العائدات النفطية وعولمة الخليج

شبكة النبأ: ليس هناك اليوم من اخبار متتابعة من الشرق الاوسط سوى تقارير يومية تصفه بانه يحترق ويقف على حافة الهاوية، وهذا فعلا ما تبدو عليه الامور، فبينما يخوض الفلسطينيون والعراقيون حربا داخلية، يبقى لبنان في حالة غليان، وسوريا واسرائيل تتراشقان الاتهامات وتهددان بعضهما، وايران تتحدى.

ولكن خلف الدخان ثمة قصة مختلفة جدا. فدول الخليج تعيش أفضل أزمنتها على الإطلاق، الأعمال مزدهرة، والنزاع السياسي اصبح ظاهرة خارجية تُشاهَد على شاشات التلفزيون المسطحة في غرف الجلوس المبردة في الدوحة ودبي ومدينة الكويت ومسقط والرياض. لكن ذلك كله يجري ضمن اطار العولمة لجميع تفاصيل الحياة في هذه البلدان الحديثة الترف.

يقول الكاتب افشين مولافي بمقال في مجلة نيوزويك الامريكية: لا مبالغة في القول إن الدول الغنية بالنفط في مجلس التعاون الخليجي ــ البحرين والكويت وعمان وقطر والسعودية والإمارات العربية المتحدة ــ تشهد تحولا من شأنه أن يخلف آثارا عميقة في المنطقة إن لم يكن العالم. فالسيولة تتدفق بكثرة إلى هذه الدول التي تعوّمها أسعار نفط غير مسبوقة.

وبحسب المؤسسة المالية الدولية، سمح لها النفط أن تجني مبالغ طائلة في الأعوام الخمسة الماضية تصل إلى 1.5 تريليون دولار. ويبدو أن الأمور ستستمر على هذا النحو: فبحلول نهاية 2007، ستكون دول مجلس التعاون الخليجي قد جنت 540 بليون دولار إضافي، وفقا للمؤسسة المالية الدولية، أي أكثر من صادرات البرازيل والهند وبولندا وتركيا مجتمعة.

بفضل كل تلك الدولارات، تحولت هذه المنطقة التي كانت متخلفة في السابق، إلى الاقتصاد الـ16 في العالم، بحسب المؤسسة المالية الدولية.

وإذا استمرت التوجهات الحالية، فمن شأن منطقة دول مجلس التعاون الخليجي أن تصبح سادس أكبر اقتصاد في العالم بحلول سنة 2030. لكن الأكثر لفتا للأنظار هو الطريقة التي تُنفَق بها الأموال الجديدة. لقد شهد الخليج طفرات نفطية في السابق لكن نادرا ما تمكن من استثمارها» فقبل ثلاثة عقود، ساعدت المكاسب النفطية غير المتوقعة الدول على تحديث بناها التحتية وخدماتها الصحية، لكن الكثير من القادة أنفقوا جزءا كبيرا من الأموال على الدفاع أو المشاريع التافهة، أو بكل بساطة خبأوا الأرباح في البنوك الغربية.

ويضيف الكاتب افشين، أما الآن، فالقادة السياسيون البعيدو النظر والمتوجهون نحو الأعمال في الخليج يتعاونون مع القطاعات الخاصة التي أصبحت أكثر نضجا وابتكارا من أجل أن يتم إنفاق المال بحكمة. تطبق مدن المنطقة إصلاحات وتعد جدول أعمال طموحا للمستقبل بقيادة دبي، التي تتحول بسرعة مركزا عصريا لقطاع البنوك والخدمات المالية.

يقول إدموند أوسوليفان، مدير تحرير ميدل إيست إيكونوميك دايجست، التي تتخذ من دبي مقرا لها: يبزغ خليج جديد، ويتحرك بصورة أسرع وأذكى بكثير مما حصل في السبعينات من القرن الماضي.

ويقول فريد محمد من شركة "بي أف سي إنيرجي" في واشنطن العاصمة: إن الانتعاش سببه السياسات الاقتصادية الكبرى الممتازة والإمكانات التكنوقراطية القوية والبيئة التنظيمية التي تحسنت كثيرا، والقطاع الخاص الراغب في الاستثمار والابتكار على السواء، والروابط العالمية القوية في مجال الخدمات. ويلفت إلى أن جميع هذه المكونات تضافرت لدعم النمو المستدام.

