الحروب والعنف والإهمال تديم الفقر على العراقيين وتزيد ظواهر التسول والانحراف

شبكة النبأ: منذ الساعات الأولى من صباحات العاصمة بغداد، ينسابون بين السيارات المتوقفة عند اشارات المرور، يطرقون زجاج النوافذ دون يأس وهم يحملون صغارا بعمر الزهور، او اوراقا متهرئة لتقارير طبية، او اي شيء اخر يمكن ان يقنع الاخرين بانهم فقراء يستحقون ورقة من احدى العملات الصغيرة.

شحاذون بشتى الأعمار، بعضهم يكتفي بالتسول على أبواب المحلات، وآخرون يدخلون مزايدات فيما بينهم من اجل شراء رصيف كامل، يتحكمون بكل من يشحذ عليه. وأسعار الأرصفة قد ترتفع أو تنخفض تبعا لموقعها، ونوع العابرين عليها وكثافتهم، لكنها لا تخلو أبدا من متسولين يلاحقون المارة في كل اتجاه.

يقول أبو احمد، وهو صائغ في عقده الخامس، يمتلك محلا للذهب في احد أسواق منطقة بغداد الجديدة، إن ظاهرة المتسولين، تفاقمت الى حد تجاوز حدود المعقول، علينا ان تعامل مع شحاذ جديد كل نصف ساعة.

ويضيف قائلا وهو منشغل بنقل بعض قطع الذهب الى الواجهة الزجاجية في محله، هؤلاء الشحاذين يفضلون محلات الذهب لأنهم في الغالب ينجحون في إحراج العرسان الجدد اثناء اختيارهم للنيشان (الذهب الذي يقدم للعروس)، فيحصلون على بضعة أوراق نقدية.

صاحب بسطية الملابس ابو زينب، قال إن بعض الشحاذين هم عبارة عن لصوص متنكرين. ويوضح لـوكالة (أصوات العراق)، انهم يلتصقون بالناس بحجة الحصول على صدقة، لكان سرعان ما نكتشف انهم سرقوا شيئا، والشحاذون الصغار يبرعون في هذا لأن النساء لا يبدين اهتماما اذا ما اقتربوا منهن كثيرا. وعلق حول تعامله مع مثل هذه الحالات، نحن اصبحنا نعرفهم جيدا، ونبادر الى طردهم حالما نراهم يقتربون من زبائننا.

أما أبو علاء، وهو سائق في كراج باب المعظم، فقد روى قصة امرأة طاعنة في السن، تأتي بها سيارة صباح كل يوم، ويحملها شاب ويضعها على الارض، ثم يأتي نفس الشاب ليأخذها مع حلول المساء، بعد ان يلملم ما القي اليها من صدقات.

ويضيف ابو علاء، حزنت على حالها وما يفعله ذلك الشخص بها، فقررت ان اجلب لها كل يوم شيء من الطعام وكانت لاتتكلم في البداية حتى اطمأنت لي، فكشفت لي ان الشاب هو ابنها الوحيد، وانه يقوم باستغلال عجزها وعدم قدرتها على السير، فيضعها هنا ليأتي نهاية اليوم ليستلم ما جنته من مال التسول.

سلوى عباس، ناشطة في منظمات المجتمع المدني، تحدثت عن تزايد اعداد المتسولين في الشارع العراقي، وعزته الى استفحال ظاهرة التهجير القسري وانتشار الفقر وما آلت اليه حال الساكنين في المخيمات من بطالة وعدم القدرة على سد رمق العائلة. مضيفة، هناك ايضا اعداد من العائلات المهجرة التي سكنت على أطراف المدن الآمنة، وبعضها التجأ الى مناطق شعبية وسكنت في قطع الأرض الفارغة، وبالتدريج بدأ البعض منهم يطلب مواد تموينية من المنازل المجاورة في الحي، بحجة صعوبة الحصول على المواد التموينية المخصصة لهم من مناطقهم التي اخرجوا منها قسرا، وسرعان ما اضيف الاطفال الذين لم يلتحقوا بمدارسهم الى قائمة الشحاذين التي لا تنتهي. وتابعت، نحن نحاول تقديم المساعدات التي تتوفر لدينا، ولكن الوضع الاقتصادي بشكل عام متدهور، والبطالة استفحلت الى حد خطير.

