اطفال العراق: عذابات غضّة من عذابات عتيدة

شبكة النبأ:  عذابات غضة توالدت من عذابات عتيدة وضاربة في الحرمان وهو العمق التاريخي التي عانت منه الطبقة الفقيرة في عراق غني بما يكفي ان دجلة والفرات يكرمان الخليج والبحر من مائهما الزلال، الا ان هذا الكرم الكبير ظل حكرا على الفساد والسلطة والاحزاب دون ان يدخل البيوت المهجورة او تلك التي تطبخ حرمانها في قدور الوعود المهذبة.

فالصبية يحلقون حولك حالما تضع اقدامك على اعتاب أسواق الخضار في اي منطقة من مناطق بغداد، يدسون اكياس البلاستك عنوة بين يديك، ويدفعون بعرباتهم نحوك دون ابطاء، فعلى هذا يعيشون، ومن هنا يأتي قوتهم بعد جهد يومهم الطويل.

وبرغم الخوف الذي يمنعك من ان تبادر بالسؤال عن عوالمهم، ثمة فرصة لان تعرف خفايا المدينة من احاديثهم التي لا تخلو من المفاجأة، والغرابة في احيان كثيرة.

محمد عباس، بائع اكياس البلاستك الذي يستقبل كل القادمين الى السوق بكلماته التي لا تغيب عنه ـ  علاكة عمي.. خالة خوش علاكة (كيس بلاستك باللهجة العراقية).

قال والأبتسامة لاتفارق شفتيه انه قد اتم الثامنة، وانه يذهب في الصباح الى المدرسة، وأضاف ..انا (شاطر) انهيت الصف الثاني الأبتدائي وانا هذا العام في الصف الثالث، ابي وامي متعلمان ايضاً، فقد انهى ابي الصف السادس الابتدائي، وامي انهت الصف الخامس.

وحين سالناه، هل يريد ان يكمل دراسته يوما ما، رفع كتفيه وادار عينيه في محجريهما قائلا لـ اصوات العراق، اكمل.. ولم لا.. بعد لحظات، اقترب صبي اخر وهو يدفع عربته التي صنعها من عدة صناديق بلاستك مرتبة فوق بعضها ومثبتة  على قاعدة خشبية ربط بها اطارات معدنية تصدر ضجيجا عاليا يعلو على ضجة السوق ، واخذ يتساءل عما نريد من الصبي، فتبين ان الصبية هنا قد عقدوا فيما بينهم أتفاقية للدفاع المشترك، فهم يتجمعون بينهم ليدافعوا عن بعضهم اذا ما حاول شخص ما ايذاء احدهم.

عالم الاطفال في اسواق بغداد ليس بسيطا، فهو عالم يسيطر عليه الكبار، اغلب الأطفال يكونون عادة بصحبة اباءهم او امهاتهم او اخوتهم الكبار، فهم يجلبون اطفالهم الصغار ليبيعوا الأكياس البلاستيكية، بينما يعمل الاكبر سنا في حمل اغراض المتسوقين بعرباتهم، ويتفرغ الأهل لبيع الخضار.

مضى وقت طويل قبل ان يتجمهر الصبية حولنا بعد ان زالت مخاوفهم منا، مضوا يتسابقون للحديث عن تفاصيل حياتهم في سوق الخضار، وروى لنا سعد ذو الاعوام العشرة، قصة الرجل الغريب الذي استأجر عربة الصبي علاء، ثم وضع فيها مجموعة من الاكياس السوداء، وتقدم امامه ليغيب في زحمة المتسوقين، ويترك علاء يدور في السوق بحثا عنه، وما هي الا لحظات، حتى تفجرت الاكياس السوداء، وتلاشى جسد علاء في عصف الانفجار الذي حوله الى قطع صغيرة ملقاة على الارض.

ويكمل القصة صبي اخر: بعد الانفجار، طوقوا السوق بحواجز كونكريتية من كل الجهات، وفتحوا فيها ابواب لا يدخل منها احد الا بعد تفتيشه، خشية ان يأتي غريب اخر ويفجرنا.

ام حسين، بائعة خضار في عقدها الثالث، يعمل ابنها معها في بيع الأكياس البلاستيكية، قالت: ..ان السوق آمن بالنسبة للاطفال هنا، لأن كل واحد يعرف الآخر ، واغلب الأطفال هم من ابنائنا وليسوا غريبين عن بعضهم، ونحن نحرص عليهم ولا نتركهم يغيبون كثيرا عن بسطاتنا.

