نار كربلاء... انطفأت أم اختفت؟

مركز الإمام الشيرازي

 شبكة النبأ: ليلة النصف من شعبان ليلة لها مميزاتها وأجوائها الخاصة في المدن الشيعية في جميع أنحاء العالم, ولكنها في كربلاء لها اطر خاصة ومعنوية مختلفة تماما وتقاليد تكاد تناقله الأجيال بصيغ متشابهة الى حد كبير رغم اختلاف الأزمنة.

 جاءت هذه الليلة في هذه السنة مختلفة تماما عن مثيلاتها من السنوات السابقة فبدل من أن تكون تظاهرة مليونية حاشدة للطائفة الشيعية تبين مدى التوحد إزاء التهديدات الخارجية, انقلبت القضية لتصبح مشكلة كبيرة كادت أن تحرق الأخضر بسعر اليابس كما يعبرون وان تأتي على حكومة المالكي لولا تدخل بعض الجهات في الوقت مناسب. 

حقيقة ما جرى

   في هذه الليلة زحفت آلاف الزائرين الى مرقد الإمامين الحسين وأخيه العباس(عليهما السلام) في كربلاء و بالأسلوب المعتاد عليه بطريقة السير على الأقدام من اكثر المحافظات, إلا إن ما حدث في هذه الليلة من احتكاكات بين حماية الحرمين الشريفين وبعض الزوار نتجت عنها مشاجرات تطورت الى الاشتباك بالأيدي لتتحول بعدها الى إطلاق النار على بعض الزوار بعد أن هاجموا مواقع لتفتيش الأشخاص لتتحول القضية بسرعة كبيرة الى ردة فعل من قبل الحشود المتجمعة مابين الحرمين الى مصادمات وأعمال شغب طالت الكثير من الأماكن الخدمية والعجلات التابعة لحماية الحرمين الشريفين والجهات الخدمية مما ساهم بشكل كبير في نشر الفوضى في المنطقة بصورة سريعة جدا.

   على اثر تلك الاشتباكات وقع العديد من الضحايا بين جريح وقتيل بين صفوف الزوار مما ولد حالة من الهستيريا لديهم واحتقان في صفوفهم , ورغم هدوء الأوضاع في تلك الليلة إلا إن النار بقيت تحت الرماد ولاسيما بعد ابتعاد الأجهزة الأمنية عن موقع الحادث بحجة عدم مسؤوليتها عن تلك المنطقة، وفي صباح اليوم التالي ورغم المناشدات من أكثر من طرف ديني ولاسيما الحوزات الدينية في المحافظة إلا إن البعض يبدو أنهم كانوا مهيئين للتظاهر على ما حدث في الليلة السابقة منددين بأعمال القتل العشوائي في صفوف الزوار مطلقين بعض الهتافات ضد حماية مابين الحرمين والأحزاب التي تساندهم مما حدا بالقوات الأنفة الذكر الى التدخل بقوة اكبر هذه المرة وإطلاق النار بشكل عشوائي مما أجج الآمر الى حالة من الرعب في المنطقة أفرغت على أثرها من المشاة بشكل شبه نهائي.

   وفي فترة زمنية قصيرة جدا انتشر عدد من القناصة على سطوح المباني الملاصقة للضريحين الشريفين ليتم إطلاق النار على أي حركة في أي شارع رئيسي أو فرعي, لتبدأ بعدها الاتصالات مباشرة بين أكثر من طرف عن هوية هذه العناصر , فنفت حماية الحضرتين الشريفتين معرفتها بهويتهم رغم خضوع تلك المنطقة لحمايتها،  أضف الى ذلك تنكرت قيادة شرطة كربلاء لمعرفة تلك العناصر على أساس إن المنطقة واقعة ضمن حماية الفوج الرابع التابع للحضرة الشريفة (ذات الزي الحبري)، فيما نفى مكتب الشهيد الصدر(قد) أي تدخل من جانبه في هذه القضية إلا عن طريق عرض خدمته في تهدئة الأوضاع عن طريق كلمة ألقاها الشيخ (المحمداوي ) مدير المكتب في الحضرة الحسينية ليلة ما قبل النصف من شعبان وطلب من الجميع التزام الهدوء والابتعاد عن التشنج والاحتكاك، في هذه الإثناء استمر إطلاق النار على الجميع وبنفي من جميع الأطرف لمعرفة هوية هؤلاء المعتلين المباني والفنادق.