وترى ام رائد، موظفة في الثلاثين من عمرها، ان تفاقم ظاهرة التسول تعود الى استسهال البعض امتهان التسول، خاصة وان اغلب العراقيين يعتقدون ان  اعطاء مبلغ من المال كصدقة، قد تدفع عنهم البلاء في شوارع يتفشى فيها التفجير والقتل. وتضيف، انا لا أعطي لمتسول أبدا، لأني مقتنعة تماما ان هذا يشجعهم على الاستمرار في مهنتهم السيئة. وتساءلت، ما معنى ان يأتيني شاب بكامل صحته، او فتاة يمكنها ان تعمل في دائرة أو محل لبيع الملابس، ليطلبوا مني المال، ربما لو فتشت ثيابهم سأجد انهم يملكون نقودا تفوق ما احمله انا نفسي.

الشحاذون أنفسهم، لديهم مبرراتهم التي لا يتعبون من تكرارها كلما سألهم احد، لماذا لا يعملون في مهن شريفة بدلا من التسول على قارعة الطريق. احدى الشحاذات، كانت عجوزا تفترش الأرض وقد اجلست الى جوارها طفلين أمام كراج منطقة المشتل، تساءلت.. ماذا أفعل، انا أرملة واربي هؤلاء الايتام، ليس عندي مهنة او شخص يتكفلني، انا لا اعرف حتى الخياطة. ثم تابعت وهي ترسل دمعتها، إنهم أبناء ابنتي التي قتل زوجها في الانفجار، وهي تسكن عندي الآن ولا معيل لنا سوى ما يجود به أهل الخير.

أما رحاب، الطفلة ذات الثمان اعوام التي تتسول على باب جامعة بغداد، فتقول، أنا وأخواتي وإخوتي كلنا نتسول، انا في باب الجامعة، وأخي عند الإشارة الضوئية، واخي الاخر في الكراج. ثم تابعت وهي تنظر الى الجهة المقابلة..التسول ليس عيب عندنا لأنها مهنة عائلتنا، وهي احسن من السرقة او القتل على اي حال. وحين اقترب منا رجل كان يتابع حديثنا عبر الشارع، قالت هذا خالي ابو سعد، فهو الكفيل بمراقبتنا خشية ان يتعرض واحد منا لسوء او اعتداء من أي شخص غريب.

"قصص الشحاذين لا تنتهي." هذا ما قاله ابو احمد صاحب المقهى القريب من ساحة الطيران، وتابع قائلا بعد ان مر امامنا احد الشحاذين وهو يسحب رجليه المشلولتين على الارض، كان هذا الرجل تاجرا معروفا، وليس أي تاجر، كان يعمل في زمن الحصار في الاستيراد والتصدير وكان يعشق سباق الخيول حد الجنون. ويضيف، إلا انه كان مغامرا وطائشا الى درجة انه راهن على فوز فرسه على فرس عدي صدام حسين، فكان له ما جرى وفاز فرسه بالسباق، فكانت النتيجة انه اختفى مدة من الزمن، بعدها رأيناه وهو على هذا الحال.

وتابع ابو احمد وهو ينسحب الى داخل مقهاه، هناك العديد من الشحاذين الذين لديهم قصص مماثلة ممن ضيع حياتهم القمار، او الوقوع في حب غجرية، او أي سوء طالع مروا به ولم يتمكنوا من الوقوف على اقدامهم بعدها، فلجأوا الى التسول كحل اخير وارتاحوا له، فهو لا يحتاج رأسمال، مجرد حفظ بعض الادعية، واراقة ماء الوجه، تكفي لأن يستمروا في العيش مهما كان مرا.

الباحث الاجتماعي فارس العبيدي، يرى ان ظاهرة التسول، ليست محددة بزمن أو مكان، فهي مهنة يبرع في ممارستها الكثيرون، خصوصا في المجتمعات الشرقية التي تعاني من الفقر الذي لا ينتهي، والافكار التي تحض الناس على دفع الصدقة للمتسولين كوسيلة لتجنبى الاذى. ويوصل العبيدي، ربما تكون هذه الظاهرة انتشرت الان بصورة غير مسبوقة، لكن علينا ان نعترف بان الاوضاع السيئة ليست هي السبب الوحيد، هناك اسباب تتعلق بصلب تفكير المجتمع، هناك اناس استسهلوا الامر كما حصل حين وجد الكثيرون مبررا لسرقة المال العام بعد نيسان عام 2003. ويكشف العبيدي ان عمل الشحاذين لم يعد مقتصرا على عوائل وافراد فحسب، بل إن هناك "مافيات متكاملة تسيطر على عمل الشحاذين ولصوص الاسواق، وحتى القتل والاختطاف احيانا.

