاطب من أقوام جيفوا. فقال صلى الله عليه وأله وسلم –:- (والذي بعثني بالحق ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون جوابا) (ينظر: البخاري – الصحيح / كتاب المغازي –باب قتل ابي جهل، مسلم – الصحيح، كتاب الجنة ونعيمها – باب عرض مقعد الميت في الجنة أو النار عليه، أحمد – المسند الحديث رقم 16359). (2) روى الزبيدي والسيوطي بسندهما عن السيدة عائشة –رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم –:- (ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده الا أستأنس به ورد عليه حتى يقوم) (ينظر: الزبيدي في اتحاف السادة: 365:10، السيوطي – الحاوي للفتاوي، 302:2) (3) روي البيهقي بسنده عن بشر بن منصور انه قال:- (لما كان زمن الطاعون كان رجل يختلف الى الجبان (أي المقبرة) فيشهد الصلاة على الجنائز، فإذا أمسى وقف على باب المقابر فقال:- آنس الله وحشتكم ورحم غربتكم، وتجاوز عن مسيئكم، وقبل حسناتكم، لا يزيد على هؤلاء الكلمات. قال: فأمسيت ذات ليلة، وأنصرفت الى أهلي ولم آت المقابر فأدعوا كما كنت أدعوا قال: فبينما أنا نائم إذا بخلق كثير قد جاءوني فقلت: ما أنتم وما حاجتكم ؟ قالوا: نحن أهل المقابر قلت:- ما حاجتكم ؟ قالوا:- إنك عودتنا منك هدية عند أنصرافك الى أهلك فقلت:- وما هي ؟ قالوا: الدعوات التي كنت تدعوا بها قال قلت: فأني اعود لذلك قال: فما تركتها) (ينظر: البيهقي – السنن – فصل في زيارة القبور:9298) والابلغ من ذلك أن الميت يعلم بعمل الحي من أقاربه وإخوانه فعن أبي أيوب قال:- تعرض أعمال الاحياء على الموتى، فإذا رأوا حسناً فرحوا واستبشروا وإن رأوا سوءاً قالوا: اللهم راجع به (ينظر: الطبراني – المعجم الكبير، 154:4، الزبيدي – اتحاف السادة، 385:10، أبن كثير – التفسير، 147:4، الهندي – كنز العمال الحديث: 43029، السيوطي – الحاوي للفتاوي، 2/ 303-304). (4) روي عن الفضل بن الموفق قال: (كنت آتي قبر أبي المرة بعد المرة فأكثر من ذلك فشهدت يوماً جنازة في المقبرة التي دفن فيها، فتعجلت لحاجتي ولم آته، فلما كان من الليل رأيته في المنام، فقال لي: يا بني لم لا تأتني ؟ قلت له:- يا أبت وإنك لتعلم بي إذا أتيتك ؟ قال: أي والله يا بني لا أزال أطلع عليك حين تطلع من القنطرة حتى تصل إلي وتقعد عندي ثم تقوم، فلا أزال أنظر اليك حتى تجوز القنطرة.. (ذكره أين قيم الجوزيه – كتاب الروح:21) التبرك أن التبرك بآثار الرسول الأعظم صلى الله عليه وأله وسلم –والصالحين وتقبيل قبورهم وغيرها ليست من جنس الزيارة وإنما أمور ثانوية.. وما يؤيد كلامنا ما روى داود بن أبي صالح ((قال: أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر فأخذ برقبته وقال: أتدري ما تضع ؟! قال:- نعم فأقبل عليه فأذا هو أبو أيوب الأنصاري – رضوان الله عليه – فقال:- جئت رسـول الله صلى الله عليه وأله وسلم –ولم آت الحجر / سمعت رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم – يقول:- لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ولكن أبكوا عليه إذا وليه غير أهله)) رواه الحاكم في المستدرك، 515:4 وصححه ولم يتعقبه الإمام شمس الدين الذهبي، ولشيخ الإسلام أبن تيمية روايات تقبيل الحجر واستلامه ووضع الخد عليه في المنتقى من أخبار المصطفى الجزء الثاني الصفحة 261، 262، 263 ولنا في رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم –اسوة حسنة، فلقد زار الرسول صلى الله عليه وأله وسلم –قبر أمه وبكى عليها وأبكى من حوله (ينظر:- البيهقي – السنن، 70:4، الخطيب – تاريخ بغداد، 279:7) وبكى رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم –لما رأى حمزة بن عبد المطلب – رضوان الله تعالى عليه – قتيلاً، فلما رأى ما مثل به شهق (ينظر أبن عبد البر – الاستيعاب بهامش الإصابة 275:1، أبن الأثير – الكامل في التاريخ، 970:2، أبن هشام –السيرة النبوية- 105:3 غزوة أحد) ومما روي عن أبن مسعود – رض – أنه قال:- ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم –باكياً قد أشد من بكاءه على حمزة أبن عبد المطلب لما قتل … الى أن قال:- ووضعه في القبر ثم وقف صلى الله عليه وأله وسلم –على جنازته وأنتحب حتى نشغ من البكاء (ينظر محب الدين الطبري – ذخائر العقبى، 81، السيرة الحلبية، 246:2) وبكاء الرسول صلى الله عليه وأله وسلم –على جعفر بن أبي طالب –رضوان الله عليه- (ينظر ابن الأثير – الكامل في التاريخ، 161:2، طبعة دار الكتاب العربي، أبن سعد –الطبقات الكبرى، 282:8) وعند وفاة رسول الله –روحي وأرواح العالمين له الفـداء – بكاه الصحابة –رض- ومما يروى أن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر –رض- كان يبكي على رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم – (ينظر:- ابن سعد - الطبقات الكبرى،312:2). كما روى أبن عساكر أن فاطمة الزهراء (عليها السلام) وقفت على قبره صلى الله عليه وأله وسلم – وأخذت قبضة من تراب القبر ووضعت على عينيها وانكبت وأنشأت:- ماذا على من شم تربة أحمد … أن لا يشم مدى الزمان غواليا صبت عليَ مصائب لو أنها … صبت على الأيام صـرنا لياليا (ينظر:- السمهودي – وفاء الوفا،1405:4، أبن سيد الناس، عيون الأثر، 340:2)