وتكمل حديثها نحن نعمل في مهن شريفة ولا نسرق او نشحذ، كما اننا نوفر لأبنائنا تعليما على مستوى قدرتنا المادية.. ابني الكبير انهى معهد التكنلوجيا العام الماضي، وهو الآن صاحب بسطة في الجهة الأخرى من السوق، المشكلة انهم حتى لو اكملوا تعليمهم سيعودون الى السوق في النهاية.

اما ابو احمد، صاحب بسطة الفواكه، فيقول: انهيت دراستي الجامعية، واعمل مدرسا في الصباح ، وبعد المدرسة لدي هذه البسطة ابيع فيها الفواكه، واكسب منها رزقا يفوق المدرسة، الناس الآن اصبحت لاتعير التعليم اهمية، ويفضلون ان يكون لدى الأبناء  صنعة تقيلهم من عثرات الحياة وتضمن لهم مستوى معيشي جيد.

أحاديث بعض الصبية عن الدراسة، تشي بانهم فقدوا التفكير بها تماما، فالطفل نبيل قال انه اغبى من ان يكمل المدرسة، ويصف نفسه ضاحكا.. انا اجلس في الصف مثل (حمار) وبعد تكرر رسوبي اخذني والدي للعمل معه على بسطة الطماطم الصغيرة التي نعتاش منها في السوق، صبية اخرون قالوا انهم لا يذهبون للمدارس لان المعلمين يقسون عليهم، فيما ذكر بعضهم ان الاوضاع المادية الصعبة لعوائلهم، هي التي دفعتهم للعمل في السوق.

أحد الأطفال قال ان وفاة والده، هي السبب الأساس في خروجه مع امه للعمل، واضاف بلهجة الكبار: العيشة تنراد.. لقد توفي ابي بشكل مفاجيء بالسكتة القلبية قبل ثلاث اعوام، لا انا ولا امي كنا نجيد العمل في السوق، لقد كانت وفاته صدمة لنا فقد كنا نعتمد عليه وبعد ان تنهد بعمق اكمل حديثه: لقد كنا في ايام خير مع ابي وفي اتم حال، حتى استيقظنا ذات يوم لنجد ابي قد فارق الحياة، لم يكن يشكو من شيء على الأطلاق، في العيد كان يأخذنا الى منطقة الكاظمية ويشتري لنا الثياب، لكن الآن اصبحنا نذهب لنشتري ملابس مستعملة لنرتديها، فنحن في البيت سبع بنات وانا اوسطهم والحياة تصبح اصعب يوما بعد يوم، امي تبيع الخضراوات وانا ادور حول بسطتها وابيع الأكياس ثم اضاف بشيء يشبه الزهو لكن انا سأطور مهنتي، فأنا اعمل على ان احصل على عربة، لأبيع الأكياس من جهة، واعمل كحمال كي اكسب مالا اكثر وعندما سألته عن المدرسة، قال لي باستخفاف، يا مدرسة..

ليس لكل الاطفال في سوق الخضار اهل يتفقدونهم، فالبعض يسكنون البيوت القريبة من السوق، ويأتون لبيع الاكياس لوحدهم، احد الباعة علق قائلا اننا نتعجب من تزايد اعداد الأطفال الذين يبيعون الاكياس هنا، فلم يكن عددهم بهذه الضخامة من قبل. واضاف:  ان اغلب هؤلاء الأطفال خارج المدارس فهم يقضون اكثر وقتهم في البيع، لان الوارد لن يكون شيئا كبيرا اذا قضوا نصف وقتهم في المدرسة وتحضير الواجبات. وعزا سبب سماح الاهل للأطفال بالتسرب من المدارس الى سوء الأوضاع الأقتصادية والقفزة في اسعار المواد الغذائية وكثرة عمليات القتل التي جعلت العديد من العوائل بلا معيل.

جاسم ذي الثلاث عشر ربيعا، رفض البوح بما يعتمل في صدره من ألم وفي عينيه اعتداد الفقراء، فتبرع طفل آخر بسرد حكايته لوكالة (اصوات العراق)، فجاسم كان ابنا لرجل يعمل في البناء، سقط من فوق السقالة لينكسر ظهره ويجلس كسيحا في البيت، وتضطر امه للعمل ببيع الخضار في السوق لتؤمن لهم لقمة عيشهم، وفي صباح ممطر انفجرت عبوة وسط السوق، كانت ام جاسم احدى ضحاياه، ليجمع الصغار في ذاكرتهم صورتين قاتمتين، جثة ام جاسم، واشلاء الطفل علاء التي كانت ملقاة في سوق الخضار. وايضا، تبقى في الذاكرة يد جاسم وهو يدفع يد المساعدة التي امتدت بمبلغ بسيط وهو يقول.. لا خالة.. انا لست شحاذاً.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 2 كلنون الاول/2007 - 21/ذوالقعدة/1428