الحروب والعنف والأهمال وراء فقر العائلات في بغداد 

تسكن أم محمد في حي التنك، وهو الحي الأفقر في مدينة الفقر (مدينة الصدر) الواقعة شرقي العاصمة العراقية بغداد، وهي أم لخمسة أطفال... أكبرهم لا يتجاوز العاشرة من عمره، ويخرج أطفالها للعمل من الصباح الباكر ويعودون مع غروب الشمس.

تقول أم محمد لوكالة ( أصوات العراق) إن زوجها  توفي منذ أكثر من سنة، وكان يكسب عيشه بصعوبة، ولم يكن خيارنا بعده سوى الرضا بهذه الحال... والبيت الذي هو أشبه بالقبر.

المعاناة الكبرى، كما تصفها ( أم أحمد)، تتمثل في العمل الشاق الذي يؤديه ابنها أحمد (10سنوات) وأخوه يوسف (8 سنوات)، لأنهما  تكفلا بمصروف العائلة، وعن ذلك تقول، منذ الصباح الباكر يخرج يوسف مع أخيه أحمد لجمع العلب المعدنية الفارغة، ومن ثم بيعها... ولا يعودان إلا عند غروب الشمس.

أحمد وأخيه لا يفكران في العودة إلى المدرسة، على الرغم من حنينهم إلى الأيام القليلة التي عاشوها فيها وذكرياتهم البسيطة عنها.

يقول أحمد، في طريقنا للعمل نشاهد الطلاب الذين كانوا معنا في الصف... ونتمنى أن نعود، لكننا ملزمون بأن نطعم أمنا وإخواننا الصغار.

يتذكر الصغير يوسف المدرسة، كنا نرسم كثيرا في المدرسة، وكان عندي دفتر وقلم، وكنت أحب الرسم كثيرا... وأتمنى أن أعود لأرسم من جديد.

تسكن العائلة في بيت مكون من غرفة طينية بسقف من الصفيح وسعف النخيل، لا يحميها من أشعة الشمس ولا يقيها من أمطار الشتاء القادمة، ولذلك تقول أم أحمد، أخشى كثيرا من هطول الأمطار قبل أن يتمكن أحمد من جمع بعض الأموال لشراء سقف آخر، بدل هذا السقف المليء بالثقوب.

 أبو مرتضى (36 عاما) تزوج منذ (12) عاما، ولديه الآن سبعة أطفال... وليس لديه مصدر للعيش سوى وظيفته الحكومية التي يتقاضى منها مرتبا بسيطا، لا يكفي حتى أجور السكن، حسب قوله.

ويضيف، كنت أسكن في داري في ناحية الحصوة التابعة لمحافظة بابل (100كلم جنوب بغداد)، وبسبب سوء الوضع انتقلت إلى الكاظمية (شمالي بغداد)، وكما ترى اسكن في غرفتين تحت سقف آيل للسقوط، ويتابع قائلا يتطلب الأطفال مني مصاريف كثيرة، هي ضعف الراتب الذي أتقاضاه، ولذلك تبدو مطاليبهم بالنسبة لدخلي شبه مستحيلة.

وتسكن أم ثامر ، أم لثلاثة أبناء ، في إحدى سكلات (مستودعات) بيع مواد البناء في مدينة الصدر شرقي بغداد، . توفي زوجها بصعقة كهرباء ولم يبق لها أي معيل لذلك تعيش على "صدقات الخيرين". تحت هذا السقف لمت كل ما تملكه في الزوايا  وكأنها على رحيل . تقول واصفة حالها، منذ أن توفي أبو ثامر لم يعد بوسعنا أن ندفع إيجار بيت ، لذلك اضطررنا أن ننام في فيء بعض الأبنية إلى أن جاد علينا صاحب هذه السكلة بالسكن فيها .

