البعد الثالث لرأس البيشة

كاظم فنجان الحمامي

 تتشكل جميع إحداثيات المواقع, والأماكن الساحلية في كوكب الأرض من النقاط المتولدة من تقاطع بعدين فقط . أو من تقاطع محورين اثنين لا ثالث لهما . هما محور خط العرض ومحور خط الطول.

ويعبر عن إحداثيات تحديد المواقع في علم الرياضيات بمحوري ( X , Y  ). أو ( س , ص). باستثناء منطقة رأس البيشة. التي لا يمكن تحديد موقعها إلا بتقاطع ثلاثة أبعاد. فقد شاءت إرادة الله تعالى أن تمنحها بعدا ثالثا, يميزها عن غيرها من المناطق الساحلية بهذه الميزة الفريدة. ويعطيها حرية الحركة والتمرد على قوانين المكان. فهذه المنطقة مرهونة بالبعد الثالث. وهو البعد الزمني الذي يحدد موقعها الصحيح على الخارطة.

 ولا يجوز أن نذكر إحداثيات موقع منطقة رأس البيشة من دون أن نشير إلى السنة التي سجل فيها ذلك الموقع . فهي لا تقف عند حدود المكان كبقية المناطق. ولا تتسمر في موضعها أبدا. ويعزى ذلك إلى كونها منطقة زاحفة على الدوام باتجاه البحر. بسبب انشغالها بعملية البناء المرتبطة بظاهرة الإرساب الطبيعية. التي كانت وما تزال صفة ملازمة لمصب نهر شط العرب في شمال حوض الخليج العربي.

فالحدود الجنوبية لساحل رأس البيشة غير مستقرة على حال وتتقدم سنويا نحو البحر بفعل تراكمات الكميات الهائلة من الأطيان المضافة إليها كل عام . ولو قمنا بتثبيت ركيزة من الخرسانة المسلحة على الخط الساحلي الطيني لرأس البيشة عند انحسار الجزر هذا العام (2007 ). وعدنا إليها عام 2010 . لوجدنا أن تلك الركيزة أصبحت تماما على اليابسة. وتحيط بها الأراضي الصلبة, ولم تعد تلامسها مياه البحر . وخير دليل على ذلك نذكر أن سارية الفاو الجنوبية التي نصبتها شركة الهند الشرقية على ساحل رأس البيشة قبل قرنين من الزمان. تقع الآن داخل بساتين الفاو. وكانت العوامة الملاحية رقم (12) تقع بمحاذاة رأس البيشة تماما في العام 1980, ولا تبعد كثيرا عن موقع الجسر الأنبوبي الحالي . أما الآن فأن ساحل رأس البيشة غادرها جنوبا, وابتعد عن موقع ذلك الجسر الأنبوبي بحوالي ميل بحري واحد تقريبا. .

 وكان الفنار الملاحي ( F ) (1) عام 1980 يقع جنوب ساحل رأس البيشة بمسافة ميل ونصف الميل تقريبا. بينما نجده اليوم قريبا من الخط الساحلي. . وبمراجعة سريعة للخرائط الملاحية الدقيقة المرسومة في الأعوام المنصرمة, ومقارنتها مع واقع رأس البيشة الآن. ستجد أن المسافة بين الأرصفة النفطية في الفاو والساحل الجنوبي لرأس البيشة. قد تباعدت خلال السنوات اللاحقة بشكل ملفت للنظر. .

وهذه دلالات أكيدة على أهمية الإشارة إلى البعد الثالث ( البعد الزمني ). عند التحدث عن موقع رأس البيشة. وان لا تكون إحداثيات هذا الموقع مقتصرة على تثبيت تقاطعات خطوط الطول والعرض فقط .

وسيبقى رأس البيشة موغلا في زحفه, متحديا كل الضوابط الجغرافية المعروفة. فرأس البيشة يمثل النتوء الساحلي العراقي الوقع في أقصى الجنوب. والمتحرك دوما نحو المياه العميقة. والمشرئب برأسه المتمدد, معانقا الآفاق البعيدة. الدءوب على مواصلة البناء من أطيان دجلة والفرات. الحريص على بسط ذراعه الطويلة في أغوار البحر. المواظب على رسم خطوط السيادة العراقية المتجددة في الفضاءات المفتوحة. انه مارد عملاق أيقن بان جذوره العريقة مغروسة هناك في قلب الخليج الذي كان يسمى يوما خليج البصرة.. فثار على قوانين المكان والزمان ليرسم وجها منيرا لعراق المستقبل في عرض البحر. حاملا على كتفيه مياه الرافدين وهويته العراقية الأصيلة الموشحة بخوص سيد الشجر, وأغصان الحناء المقدسة, والمطرزة بالحروف السومرية والبابلية والأكدية والآشورية والكلدانية والسريانية والمندائية. المكتوبة على جبهته الغراء باللغة العربية الفصحى, وبالخط الكوفي.

مناديا بأعلى صوته :

يا ملك شورباك . . . يا ابن أوبارو توتو .

أهدم بيتك وشيد زورقا (2).

ومازلت اسمعه يصيح بالخليج :

يا خليج .

( يا واهب اللؤلؤ, والمحار, والرّدى )

فيرجعٍُ الصّدى

كأنه النشيجْ :

يا خليج

( يا واهب المحار والرّدى ) (3)

......................................................................................

 (1) – يسمى موقع هذا الفنار حاليا باسم ( عبيّس ). نسبة إلى رجل من جنوب الفاو اسمه (عباس). قادته الأقدار وولده الصغير إلى لجة البحر. وهما في زورقهما الخشبي. فانطبق البحر عليهما في شتاء قارص. وحاول الأب (عباس) أن ينقذ ولده. فاستطاع لكنه لم يستطع أن يتجنب الكارثة. فابتلعه البحر . فصار المكان الذي غرق فيه (عباس) يعرف باسم ( عبيّس ). وهو تصغير وتحبيب لأسم (عباس). فاشتهر بهذا الاسم .

(2) – مقطع صغير من ملحمة الطوفان. يدعو فيه جلجامش أبناء العراق إلى بناء السفن والزوارق وركوب البحر وتحدي الأمواج.

(3) – من قصيدة ( أنشودة المطر ) للشاعر الكبير بدر شاكر السياب .

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 12 تشرين الثاني/2007 - 1/ذوالقعدة/1428