     وساءت الأمور الى حد بدت المدينة وكأنها مهجورة تماما من المارة وبعد اتصالات مكثفة بين الجميع، إدارة الروضة الحسينية وقيادة شرطة كربلاء وبعض الأطراف الاخرى وصلت الى نتيجة مفادها عدم معرفة المعتلين الفنادق من أي جهة، مما اضطر مجاميع من جيش المهدي للتدخل ووقف أطلاق الناربالقوة وبالفعل تدخل بعض عناصر الجيش بأمر من مكتب كربلاء لإسكات مصادر النار فقط والعودة الى مواقعهم( حسب تصريح احد قياداتهم) بعد اخذ موافقة إدارة الحضرة وقيادة الشرطة، وبعد وصول تلك المجموعات الى الهدف المخطط لها وإلقاء القبض على هذه العناصر تحولت القضية الى منحى آخر تماما، فبدا الحالة وكأنها استدراج لعناصر جيش المهدي لخوض معركة طويلة الأمد قد تستدعى فيها القوات الأمريكية و باعتراف احد الأشخاص المقبوض عليهم والذي رفضت الجهات التي ألقت القبض عليه إعلان هويته حفاظا على سرية الإجراءات التحقيقية.

   وعلى اثر هذه المعلومات تمت مفاتحة قائد العمليات العسكرية في كربلاء( اللواء الركن صالح حسون المالكي) بضرورة التدخل واستلام المناطق التي سيطرت عليها عناصر جيش المهدي وباتفاق بين الطرفين وبالفعل حضرت قوة من الحرس الوطني الى منطقة باب القبلة الساعة الثانية بعد منتصف الليل، ولكنها فوجئت بإطلاق نار كثيف من إحدى البنايات الملاصقة للحضرة الحسينية مما اضطرها للعودة دون دخول المكان ، فيما بقيت الحالة على ما هي عليه الى حين وصول رئيس الوزراء العراقي، وتدخل زعيم التيار الصدر بتجميد جيش المهدي وتدخل قوة عسكرية حكومية كبيرة في المنطقة مابين الحرمين والاتفاق على سحب جميع العناصر المسلحة.

    الى هذا الوضع انتهت العملية كحالة عسكرية ومسلحة وبمشاهدات عينية مباشرة، إلا إن الأزمة سرعان ما تجددت سياسيا بعد الاعتقالات التي شهدتها الساحة الكربلائية والتي استهدفت عناصر من التيار الصدري بالخصوص، مما أرسل إشارة قوية الى بعض الجهات بأنها مستهدفة وان العملية شبه مبرمجة في اطر سياسية كبيرة هدفها الخفي هو لي ذراع التيار وإخضاعه الى الإذعان الى الشروط السياسية في الاستجابة الى ما سيطرح في الأيام القليلة القادمة من مشاريع من المؤمل إقرارها في البرلمان العراقي الذي عاود التئامه بعد فترة العطلة الصيفية( حسب وجهة نظر التيار).

   بينما ألقى البعض اللوم على دول الجوار التي ما انفكت التهم تلاحقها عن أي حدث يقع هنا أو هناك في مساحة البلد, وبعيدا عن أي الأطراف المتسببة او المشتركة في هذه القضية إلا إن نار المعركة يشير وبلا أدنى شك الى وجود صراع (سياديني) ( سياسي_ ديني) بين خطين طالما كانت الساحة بينهما متأزمة نتيجة محاولة تهميش كلا منهم الآخر و لو بفترات زمنية متباعدة.

لماذا كربلاء؟

   في مفهوم الحالة الترابطية فان لكل محافظة ورقعة جغرافية  ولاسيما في العراق ارتباط متشعب  ببعض أجزاء أخرى من المدن أو المحافظات التي تجاورها , قد يكون بحكم الطبيعة الجغرافية أو الصبغة الدينية أو العشائرية .

  ولكن حالة الترابط التي تجمع محافظتي كربلاء والنجف تتعلق بأكثر من ذلك فالمدينتين تتجاوران جغرافيا وتتسمان باحتضانهما لأقدس الأضرحة في المذهب الجعفري، أضف الى ذلك التواجد الحوزوي المتبادل بين المدينتين والذي يستقطب عشرات الطلبة من خارج العراق وداخلة إضافة الى نموذج العيش المتشابه في كلا المدينتين.

  ما نريد قوله هنا ا ن أي حدث يقع في إحدى المحافظتين ينعكس بترابط عجيب  سلبا أو إيجابا ، أما وقد حدثت الصدامات الأخيرة في كربلاء فان النجف لم تكن بمنأى عنه من حيث التوتر السياسي.

