الإعلام الإسلامي.. والخطاب الجديد

بقلم: أحمد شهاب

 رغم سنوات الخبرة القليلة التي تمتلكها الفضائيات الاسلامية الا أنها استطاعت أن تستحوذ على جمهور عريض على امتداد العالم الاسلامي، بعض هذه الفضائيات كانت عند حسن ظن جمهورها، وبعضها الآخر كان بعيدا عن المأمول، فلدينا الآن قرابة الـخمس عشرة قناة فضائية اسلامية بشقيها السني والشيعي، وبتوجهاتها المعتدلة والمتشددة، الوسطية والمتطرفة، الثقافية والسياسية، الدعائية والدعوية، ونمتلك العشرات من الاذاعات والمطبوعات الاسلامية من صحف ومجلات ودوريات ونشرات موسمية، وندير المئات من المواقع الاسلامية على شبكة الانترنت في مختلف الاهتمامات والاتجاهات، وتشير الاحصاءات الى ما يقارب الـ 40 ألف مدونة عربية عدد لا بأس منها يديره اسلاميون أو محافظون، لكن السعي الاسلامي الدءوب للوجود الاعلامي لم ترافقه مساع لانتاج خطاب اعلامي حديث ومتميز، بل كان التكرار والحشو والتقليد هي السمة العامة للمادة الاعلامية المطروحة.

أخشى أن تكون علة ضعف انتاج هذه المؤسسات الاعلامية تعود الى قناعة باتت راسخة عند الكثير من الاسلاميين اليوم بمن فيهم أو على رأسهم المنادون بضرورة التجديد، بأن التجديد والمعاصرة يأتيان من خلال تحديث الأطر والأدوات والمظاهر المستخدمة، وأن الفرق بين الجديد والقديم، وبين الحداثة والتقليد هو أن الأولى تقبل تجديد الأدوات والآلات والمظاهر بينما الثانية ترفضها وتتهيب منها. فالجماعة التي تضع لها مواقع على الانترنت وتبث أفكارها عبر الفضاء الحر تعتبر تجديدية، بينما الجماعة التي تصر على بث الأشرطة ذات التصوير الرديء من كهوف أفغانستان، أو لا تزال تعتمد على المنشورات الورقية لبث أفكارها والتعبير عن متبنياتها هي متخلفة وتقليدية، بغض النظر عن عمق أو ضآلة المادة الاعلامية المطرحة، والثقافة المراد ايصالها الى الرأي العام.

لكن الأمر ليس كذلك، فلم يعد هذا التمييز بين التجديدي والتقليدي مقبولا، ولا أظنه سليما، فالتيار السلفي والتيار التحديثي كلاهما أصبحا يستهلكان الأدوات الحديثة ويتسابقان على اقتناء أكثر الأجهزة والوسائل جدة، وكل الأطراف بما فيها المتشددة تلجأ لاستثمار الوسائل العصرية وتحديث مظاهر العمل للوصول الى اكبر شريحة من الجمهور والتأثير عليهم، بالصورة والحجم الذي يلاحظ من خلال تغير المزاج الشعبي بفعل تأثير الصور المرئية والرسائل السريعة التي تبث في كل اتجاه، فتعمقت بعض الظواهر واختفت أخرى، فيمكن مثلا رصد ارتفاع حدة التوتر المذهبي جراء كثرة الرسائل الطائفية التي تبث فضائيا، والدور الذي لعبته احدى القنوات التي تبث من لندن في تأجيج الفتنة المذهبية أبلغ من أي دليل، كما لا يمكن التقليل من شأن الصخب الطائفي الذي يدور على مواقع الانترنت وهبوط مستوى الحوار والجدل الى حضيض لا تقبله المبادئ التي ندعي كمسلمين أننا نتمثلها في سلوكنا اليومي.