تأملات في التبرك

وأما التبرك فمن الجميل أن أورد كلمة للزميل السيد عبد العزيز الرفاعي المنشورة في جريدة الرأي العراقية الصادرة في زمن النظام السابق ما نصها:- ((بين حين وآخر يخرج علينا بعض الشباب بقصص وأخبار في هذه القرية أو تلك أو في هذا الجامع أو ذاك غريبة عما عرفه العلماء المسلمون. ويعدون ذلك أساساً في عبادتهم لا بل بعضهم يبدأ بترويج هذه الأفكار ويطلب من الآخرين تطبيقها ويؤكد من دون سند ولا وجه حق أن من لا يلتـزم بأفكاره (الغريبة) فأنه (مشرك) وهذا عين الخطأ، وأن هذا السلوك لا يرضي الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وأله وسلم – من هذه الأفكار تحريم التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وأله وسلم – لذلك فأن هذه الأفكار يجب أن تصحح وخير المصادر التي تساعد هؤلاء لتصحيح أفكارهم ومفاهيمهم هي كتب السنة النبوية الشريفة … لقد تبرك الصحابة –رضي الله عنهم – بشخص النبي صلى الله عليه وأله وسلم – وبأجزاء من جسده الشريف وثبت ذلك بإقرار من النبي صلى الله عليه وأله وسلم – بل وبفعله فقد صح عنه صلى الله عليه وأله وسلم – أنه حلق شعره ثم جعل يعطيه الناس وفي صحيح مسلم أن ((أم سلمة)) رضوان الله عليها – كانت تجمع عرقه صلى الله عليه وأله وسلم – فتعصره فـي قواريـر، فقال صلى الله عليه وأله وسلم – ما تصنعين ؟! قالت:- نرجو بركته لصبياننا فقال صلى الله عليه وأله وسلم –:- أصبت … أما الصحابة –رضي الله عنهم – فقد كانوا يتبركون بآثار النبي صلى الله عليه وأله وسلم – فإذا خلا المسجد جسوا رمانة المنبر التي تلي المنبر بميامينهم ثم يستقبلون القبلة يدعون وذكر الشيخ أبن تيمية عن الإمام أحمد – أبن حنبل – أنه رخص في التمسح بالمنبر والرمانة وذكر أن أبن عمر وسعيد بن المسيب ويحيى بن سعيد من فقهاء المدينة كانوا يفعلون ذلك … أما التبرك بآثار الصالحين فأن الإمام الشافعي – رضي الله عنه – كان يتبرك بماء غسيل قميص الإمام أحمد بن حنبل، وإنه يأخذ من ذلك الماء كل يوم ويمسح على وجهه تبركاً بأحمد بن حنبل … هذا هو فعل أئمة وفقهاء الأمة، فأين الثرى من الثريا من فعل الأميين في علم الشريعة)) جريدة الرأي الغراء العدد 164 في 30 حزيران 2002 الصفحة السابعة / عمود مفاهيم يجب أن تصحح بعنوان التبرك ونحن نقول:- أن التبرك بآثار الرسول الأعظم صلى الله عليه وأله وسلم – ليست بأقل من قميص يوسف حيث تبرك به يعقوب فعاد بصره قال عز وجل:- ((اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ(93)وَلَمَّا فَصَلَتْ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِي(94)قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ(95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) يوسف: 94-96 وليس ضريح منقذ الإنسانية ومعلمها صلى الله عليه وأله وسلم – ومدفنه وأهل بيته بأقل كرامة من تابوت بني إسرائيل وما ترك آل موسى وآل هارون من قميص وعصي قال تعالى:- ((وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)) البقرة: 248 … يقـول الإمام الرزاي في كتابه مفاتيح الغيب 177:6:- ((إذا حضر بنو إسرائيل القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر وهم يقاتلون فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا بالنصر، فلما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه، فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت قال ذلك النبي:- ((إن آية ملكه أنكم تجدون التابوت في داره)) فالمسلمون مدركون تماماً أن الله لا اله إلا الله وأن محمد رسول الله وإن الإسلام يدور مدار الشهادتين …فعن الإمام الصادق – عليه السلام – ((الإسلام شهادة أن لا اله إلا الله والتصديق برسول الله، به حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث)) كتاب الوافي باب أن الإيمان أخص مـن الإسـلام 18:3 وعن أبـو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم – قال:- ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله، فمن قال لا اله إلا الله عصم مني ماله ونفسه الا بحقه وحسابه على الله)) صحيح البخاري باب من أبى قبول الفرائض 50:8 وروى أوس بن أوس الثقفي قال: ((دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم – ونحن في قبة في مسجد المدينة فأتاه رجل فساره بشيء لا ندري ما يقول، فقال صلى الله عليه وأله وسلم – أذهب قل لهم يقتلوه ثم دعاه فقال: لعله يشهد أن لا اله إلا الله وأني رسول الله. قال نعم فقال:- أذهب فقل لهم يرسلوه، أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها حرمت علي دمائهم وأموالهم إلا بحقها، وكان حسابهم على الله)) رواه أبو داود الطيالسي وأحمد والدارمي والطحاوي ((كنز العمال في حكم الإسلام طبعة دائرة المعارف العثمانية الجزء الأول الصفحة 375)) الخاتمة يتبين لنا من خلال البحث أن زيارة قبر الرسول الأعظم صلى الله عليه وأله وسلم – وقبور أهل بيته وأصحابه وأئمة المسلمين وقادة الفكر والعظماء إنما هي من صميم أخلاق الإسلام، ذلك لو ترك المسلمون قبر نبيهم صلى الله عليه وأله وسلم – وقبور أهل بيته – عليهم السلام – وأصحابه – رض- وغيرهم لضاعت معالمهم ولتناستهم الأجيال القادمة.