    حقيقة الأمر يتعلق بتشنج طويل الأمد دام لعدة سنوات بين المرجعيات في النجف الاشرف كونها مقر الحوزة العلمية في العالم، هذا الصراع وان بدا خفيا في عقد الثمانينات الا انه  ظهر الى السطح بصورة واضحة جدا بعد فترة التسعينات ولاسيما بعد ظهور مفهوم( الحوزة الناطقة) في النطاق الحوزوي وتبنيها مخاطبة الجمهور بصيغة التقارب من البعض فيما بقي الجزء الاخر من الحوزة على الأسلوب المعتاد في التعامل، سرى هذا المفهوم بنطاق أوسع بعد مقتل الزعيم الروحي المتبني لهذا المشروع ( محمد محمد صادق الصدر) على يد مجموعة مسلحة اتهمت بأنها مرتبطة بالنظام السابق.

   بعد التغيير السياسي في العراق والذي أعقب غزوه عام 2003 تنفس أتباع هذا التيار الصعداء نوعا ما وبدا لهم كلمة واضحة في الشارع ولاسيما بعد تبني الابن الأصغر للمرجع الراحل ( مقتدى الصدر) إنشاء مليشيا جيش المهدي والذي يراه البعض مليشيا مسلحة فيما يصر مؤسسه على انه جيش عقائدي.

   إما في محافظة كربلاء تتشنج المساءلة لتصل الى ذروتها وبصورة دورية ، والسبب هنا ناتج من عدة نقاط يمكن أجمالها فيما يلي:

1-  وضع الحضرتين الحسينية والعباسية الواقعتين تحت أشراف حوزة واحدة بانفراد والتي تدير الأمور بشكل مباشر من قبل مكتب مرجعية النجف وعدم السماح لأي جهة أخرى بالتدخل في اتخاذ القرارات الخاصة بنوعية إدارة الحضرتين أو طريقة العمل فيهما حتى الجهات الرسمية.

2-  توافد أعداد كبيرة من الزائرين ولاسيما من التيار الصدري  في المناسبات الدينية بعد الدعوات التي كان يطلقها مرجعهم الراحل (محمد الصدر) بوجوب السير والحضور في تلك المناسبات والتي استمرت حتى بعد مقتله، مما يولد تواجد جماهيري كبير يتسبب في أكثر الأحيان في تشاحن بين الطرفين ينتهي في أكثره بالسيطرة على الموقف ماعدا الانفلات الأخير.

3-  فقدان الثقة بين أكثر الأطراف بسبب الضبابية بآلية التصرف بأموال المرقدين والحديث عن تواجد لنشاط مخابرات دول أجنبية تشارك في الإدارة. 

4-  كثرة الأخطاء التي ترتكبها الأجهزة التابعة لسيطرة الروضتين بدون محاسبة مما ولد حالة امتعاض كبيرة بين المواطنين والزائرين وهيئ أرضية لأي مصادمة بين الطرفين في اقل احتكاك.

5-  تشعب القضية في أكثر من أطار سياسي وديني بسبب الصراع القديم الحديث عن تقاسم الشارع وفرض الهيمنة على أوسع قاعدة جماهيرية.

6-  كثرة الاغتيالات التي جرت في الساحة الكربلائية ولاسيما بعد استهداف شخصيات مقربة من الإدارتين العباسية والحسينية , والاشتباه بعناصر من التيار الصدر بالاشتراك في التخطيط بدون إجراء أي تحرك قضائي ضد المشتبه بهم وتقيد القضية ضد مجهول.

7-  تحكم الأحزاب بصورة كبيرة في قرارات السلطة المحلية في المدينة وتأثيرها بصورة مباشرة على الحالة الأمنية سلبا ولاسيما بعد تفرد بعض الأحزاب بقوات عسكرية بصبغة حكومية.

8-  وجود نفس التقسيم العرقي بين المواطنين في داخل المحافظة على أساس النازحين إليها وبين سكنتها من التولد وتقديم الأخير في أكثر الأمور وبجميع الميادين مما سب حالة من الامتعاض والتخندق حول مسميات عديدة.

إن جملة الأسباب في أعلاه تعتبر القاعدة الرئيسية التي أشعلت المواجهات بين الطرفين  ، قد تكون المناسبة سببت زخما كبيرا في أعداد المشاركين في المصادمات إلا إن النوعية تبقى منقسمة على اثنين بدون تدخل لأي طرف آخر( الا بالحسنى)، على هذا الوضع ترتبت باقي الأوراق في جميع المحافظات على أساس ردة الفعل (بالضد النوعي كما يعبرون) لما حدث في كربلاء فالصيغة متشابهة الى حد كبير في باقي المدن التي تعرضت الى أعمال الشغب المشابهة ولكن يبقى الأساس فيها هو التنافس السياسي – الديني بين الخطين المعروفين.