وإليكم هذا: تشير تقديرات المؤسسة المالية الدولية إلى أن تريليون دولار من العوائد النفطية البالغة 1.5 تريليون بقي في دول مجلس التعاون الخليجي، حيث أُنفًق على الواردات أو التنمية. إنه تحسن كبير مقارنة بالماضي حيث كان الجزء الأكبر من الأموال يُكدَّس في البنوك السويسرية أو يُهدَر على الأسلحة. صحيح أن بعض الإنفاقات الحالية، لا سيما في سوق العقارات الجديدة والمشاريع السياحية الفخمة، مثير للقلق. لكن الاستثمارات الصناعية، وهي أساسية لمساعدة المنطقة على تنويع اقتصادها أبعد من النفط، ترتفع.

ينطبق هذا الأمر بشكل خاص على السعودية، التي تتجه، بحسب جان فرانسوا سيزنيك من جامعة جورجتاون، إلى أن تصبح المنتج الأول للبــتروكيماويات في العالم بحلول 2015. وسوف تظهر أيضا مصانع جديدة للفولاذ والألمنيوم والبلاستيك.

ويضيف الكاتب افشين، في الواقع، يبرز جيل جديد من الشركات الآن في المنطقة، جيل فعال وطموح ومعولَم جدا. تستحدث هذه الشركات الخليجية الجديدة وظائف وتغذي دورة النمو وتساهم في تنويع الاقتصاد. كما بدأت التأثير في اقتصادات أخرى حول العالم. وتأتي في طليعتها الخطوط الجوية الإماراتية، التي حازت جائزة ويُتوقَّع أن تصبح في العقد المقبل أكبر شركة طيران في العالم. (في عرض للخدمات الجوية في باريس في يونيو الماضي، تلقت "أيرباص" طلبات بقيمة 32 بليون دولار من شركات في الخليج). كما أن الشركة العقارية "إعمار" التي تتخذ من دبي مقرا لها تبني الآن مشاريع من الدار البيضاء إلى كراتشي، وتفوز شركة "اتصالات" الإماراتية بعقود من غرب أفريقيا إلى باكستان.

ويضيف افشين، قد يكون بعض هذه الشركات مملوكا للحكومة أو خاضعا لسيطرتها لكنها تختلف إلى أبعد حد عن الشركات غير الفعالة التي كانت ترعاها الدولة في الماضي. فهي ليست معقلا للبيروقراطيين الذين يحتسون الشاي من دون القيام بأي عمل مهم» بل تستقطب خيرة المواهب وتتنافس على الساحة العالمية وتفوز بجوائز دولية. كما تدعم نمو شركات مرتبطة بها إنما مستقلة كليا في الخليج مثل "أرامكس"، وهي شركة نقل إقليمية تتخذ من دبي مقرا لها. يعتبر فادي غندور، مؤسس الشركة، أن الفضــل في نجاحه يعود مباشرة إلى "النمو المذهل لدبي كمركز للأعمال" قائلا إنه لم يكن بالإمكان أن تنمو شركته بهذه السرعة في وطنه الأم، الأردن.

ويضيف افشين، على المستوى الحكومي، ما زال جزء كبير من الأموال يُستثمَر في ملاذات آمنة مثل الولايات المتحدة (نحو 300 بليون دولار هذه المرة) وأوروبا (نحو 100 بليون دولار). لكن في الأعوام الخمسة الماضية، استثمرت دول الخليج أيضا 60 بليون دولار في المناطق الفقيرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأنفقت 60 بليون دولار أخرى في آسيا، ما أدى إلى خلق جيوب مزدهرة في مصر والمغرب والأردن. كما أدى إلى فتح طريق حرير جديدة، حيث تضاعفت التبادلات التجارية بين دول مجلس التعاون الخليجي وآسيا أربع مرات في العقد الماضي. يصطف المستثمرون الخليجيون الآن لشراء أصول آسيوية» فعلى سبيل المثال، عندما نظّم بنك الصين الصناعي والتجاري عرضا عاما العام الماضي، تدفق المستثمرون الأكبر كان من الكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة والسعودية.

ويضيف افشين، لقد منحت هذه النزعات مجتمعة الخليج صورة عالمية أفضل مما تمتع به في أي وقت مضى. على سبيل المثال، فإن الديون الهائلة لبلدان مثل الولايات المتحدة تُموَّل الآن بواسطة السيولة القادمة من ثلاث مناطق في العالم: الصين واليابان والخليج، ما يعني أن دول مجلس التعاون الخليجي أصبحت قوة أساسية في إطار المشاغل المتزايدة بشأن التفاوت العالمي. كما يعني أن لديها مصلحة واضحة في تحفيز النمو العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، وذلك خشية انهيار ثرواتها.

