الواصلية صلة الوصل

كاظم فنجان الحمامي

 حسناء من قرى (السيبة). كانت تختال بأناقتها بين بساتين النخيل الباسقة، وتتباهى بنضارتها وبطلعتها البهية وبعيونها الباسمة ووجهها المشرق. عشقها رجال البحر وشغفوا بحبها. وهاموا كلهم بجمالها الأخاذ. فأحبتهم جميعا ووفرت لهم الدفء والمأوى، وسقتهم من رحيقها. لاذت بها السفائن، بقلوعها ومجاذيفها ومراسيها، من كل حدب وصوب. فلم تقطع بهم الوصل..

أنها الواصلية التي كانت صلة الوصل بكل الذين ركبوا البحر وزينوا جيدها بقلائد اللؤلؤ. وهي الواصلية التي نسجت جسور الوصل والمحبة بين مرافئ الفيحاء وأغوار الخليج. وكان الوصول إليها غاية المسافرين والمهاجرين الذين تقطعت بهم الأوصال. وهي صلة الوصل التي تربطنا بماضي شط العرب.

وسميت بالواصلية (1) نسبة إلى واصل بن عطاء، الذي كان رأس فرقة (الواصلية)، وهو مؤسس (المعتزلة). وهي فرقة كلامية نشأت في البصرة،  وظهرت في بدايات القرن الثاني الهجري، واستقرت في هذا الموضع.

غرست الواصلية جذورها في واحتها الريفية المحاذية لضفاف شط العرب، والمجاورة لنهر الزيادية (2). وشيدت لها رصيفا خشبيا من سيقان أشجارها بإزاء بساتين (عباد بن الحصين) التي كانت تقع على الضفة المقابلة لواحتها.

وكان (عباد) متيما بها، فحاول أن يغريها بحقوله التي أطلق عليها اسمه بعد أن أضاف إلى الاسم حرفي الألف والنون، ليصبح (عبادان). وذلك على النهج الذي انتهجته المدرسة البصرية في تسمية البساتين والأنهار. وخصص لها في الضفة الأخرى حقلا مزدانا بأزهار التوليب والنرجس، اسماه ( أبو وردة ). ويسمونه الآن (بو وارده Bawarda). فاختارت الوقوف بينه وبين منعطف قرية (سيحان) التي ولد فيها الجاحظ (3).

ثم تحسنت ملامحها عام 1908على اثر التغير الذي أعقب اكتشاف الذهب الأسود في حقول (مسجد سليمان) (4). وتبدلت أحوالها عام 1912 بعد قيام شركة النفط البريطانية – الإيرانية ببناء ارصفة استقبال الناقلات في واجهة عبادان. فتوسعت قريتها وتحولت إلى قاعدة ملاحية عراقية ومحطة صغيرة للسيطرة على النشاط البحري لعمليات إقلاع وإرساء الناقلات التي كانت تتردد على مرفأ عبادان، ومن ثم إرشادها عبر ممرات ومسالك شط العرب.

 وقطعت الموانئ العراقية آنذاك شوطا كبيرا في تنفيذ الواجبات المنوطة بها على الوجه الأكمل. واستخدمت لهذه الغاية السفينة العراقية ( هرمك ) التي كانت تتولى الإشراف على سير كافة العمليات البحرية في مرفأ عبادان، وتقوم بتأمين الاتصالات اللاسلكية بناقلات البترول القادمة والمغادرة، وإيواء المرشدين البحريين العراقيين وربابنة المرفأ.

فازدهرت الواصلية  وتحسنت ظروفها شيئا فشيئا حتى صارت من المدن المينائية المتميزة بطرازها الريفي الجميل. وربطت لأول مرة بخطوط الطاقة الكهربائية وخطوط التلغراف. وبنيت فيها المنازل الحديثة والحدائق والمتنزهات. وشيد فيها منتدى ترفيهي للعاملين في الموانئ العراقية. وواصلت الواصلية صلتها بأبناء البصرة، فكانت محطة استراحة للباحثين عن المتعة البريئة. تستقبل في واحتها الرحبة فلذات أكبادنا من طلاب المدارس البصرية الذين كانوا يشدون إليها الرحال في السفرات المدرسية الربيعية، للتمتع بجنائنها التي تخطف القلوب، وتسر الناظرين.

لكنها، وللأسف الشديد، تحولت الآن إلى أطلال تنعق فيها الغربان، وخرائب يعشعش فيها البوم. وباتت مرتعا للخنازير البرية المتوحشة. وتشبعت أجوائها ومياهها بالملوثات التي تنبعث من مداخن ومجاري المصافي النفطية في عبادان التي ماانفكت تنفث سمومها في الماء والهواء. وسحقتها عجلات الحروب التي أحرقت الزرع. ودمرت البساتين التي لطالما تباهت بجداولها العذبة، وضلالها الوارفة، وحقولها الزاخرة بغابات النخيل وأشجار السدر والتين والبمبر. فاقتلعت أشجارها من جذورها. وتحطم مرفئها الصغير. فهجرتها السفن. ولم تعد تمارس أي نشاط ملاحي. وتحولت تلك الواحة الغناء إلى مستنقعات آسنة، تخيم عليها السحب الكئيبة الموشّحة بالسواد، والمعبئة بالغازات الخانقة.  لتحرق ما تبقى من مزارعها. وتتلف ثروتها السمكية. وتزيل كل معالمها الجمالية التي كانت صفة ملازمة لهذه المدينة الريفية منذ القرن الثاني الهجري.

تلكم هي قصة الواصلية  التي كانت وما تزال صلة الوصل الوثيقة بالتاريخ الملاحي والزراعي والفكري للبصرة الفيحاء.

ـــــ

(1) - والواصلية أيضا مجموعة قبائل واصل من مطير من قبائل نجد، ولا علاقة لها بهذه المنطقة.

(2) - سميت الزيادية بهذا الاسم نسبة إلى فرقة (الزيادية) التي أسسها زياد بن الأصفر. وهي فرقة منشقة عن المعتزلة.

(3) - وتنسب إلى الجاحظ الفرقة (الجاحظية). ويبدو أن المعتزلة كانوا كلما نبغ فيهم نابغ كان رأس فرقة قائمة بذاتها، لتنسب إليه فيقال (الواصلية) و(الزيادية) و(الجاحظية).. ومن المفارقات نذكر أن هذه الفرق استقرت على ضفاف شط العرب، واستوطنت على الشريط الساحلي الممتد من (سيحان) إلى نهر (الزيادية). وهي ليست ببعيدة عن مدينة (كوت الزين) التي كانت مقرا لولاية البصرة في القرن الثاني الهجري.

(4) - مدينة إيرانية نفطية تقع على بعد 150 كم من رأس الخليج العربي.

شبكة النبأ المعلوماتية- الجمعة 28 أيلول/2007 -15/رمضان/1428