  وهنا لابد من وقفة جادة للنظر فيما ترتب على تلك الأحداث ، فرغم إن الموقف هدأ الى حد كبير رغم الاعتقالات الواسعة التي طالت إحدى الجهات والانتشار الواسع للقوات الحكومية في المحافظة إلا إن المساءلة اكبر بكثير من أن تُحل في ليلة وضحاها والإشكاليات نتجت بتراكمات لسنوات عديدة فهل من المعقول أن تعالج بهذه العجالة.

 حسب وجهة نظرنا لا نعتقد على الإطلاق ، نعم , يحتاج الوضع الى قرارات سريعة ولكن يجب أن تكون غير متسرعة وتفاهمات تبنى على أساس المصارحة في كل شيء وإلا فالنار لن تنطفئ بل ستختفي لتظهر في يوم ما ولربما في حادثة يكون حديثها طويل.

وعلى أساس النظر من جميع جوانب الموضوع وأخذه بأكثر من زاوية فان ماحدث في كربلاء يتطلب الآتي:

1-  على الجميع أولا وقبل كل شيء الاعتراف بان ماحدث هو نتيجة التشدد من قبل الجهات المتقابلة بعضها البعض وهو خلاف فكري تطور الى ساحة الميدان ليكون بصيغ غير مقبولة مستغل من حالة الانفلات الأمني طريقا له للتعبير عن رفض كل منهم للأخر.

2-  تشكيل لجنة من داخل المحافظة والحكومة المركزية والبرلمان والاعتماد على العناصر المستقلة بعيدا عن التأثيرات تعيد الأوضاع الى طبيعتها، وإبعاد أصحاب الغرض السيئ عن موضع القرار والتأثير عليه في جميع الإطراف ، ورب قائل يقول تمت مثل هكذا لجنة وهي تباشر عملها، فنقول ان مالمسناه من عملها خلال الأيام السابقة إنما هو عمل لتهدئة الوضع فقط وهي غير مستعدة لتعيين الفاعل وتقديمه للعدالة والسبب في ذلك حسب ادعاء احد أعضاءها (بان الساحة العراقية غير مؤهلة للكشف عن الجناة في الوقت الحاضر وربما تسبب لنا إشكالية في أماكن متعددة من العراق وهذا ما لاتريده الدولة).

3-  النظر في موضوع إدارة الروضتين المطهرتين وإمكانية إعادتهما الى إدارة الوقف الشيعي على ارض الواقع وتحويل العاملين فيهما الى موظفين عاديين دون إي تواجد مسلح داخل الحرمين وبسط هيبة الدولة بإسناد حماية المنطقة المحيطة الى وزارة الدفاع وبأفواج مخصصة لهذا الغرض على طول الوقت وليس لمدة الأزمة فقط.

4-  جمع الأنداد المتصارعة في المحافظة وكشف جميع الأوراق فيما بينها وتحويل القضية من صراع ميداني الى تفاوضي وبإشراف مرجعيات محترمة ولها سمعتها تكون كوسيط ومشرف( كأن تكون الحوزة الشيرازية على سبيل المثال) على التفاوض والخروج بوثيقة شرف تحترم جميع الأطراف وتمكن لهم حقوقهم دون أي غبن وبدون أي تجاوز من طرف على الآخر.

5-  إعادة هيكلة القوات الأمنية في المحافظة وإنشاء قوة عسكرية ذات صفة مهنية بعيدا عن تأثيرات جميع الجهات ، وغير موجهة لأحد دون الآخر وبشخصيات مهنية عالية .

6-   متابعة جميع المتضررين من الأعمال السابقة من الشهداء والجرحى وأصحاب الإعمال ووضع آلية عمل لمساعدتهم وتعويضهم ولو بطريقة معنوية لأشعار الجميع بتحمل المسؤولية.

7-  الخروج بوثيقة شرف توقع من جميع الأطراف بتعين الشخص المسيء من أي طرف مهما كانت صفته وخضوعه للقوانين العامة والمساءلة وبدون اي تدخل في حالة حدوث خطا جديد. 

إننا نرى إن العمل وفق السياق المهني البعيد عن التعصب الأعمى والبحث عن الحقيقية هي أفضل الطرق لعبور هكذا أوقات ومحن وبصيغ جمع الآراء وسماعها والوقوف على مسافة واحدة من الجميع.

مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

شبكة النبأ المعلوماتية- الجمعة 7 أيلول/2007 -24/شعبان/1428