من أجل بعث وعي نقدي إسلامي

بقلم: المهندس غريبي مراد عبد الملك(*)

مدخل منهجي :

ورد في الحديث النبوي الشريف:"المرء حيث وضع نفسه" وجاء في الأثر الجعفري : جاء بعض الرجال إلى الإمام الصادق عليه السلام يشتكون إليه إنتقاد البعض لهم، فقال لهم الإمام عليه السلام:"إذا كانت بيد أحدكم درة، وقال الناس إنها جوزة هل كانت تضره؟

قالوا: لا

فقال سلام الله عليه: وإذا كانت بيد أحدكم جوزة، وقال الناس أنها درة هل كانت تنفعه؟

قالوا: لا

فقال عليه الصلاة والسلام: "إذا لا تبالوا بما يقال عنكم وليس فيكم، ولا تفرحوا بما يقال لكم وليس فيكم"

وفي حكمة للفيلسوف آلان يقول: "إثبات الحرية هو قتل لها"

أخي المسلم، كل منا معرض للتشريح والنقد والاتهام واللوم، وذلك حسب تميزه إما إيجابيا أو سلبيا، ومن أراد أن يتحاشى النقد ومشتقاته عامة فعليه أن لا يفعل شيئا وليكن هامشيا في الحياة... !

لو قيل عنك أنك رسالي، أيها المقهور، فماذا سينفعك هذا الإستحمار؟

ولو كنت رساليا وقيل عنك أنك مقهور، ماذا سيضرك هذا الحسد ؟

وفي هدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام نقرأ: "قيمة المرء فيما يحسنه"، إن يكن خيرا أوشرا فقيمتك حسب ذلك، ويقول أيضا عليه السلام استطرادا للسلبية في العلاقات الاجتماعية:"السكوت على الأحمق أفضل جوابه"، فالجماهير في أغلب الأحيان هي التي تنتج التحوير للحقائق وإفساد الجواهر، حيث تعمل عمل الخل في العسل، حيث من ابتلي بالنقد يضجر ويثور فيستحضر قيمة الحرية في وجوده محاولا إثباتها، بينما الأصل أن يستثمرها الاستثمار الأمثل ويعيشها بحكمة بالغة، حيث نجد مولانا إمام المتقين عليه الصلاة والسلام يختصر المسألة في رائعة من روائعه الإمامية الخالدة والإستراتيجية الموجهة للوعي الإسلامي بأن الحراك وما يتبعه من نقد هو أمر متوقف على مدى الصلة بالله عزوجل وطلب رضاه حيث يقول عليه السلام ناصحا كل شيعته بأسلوب يركز الوعي الإسلامي :"إرضاء الناس غاية لا تدرك".

على مستوى الأطر المعرفية، النقد بشقه الإيجابي المحمود البناء، هو وسيلة ناجعة لنجاح الشخصية المنتقدة في الأغلب الأعم بغض النظر عن الجهة الناقدة ومنطلقاتها النقدية أو أهدافها الإنتقادية، بينما على مستوى الكنتونات الإجتماعية المنغلقة عن العلم والمعرفة والحوار والتواصل الثقافي( يعني الاجتماع الجاهلي الغير علمي) النقد آفة قاتلة للتجديد والتحرر والإصلاح لأنها تخلق  أساسا تخلف مثقف يثبط ويعرقل المسار الحضاري في المجتمع...

بعد هذه الكوكبة من الأحاديث الشريفة والحكم والأقوال ومن خلال التداخل الموجود بين المفاهيم الواردة فيها ومما يتعلق بمسألة النقد والحرية في حياة الإنسان في مجتمعاتنا القابعة في أودية الصدام والخصام وما هنالك من أساليب قمعية ونقدية جاهلية ظالمة ومستكبرة...

يمكننا أن نطل على مفهوم  النقد  الحقيقي المحمود والبناء كقيمة حقوقية حضارية تنطلق من الذات لتضيء على المجتمع بأنوار الوعي الذي اكتسبته في المخاض التقويمي الذي عاشته هذه الذات من خلال حضور عقلها الإيماني المفعم بقوانين ومقررات التربية الروحية حتى تكتمل لديها-الذات- دورة الوعي الإجتماعي المحرك للحقوق والواجبات الإجتماعية ككل...

تأسيسا على ما سبق، النقد كمصطلح علمي هو مفاعل حضاري في حركة الأفراد على مستوى شبكة العلاقات الإجتماعية التي تستبطن الخرائط الاقتصادية والسياسية والأمنية.