ويضيف افشين، بالتأكيد، وفي سبيل أن تتواصل النزعة الحالية، يجب أن تستمر دول الخليج في الدفع باتجاه الإصلاح. عبر إقرار قوانين مواتية للأعمال، أصبحت دبي هونغ كونغ الشرق الأوسط: مركزا للتجارة الحرة يغذي الاقتصادات الأوسع. كما اتخذت السعودية، التي تشكل مركز الثقل الإقليمي، خطوات إيجابية حيث خفضت ديونها كثيرا وأقرت قوانين محفًّزة للأعمال وانضمت إلى منظمة التجارة العالمية العام الماضي. وبدأ القطاع الخاص السعودي يفرض نفسه» ففي السبعينات من القرن الماضي كان يشكل أقل من 10 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي للبلاد، أما الآن فقد ارتفعت النسبة إلى نحو 60 بالمائة. وقد أطلق الملك عبدالله خطة لتنمية البنى التحتية بقيمة 600 بليون دولار بهدف إنشاء الكثير من المدن التي هي عبارة عن مجمعات صناعية ومالية بقيمة بلايين الدولارات. ومن بينها مدينة الملك عبدالله الاقتصادية التي تبلغ كلفتها 27 بليون دولار، ومن شأنها أن تضم عند انتهائها مليوني شخص وتســتحدث مليون وظيـفة في منطقة بحجم باريس.

لكن ما زالت هناك عراقيل تربوية في السعودية مثلا، يجب أن يبدأ النظام التعليمي السعودي بتخريج عدد أكبر من الأشخاص المتخصصين في التقنيات المتطورة وعدد أقل من الخبراء في الدراسات الإسلامية.

وتبدو الكويت مكتفية باتباع نموذجها القديم، حيث تزداد ثروتها بفضل العوائد النفطية وتستثمر في الشركات الناجحة. وعمان بطيئة في اعتناق مناخ الأعمال الجديد المنطلق بأقصى سرعته على الرغم من أنها تخضع لحكم سلطان يسعى إلى التحديث.

يقول ألكس ثيوكاريدس، وهو مصرفي خاص مقره جنيف: "سيادة القانون والشفافية لا تزالان ضعيفتَين"، وإن رأسمالية المحسوبيات تسود بقوة في المنطقة بأسرها: تسيطر على الأعمال دائرة مغلقة من الأمراء والتجار الذين يحولون دون تطور ثقافة مستقلة فعلا في مجال المشاريع التجارية.

لكن المدهش هو تحسن نوعية رجال السلطة هؤلاء، حسب أوسوليفان من ميدل إيست إيكونوميك دايجست. فهو يقول: "غالبية الأمراء الحاكمين [في الخليج] هم تحديثيون يصوّبون أنظارهم على الأعمال. خلافا للأتوقراطيين العسكريي التفكير في الدول العربية الأخرى، يضيف هؤلاء الأمراء التجار "قيمة المساهم" حتى ولو كانوا يزدادون ثراء نتيجة الصفقات التي تؤمنها لهم مراكزهم. وهكذا، فإن مجلس التعاون الخليجي يتيح، بحسب البنك الدولي ومنتدى الاقتصاد العالمي، جوا أفضل بكثير للأعمال من باقي العالم العربي.

بالتأكيد ما زال بإمكان الجزء الآخر من الشرق الأوسط أن يؤثر في تقدم الخليج. من غير المحتمل أن يكون للنزاع في لبنان أو الأراضي الفلسطينية تأثير كبير لكن على الأرجح أن تداعي الأوضاع في العراق أدى إلى تراجع الاستثمارات الأجنبية.

ومن شأن نزاع أمريكي مع إيران، التي تقع في الجهة الأخرى من دول مجلس التعاون الخليجي، أن يؤدي إلى تباطؤ وتيرة الأعمال ويهدد حركة ناقلات النفط في مضيق هرمز الحيوي، الذي يمر عبره 90 بالمائة من نفط الخليج. لكن حتى النزاع يمكن أن تكون له ناحيته الإيجابية: تتدفق رؤوس الأموال الإيرانية إلى دبي (بحسب الإحصاءات الأخيرة، هناك 9000 آلاف شركة مملوكة من إيرانيين في دبي)، ويمكن أن يزيد تدفق هذه الأموال في حال وقوع حرب.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 13آب/2007 -29/رجب/1428