وباستثناء عدد محدود من مجلات الدراسات الفكرية والصحف المتزنة والفضائيات ذات الرسالة الواضحة، فان أغلب المشاريع الاعلامية الاسلامية من صحف ومجلات وانترنت الى اذاعات وقنوات فضائية لم تقدم مادة جديدة ومقنعة، وانما عملت على اعادة انتاج خطابها القديم بحلة جديدة وبتقنيات حديثة. أصبح الفيديو كليب على سبيل المثال بديلا عن الأناشيد الاسلامية المتزنة التي كانت سمة الالتزام الاسلامي في وقت سابق، والاثارة الخبرية أو التعرض لبعض المواضيع الحساسة والتي تثير ردود أفعال الناس (رضاهم أو غضبهم) مقدم على الأداء الاعلامي الرصين الذي يعتمد على صدق المعلومة والتشويق في طرح المواضيع الجادة والمحورية. حتى المواضيع الهامة والجريئة مثل مسألة الوحدة الاسلامية وتفريعاتها، أو النهضة الدينية وقضاياها، يتم طرحها بصورة مثيرة بهدف تحقيق مكاسب اعلامية أو سياسية، بعد أن كانت تُطرح كمبادئ ومثل عليا تعمل الجماعات الدينية على تحويلها الى ثقافة عامة تحظى بالقبول الاجتماعي.

على العكس من ذلك جاءت العديد من وسائل الاعلام الاسلامية الجديدة بصراعاتها وارثها المتأزم، بل بعادات وتقاليد مجتمعاتها المتخلفة لتقدم لنا مادة غير صالحة للنشر أو التداول، يتم بثها بصورة مستمرة في أكبر عملية تشويه للمثال الاسلامي. بما يستدعي القول ان التحول من المنشور الصغير الى الفضائية العملاقة، ومن تسجيل الأشرطة في كهوف ومغارات تورا بورا الى البث المباشر من استوديوهات معدة بأحدث الأجهزة وأبهظها ثمنا، لا يعني أكثر من تبدل في الأدوات والأساليب المستخدمة للتعبير عن المعارف والآراء والمواقف، لكنها بكل تأكيد لا تعني تجديدا في المعارف نفسها ولا تطويرا في الأشخاص.

من الطبيعي أننا لا نريد أن نبخس الناس أشياءهم، فثمة من يحاول أن يقدم المفيد والجديد والمتميز، وهناك من يبذل الجهد لصناعة اعلام اسلامي مقبول، لكن واقع وسائل الاعلام الاسلامية يدعونا للتساؤل بجدية: عما اذا كان الاسلاميون عاجزون عن تقديم مادة مفيدة للناس، رغم كل ما يبذلونه من موارد مالية وبشرية؟.

فليس معقولا أن القائمين على هذه الوسائل الاعلامية مقتنعون بان هذا أفضل ما لديهم ليقدموه الى المسلم المعاصر الذي ينتظر من هذه الفضائيات وبقية الوسائل الاعلامية أن تكون بديلا له ولأسرته، في ظل واقع ينوء بالعديد من الأزمات والتحديات السياسية والاجتماعية والثقافية، واحسب أن الكثير من هذه المشاريع لا يكاد يعنيها أكثر من أن تقول للآخرين اننا لا نزال هنا في الساحة، أما البقية فانها تقدم ما يسمح لها مستوى ذكائها وفهمها لمفهوم الانتاج الثقافي والديني لخدمة القضايا التي تؤمن بها دون جدوى أو بجدوى ضئيلة.

عشرات المطبوعات والوسائل الاعلامية في يد الاسلاميين تُصر على طرح القضايا دون عمق، وتعالج القضايا الاجتماعية والسياسية بنظريات قديمة، وهو أمر مثير للاهتمام اذا قارنا هذا الأداء بمستوى الحضور الاسلامي في الشارع، فالجماعات الدينية تحظى بحضور واسع، وتمتلك شعبية لا يستهان بها، ويعلق عليها الكثير من الناس آمالا عريضة، ومن الملفت ألا يترافق هذا الحضور مع خطاب اعلامي جديد يتسم بالعصرية والوضوح والتركيز على القضايا الجوهرية، ويستثمر الاقبال الجماهيري الواسع على الاعلام الاسلامي لخدمة الانسان وتغيير أحواله الى الأفضل.