وحتى تنتظم المسألة النقدية لدى المرء المسلم، لابد من إعتبارها مادة خام للتجديد الذاتي والإبداع الإجتماعي الرسالي.

ومما ورد عن سيدنا الإمام جعفر الصادق عليه السلام، أن السيد المسيح بن مريم عليهما السلام قال:

"كونوا نقاد الكلام"

بالربط بين هذه الحكمة المسيحية والحوار الرسالي لمولانا الإمام الصادق عليه السلام مع تلامذته، يمكننا إستخلاص بعض المنطلقات للتفكر بالدور النقدي في التطلع الإسلامي لدى الفرد المسلم  والمجتمع الإسلامي:

أولا: تباحث المسألة النقدية قصد الإلمام بأبعادها وخطوطها العريضة ومحدداتها المنهجية وهذا ما يعرف بفلسفة النقد ويمكن عنونتها بمرحلة ما قبل وعي النقد.

هذه المرحلة أو هذا المنطلق يعتبر المرتكز الأساسي في تكوين ثقافة علمية حول المسألة النقدية، "لأن فاقد الشيء لا يعطيه" على حد قول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.

لأنك لو لم تهتم بالبحث والغوص في مباحث فلسفة النقد، لا يمكنك أن تستثمره-النقد- بشكل ممتاز في بناء ذاتك الفردية والإجتماعية وتوجيه مسؤولياتك الإسلامية، بل بالعكس قد تقع في مطبات الضد من ذلك فتتعقد من النقد وتوابعه.

ثانيا: خلق دورة نقدية ذاتية (الرياضة النقدية) من خلال إثارة آلية النقد لدى الآخر الأقرب من ذاتك أو التمعن في المواقف والمشاهد النقدية، وهذا ما يمكن التعبير عنه بالإسقاطات المعرفية النقدية على مسرح الذات واقعا، أي بناء استعداد نفسي لوعي النقد، وهنا لابد من التفكر جيدا في حديث علوي شريف :

"أحب إخواني، من أهدى إلي عيوبي"

ثالثا: عقلنة المسألة النقدية في ذاتك وهنا تحديدا تطفو على السطح قضية تأصيل المسألة النقدية لأجل تحصين النفس من الإنزلاقات النقدية النفسية وهذا المنطلق يمكن تسميته بتحديد معدن النقد واستثماره في بناء الذات.

رابعا: توسيع الرؤية النقدية الذاتية والخارجية المتعلقة بالفكر والنفس والإجتماع، أي محاولة التفاعل مع النقد من خلال تحديد مجالات أهدافه، مثلا: نقد أدبي، نقد فلسفي، نقد مذهبي، نقد إجتماعي، نقد إقتصادي، نقدي سياسي...وما هنالك من مواصفات نقدية، هذا المنطلق يمكن عنونته بخلق روح إدارية للنقد في ذاتك تهتم بتنظيم وعي النقد وإيجاد منهجية فعالة في التعامل والاستثمار...

خامسا: بعث الوعي النقدي هرميا في المجتمع من خلال العلاقات الإجتماعية وأبعادها الحيوية المصيرية والإستراتيجية وهذا المنطلق نعبر عنه بما قبل الثورة التجديدية الإصلاحية الشاملة حيث يصطبغ المجتمع بصبغة النقد البناء والمفعل للأدوار الرسالية للأفراد والجماعات...

بالمختصر المفيد،إن  المطالع لسيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله  وأئمة الهدى عليهم الصلاة والسلام، يستلهم أن قيمة النقد البناء والصريح من الذات ( الفردية والإجتماعية) ونحوها، هي عنوان أساسي وجوهري في التهيئة لمخاض التجديد والإصلاح والعدل وما هنالك من تطلع إسلامي إنساني حضاري رائد...

بعد هذا الترحال التفكري المقتضب في مسألة النقد، يبقى المطلب النقدي ينتظر التدبر والتصور ثم التداول لمن ألقى السمع وهو شهيد...

وحتى لا يبقى حديث النقد حديث يفترى...

 تعالوا نتعلم كيف ننقد وننتقد إسلاميا، حتى تكون حياتنا ذات أصالة إسلامية ورحابة إسلامية وحتى لا يصبح النقد إسقاطا للذات والآخر بل من عزم الأمور التي تتطلب الصبر والتقوى والمحبة...

 والحكمة أولا... 

(*) كاتب وباحث إسلامي جزائري

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 8 آب/2007 -24/رجب/1428