لا تشعر أم ثامر بالاستقرار، كأننا نعيش في الشارع، وعلى صدقات الخيرين يعيش أطفالي القصر، دائما تشعر إنها مشردة ، هي وأطفالها ، وتتساءل أم ثامر عن مصير أولادها الصغار  في حال فكر صاحب السكلة ( المستودع) أن يأخذ المكان الذي تسكن فيه.

أم حيدر ،التي تسكن في المحمودية جنوب بغداد، لم تفقد زوجها كالكثرة من الأرامل العراقيات ، لكنها وصفته بـ"نصف إنسان" لأنه أصيب بمرض جعله مقعدا لا يستطيع الحركة والكلام. وتواصل، عائلتنا متكونة من خمسة أشخاص و ليس لدينا مصدر للعيش سوى راتب أبو حيدر البالغ 200 ألف دينار، ندفع منه 75 ألف دينار  إيجار للسكن ، ولذلك فان مصاريف علاج زوجي العليل فوق الطاقة والمتصور.لذلك اضطررنا في الفترة الأخيرة أن نوقف علاجه لأننا لا نملك ما نأكله .

مديرة شبكة الحماية الاجتماعية في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ليلى كاظم تحيل ارتفاع معدلات الفقر في بغداد إلى الحروب التي طالت العراق والى التفكك الأسري.

وأوضحت، أن نسبة الفقر في العراق  بلغت 20% ، وهي  متأتية مما خلفته الحروب التي خاضها العراق وظواهر التفكك الأسري، موضحة بأن مدينة الصدر هي اكبر المناطق وأكثرها فقرا في بغداد ، تليها مناطق الحرية والشعلة في جانب الكرخ . وتقول ليلى بأن العراق لديه واحدة من أكبر شبكات الرعاية الاجتماعية، مبينة أن ما يقارب من مليون عائلة مشمولة بشبكة الحماية الاجتماعية في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ، منها 180 ألف أسرة في بغداد . وفي مدينة الصدر وحدها تم شمول (25) ألف أسرة . وتواصل كاظم مبينة بأن تخصيصات شبكة الحماية الاجتماعية لعام 2007 بلغت 920 مليار دينار عراقي من ضمنها مناطق إقليم كردستان.

وأضافت، أعطينا مبلغ 120 ألف دينار للأسر الفقيرة  المتكونة من خمسة أطفال فما فوق، وكشفت مديرة الشبكة بأن هناك خطة لمنح قروض صغيرة للمواطنين ، إضافة إلى تشغيل 18 ألف عاطل في مشروع القروض الصغيرة موضحة، أن لجنة خاصة قد شكلت في وزارة العمل لغرض التخفيف من مستوى الفقر بالعراق .

أخصائيون وباحثون اعتبروا ظاهرة الفقر جزءا من ترسبات المنظومة الاجتماعية التي ترشحت خلال الفترات السابقة التي أجهزت على الطبقة الوسطى ، فالباحث عبد مسلم عليوي قال بأن، تداعيات الفقر جزء من منظومة التفكك الاجتماعي التي أصابت المجتمع العراقي خلال الحروب التي عاشها ، والتي ذهب ضحيتها الكثير من أرباب العائلات ، إضافة إلى ما خلفه الإرهاب اليوم من دمار مماثل. وأضاف، أن المجتمع العراقي بحاجة إلى تأهيل جاد يخضع لبرامج تحد من ظواهر الفقر المدقع التي أصابت بعض العائلات وحرمت العديد من الأبناء فرص التعلم والوعي وخلقت منهم جيلا أميا.

وحذر عليوي من الخطر الكبير الذي يجب على الحكومة أن تعي وتتصدى لمجرياته لأنه يمثل في الغد وبالاً وعائقا عن بناء المجتمع.

وحث عليوي الحكومة لأن تنظر بعين واقعية ومشاهدات ميدانية لحالات الفقر وأن تسعى جاهدة إلى تقليص الطبقة الفقيرة والاعتناء بالطبقة الوسطى. وعبر عن خشيته من صعود طبقة تهيمن على الواقع السياسي والخدماتي لم تعد تكترث بما تفرزه الساحة من حالات تدمي القلوب لأنها بعيدة كل البعد عن واقعه .

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 13 كانون الاول/2007 - 2/ذو الحجة/1428