ان أحد أبرز العوامل التي أدت الى تشتت أولويات الخطاب الاعلامي هو تضارب أجندة الحركات والجماعات الاسلامية وعدم حسمها، واستمرار التجاذب الحاصل بين أولوية الديني العقدي والسياسي الاجتماعي. ورغم ذلك فان محاولة ايجاد معالجة جادة لهذا التجاذب، أو السعي للخروج بصيغ متوازنة لازالة هذا التزاحم لا تزال محدودة للغاية، ويعود السبب في ظني لاهمال الشأن الفكري داخل اغلب الجماعات الاسلامية وتقديم الثقافي والدعائي عليه، اذ لا تزال أغلب الجماعات النشطة تعتبر العمل الفكري ترفا لا حاجة لها به.

أما الجماعات والأطراف الدينية التي تعاني أساسا من انحسار قواعدها الشعبية، فمن الطبيعي أن ظهورها الاعلامي اتسم بمحاولة لفت الانتباه، فاتخذت منحى الاثارة الطائفية أو الاجتماعية أو السياسية واتسم أداؤها بضبابية المواقف، وتشتت الآراء فمرة هي اقرب الى الاعتدال والوسطية، ومرة أقرب الى التشنج والعصبية، ومرة خطابها متلبس بالوطنية وأخرى غارق في المذهبية، حيث ان المستهدف في خطابها الاعلامي غير محدد المعالم، والهدف من مشروعها الاعلامي غير واضح الركائز ولا يتكئ على رؤية علمية، والنتيجة أن عددا كبيرا من هذه المشاريع تعاني فعلا من غياب المادة الصالحة للعرض، والتي ينبغي أن تصب في خانة تنمية الانسان أولا وأخيرا.

اعادة الاعتبار الى الانسان في ثقافتنا وفكرنا بصور عامة، والنظر اليه من خلال قيمته التي منحها الله له، كفيل بتغيير كل المواد الاعلامية التي تقدمها هذه الوسائل الاعلامية، فالانسان كما يبدو لي هو الغائب الأبرز في ثقافة وجدل هذه المشاريع الاعلامية، وأظن أن تأمل ساعة في الاجابة على تساؤل مثل: ما هو الخطاب الاعلامي الذي يفيد الناس، وينهض بهم، ويغير واقعهم؟ كفيل بعمل انقلاب شامل على مستوى الطرح والرؤية، وعلى مستوى تقنية الأداء.

ورغم ذلك فلست هنا في معرض القول ان هذه الوسائل الاعلامية يجب أن تغلق أبوابها، أو أن يعود القائمون عليها الى مواقعهم وبيوتهم، وانما فقط أود القول انها لم تقدم جديدا حتى الآن، ولا تمثل اضافة تستحق التقدير والثناء فضلا عن الدعم والاسناد، والقراء والمشاهدون الذين لا يزالون يبحثون عن وسائل اعلام بديلة يستحقون أكثر من هذا الأداء، وأكثر من المغامرة والتجربة بتاريخ وثقافة وقيم عريقة. ما نحتاجه الآن هو أكثر من ذلك، ننتظر تقدم مشروع اعلامي يُقدم الاسلام الحضاري بخطاب ملائم وعصري، ويعالج القضايا برؤية علمية تستشف حاجات الواقع، وتمتلك مساحات واسعة من الابداع لتلبية متطلبات المسلم المعاصر وتقدمه الى العالم من بوابة الحضور والاثراء، وتتبنى تطوير الوعي العام وتقريب المسافات بين الأمم والشعوب والثقافات، وتُكثف عناصر الخير مقابل عناصر الشر. اضافة الى ذلك ينبغي الاهتمام:

أولا: بتشكيل فريق عمل اعلامي يتضمن أصحاب الاختصاص في الاعلام وعلم النفس وعلوم الاجتماع والعلوم السياسية اذا اقتضت الضرورة، تكون مهمتهم اعداد الدراسات الميدانية والبحوث المتخصصة المستنطقة لأهم احتياجات المجتمع المعني بالبث الاعلامي، بدلا من الواقع الحالي للعديد من المشاريع الاعلامية والتي تعتمد على التيار والجماعة لتشكيل فريق من الخبراء والاستشاريين والاداريين والتنفيذيين، فالاعلام لا يحتمل المجاملات والعواطف والحزبية الضيقة.

ثانيا: اعداد كادر مدرب من الفنيين من كتاب أو معدين، مذيعين أو مخرجين، تتملكهم الرغبة في الابداع والتميز، ولديهم القدرة على فهم احتياجات المرحلة، والجرأة على خوض غمار التطوير المستمر للمواد المطروحة وطرق بثها والتوقيت الملائم لذلك، وأحسب أن الاستعانة بالخبرات الغربية أمر لا يعيب التجربة الاسلامية بل يُكثفها ويصقل كوادرها، ويُنضج أداءها.