ختاماً أسأل القارئ الكريم أن يلتمس لي العذر أن كان هنالك نقص أو قصور في الموضوع فأن الكمال لله عز وجل وخير ما أختتم به قوله تعالى: ((الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) الزمر:17

وقصارى القول إن مسألة دفن الاموات تحت الارض وابراز معالم القبر، لم تكن وليدة الساعة بل بدأت منذ الخليقة الاولى. منذ وجود آدم –عليه السلام- على سطح كوكب الارض، كما هو ظاهر الاية القرآنية التي نوهنا عنها. وقد أنتقلت الى سكان الحضارة والامم كتعاليم سماوية من خلال سلسلة الانبياء والرسل في كل أمة من الامم الغابرة، ذلك لأن الانسان قاصر عن فهم الوجود ونشأة الحياة وعلاقة الاحياء بالاموات، فلا بد له من مرشد يهديه طريق الهداية والاستقامة لتقويم الاجناس البشرية إذا ما تدخلت قوى الشر لتغيير مسار الانسانية والدين الاسلامي الحنيف كدين عالمي لا إقليمي، وكخاتم للاديان السماوية لم يعترض على الدفن والمقابر والزيارة، ولكنه هذب الطرق الخاصة بها وكيفيتها بما يتلائم وروح الرسالة … ولهذا شمر علمائنا علماء المذاهب الاسلامسة قاطبة عن سواعدهم المباركة في بيان تلك الطرق وفق ما جاء في الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة والتاريخ الاسلامي..

أن زيارة قبر الرسول الاعظم صلى الله عليه وأله وسلم – من أعظم أمنيات المسلمين فهو الماضي الاسلامي الناصع، والحاضر، والمستقبل، فهو التاريخ الملموس الذي من خلاله تستلهم الامة الاسلامية ما يحفزها للبقاء والصمود بوجه همجية الغرب الضائع، وضيق افق الوهابية التي تحاول الفصل بين الانسان المسلم ورسوله الكريم صلى الله عليه وأله وسلم – وأهل بيته الكرام – سلام الله عليهم – وأصحابه الغر المنتجبين –رضوان الله عليهم-

أذن: فمن واجبنا أحترام القبور وخاصة قبور الانبياء والاولياء الصالحين وقادة الفكر السياسي والعسكري، إذ إن الاعجاب بقبورهم وأحترامها وزيارتها لا يأتي من مجرد الوقفة المنبهرة أمام عظمتهم، وإنما من أستيعاب روحيتهم والعمل بوحي منها لبناء المجتمع القادر على الوقوف بوجه التحديات التي تتعرض لها البلدان الاسلامية.نعم هناك تقديس للشخصيات ولكن هذا التقديس لا يرتقي الى درجة الألوهية.فمسلمون يؤمنون بان الله ربهم ومحمد نبيهم.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 27 كانون الاول/2007 - 16/ذو الحجة/1428