ثالثا: هيكلة البرامج من جديد وبصورة جذرية، والتفكير بصورة ابداعية علمية بنوعية المواد الاعلامية والبرامج الصالحة للعرض، وانتقاء الأفضل منها حسب رسالة الوسيلة الاعلامية وبما يحقق رؤيتها العامة وأهدافها المستقبلية، واعتقد شخصيا أن المنار تجربة رائدة في هذا المجال، بغض النظر عن موقف البعض تجاهها، طبقا لمقياسين، الأول: قدرتها على توظيف الاعلام في خدمة المقاومة، واتكائها على الخبراء في توظيف الصورة والخبر لتحقيق انتصارات نفسية على العدو الصهيوني، والثاني: التزامها بموقفها الواضح ضد الاثارات المذهبية ودعم الوحدة رغم كل الظروف السياسية والاجتماعية الضاغطة من حولها. وأغلب برامج القناة رغم تنوعها تسير في اتجاه واحد لتحقيق رؤية القناة وتحقيق رسالتها الواضحة.

رابعا: المصالحة بين المؤسسة الدينية التقليدية وبين المبدعين الاعلاميين والتقنيين والمثقفين، اذ أن انشغال المؤسسة الدينية بالعلوم القديمة والقضايا التاريخية، وتخوفها من أطروحات التجديد ومستحدثات الأمور، دفعها للعمل على تحجيم تيارات التجديد في المجتمع، واظهار عيوب ونواقص المثقفين وملاحقة المبدعين، بدلا من المساهمة في التجديد الفكري، والاضطلاع بموقف ايجابي يدعم قضايا المجتمع واحتياجاته المتجددة، وهو ما انتهى الى الانشغال بالصراع الداخلي أو ما أطلق عليه البعض صراع الأجيال أو صراع الحداثة والتقليد، أو صراع المعاصرة والأصالة، ولو ترفع هؤلاء وهؤلاء عن تصفية الحسابات لأفقنا على واقع جديد يتضامن فيه الفقيه مع المثقف والاعلامي والمبدع لانتاج مادة اعلامية صالحة للعرض وبناء خطاب عصري ومؤثر.

خامسا: بالنسبة الى الفضائيات والوسائل الاعلامية التي تصل الى الدول الغربية أو تنطلق منها لمخاطبة المغتربين من المسلمين هناك، فينبغي أن تولي اهتمامها لايصال أفكار وقضايا العالم الاسلامي الى الغرب بدلا من الانشغال في نقل برامج بعيدة عن اهتمامات الانسان الغربي. فماذا يستفيد المشاهد الغربي من متابعة جدل مذهبي حاد بين طرفين أو أكثر يتضمن آخر الاختراعات العربية في قاموس الشتم والقذف والاساءات اللفظية؟ وما هي الاضافة التي سيجنيها المشاهد المسلم الذي يعيش في الغرب من نقل مخلفات العالم الاسلامي اليه في عقر داره الجديدة واعادته الى واقعه المتخلف بدلا من الارتقاء بفكره وسلوكه؟

ان الفضائيات الاسلامية ووسائل الاعلام الأخرى قد لا ينقصها الالمام بالعمل الفني والتقني، خاصة وأن الكثير من هذه التقنيات لم تعد أسرارا لا يعرفها الا القليل من الناس، بل هي خبرات متوفرة في السوق الاعلامي تستطيع كل الأطراف أن تستفيد منها وتستثمرها بلا استثناء، لكن المعضلة في مدى مقدرة الاسلاميين على استيعاب المعارف والعلوم التي تمكنهم من انتاج خطاب اعلامي متميز ينتقل من دائرة البث من اجل البث، الى المساهمة في صناعة الرأي العام الاسلامي والعربي والعالمي، والانتقال بالجمهور الاسلامي الى وعي أكبر وحضور مؤثر، وقدرة على الدخول والتفاعل والتفاهم مع العالم المتحضر من أوسع أبوابه.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 10 أيلول/2007 -27/شعبان/1428