نحو وعي لحقيقة الإمامة...واقع وآفاق

بقلم المهندس غريبي مراد عبد الملك*

 مدخل منهجي:

هل يوجد خطاب آخر في التاريخ الثقافي الإسلامي ينافس خطاب أئمة أهل البيت عليهم السلام في بناء الذات الإسلامية والإجتماع الإسلامي وترشيد العمل السياسي؟

هل يوجد قربى غير أهل الكساء تتدافع الروايات إلى التأكيد على أسبقيتهم وخصوصية المودة العظمى لهم عليهم السلام؟

يبدوللباحث المنصف والمتطلع للحقيقة في رحاب الحوار مع التاريخ الإسلامي أن الأمر كله لم يكن قضية صعبة واستثنائية بالمعنى الدوغمائي في الأبحاث الفلسفية ، كانت الولاية وتبقى مع عنوان النبوة والإمامة موضوع لقضية جوهرية في نهر التراكم التاريخي للمسلمين، حيث شكلت الإمامة مع الولاية الحقيقية وفق البصائر القرآنية مأزقا ونواة دقيقة في معطى التطور الإيديولوجي الإسلامي وتكامليته لدى المسلم المقهور...

بالرغم من كون عنوان الإمامة مركز ثقل التمدن الإسلامي ،لكن المنعطفات التاريخية السياسية والفتنوية ميعت المسألة  بعد أن شوهتها وحورتها من خلال موجة علماء البلاط وفقهاء السلطان ، فأصبح حديثك في الراهن الإسلامي حول الإمامة في الإسلام ضرب من ضروب التخلف ومحاولة المساس بالإستقرار المزيف...

وبلغ الفتور والضمور لخطابنا الإسلامي النهضوي المعاصر، أن قدم موضوعات محددة ومنتقاة وفق معايير تعصبية وثانوية لا تحتاج للمطارحة كونها إشكالات خاطئة أساسا تفتقد لأسس المنطق الإسلامي، هدفها الوحيد هو استغفال المسلم المقهور أكثر ومحاصرته في تربص تخلفي استحماري، لإستثماره في المشاريع الطائفية والمهاترات المذهبية وما هنالك من فتن إعلامية وسياسية وإجرامية –أعاذ الله الأمة منها- وهذا المنهج الإستكباري الجواني للمسلم البسيط يبذل رواده جهدهم لإبقاء هذا الأخير –المسلم البسيط- حبيس فتاوى الوضوء والجماع والإرث والبراء والولاء والربا وتلاوة القرآن بصوت أحسن وما هنالك من مسائل حرجة متعلقة بالمرأة كسياقة السيارة والمشاركة في العمل السياسي ودخولها البرلمان وصوتها عورة وهلم جرا من أمور تولج المسلم -المقهور بفقهاء البلاط -  في كهوف الخوارج والمرجئة والقدرية والبرامكة وما هنالك من موضوعات بارا-إستحمارية تعنى بتركيز الإلتفاف على الحقائق  والأولويات بفتاوى وآراء جهنمية، مع إشباع الرغبات والإنحرافات التاريخية بمنشطات المشروعية بشكل لطيف وخفيف على معدة عبيد الدنيا...

عزيزي القارئ، الإشكالين السابقين ، تدقيقا في بنائهما المفاهيمي وتأسيسا على محنة حقيقة الإمامة، لابد من  استقصاء كل هذا التمويه الأصولي التاريخي وفتح الحوار العلمي الرصين حوله في الأروقة الثقافية الرسالية وبآليات حضارية تعتمد قيم التمدن الإسلامي وأدوات المنطق الإسلامي-أقول الثقافية الإسلامية- وإلا سوف تبقى كأخواتها أسئلة صعبة يجاب عنها بأنساق ذاتية مجردة معجبة بكينونتها الفقهية ، والملاحظ في المشهد الثقافي العربي الإسلامي أنه نظام ثقافي جامد لم يتغير منذ قرون ، عطل مفاعلاته المنهجية اللازمة للتطور السليم  بإنصهاره في مسألة الحفاظ على الجمهور وواقع الجمهور وحماية المؤامرة ، بدلا عن تحرير الجمهور ودعوته لإصلاح هذا الفساد السياسي والزيف الإجتماعي والتقوقع الفقهي، إنه نظام تغرب من حيث أراد إثبات ذاته... !؟

للأسف في الغالب الأعم من العواصم العربية هناك وصاية سياسية على تشكل المشهد الثقافي، فقد كان ولا يزال هناك وزارات للثقافة ووزارات للشؤون الدينية ووزارات للإعلام ، مهتمها الأولى والأخيرة أو مهمتها الميتافيزيقية طبخ وجبات ثقافية وفتاوى تكرس الواقعية في غنى عن الموضوعية ومعلومات تنويمية كبرامج الملايين وسوبر ستار ومبريات الدوري الأروبي والأمريكي اللاتيني ودورات الشعر والتنس والموسيقى والخيالة العربية ، مع مراعاة الصحة السياسية للجمهور العربي المسلم...

المدخل المنطقي والرئيسي لتداول هذا المشهد الغافل عن الخلاص السهل الممتنع هو عودة المثقف الديني لأصالته والمفكر لثوريته والفقيه للبس عمامته الروحية والإعلامي لنزاهته من خلال التعاون لفتح بازار-مركز تجاري(1)- ثقافي فقهي إعلامي رسالي مستقل وثائر على البلاط المستكبر ، بمناقشة مسائل الحقوق والسياسة عبر الزمن الإسلامي واكتشاف محل الإنحراف، وبالتالي إذا عرف السبب بطل الإستحمار والعجب...

إن وعي حقيقة الإمامة لا يتسنى إلا في ظل حرية ثقافية ومجتمع معلوماتي، لأن البناء إذا كان من خلال انفتاح هندسي على الأبعاد كلها التي تشكل المبنى، هذا كله يخلق عمقا وواقعا ، رضا وإرادة من يستقر ويشغل فضاءات المبنى المفعمة بالهواء الطلق وشمس الحق ونور الرحابة...

هكذا ينشأ وعي ثقافي يمكنه الحفاظ على الشكل الحضاري-المبنى- الذي أوجده الحق الثقافي كصمام أمان لتصحيح الاتجاهات السياسية وإراداتها المتصارعة...

انطلاقا من التحليل  المقتضب السابق لمأزق وعي  حقيقة الإمامة في المشهد الثقافي العربي الإسلامي  ،نستنتج أن المواضيع الأصولية الإسلامية الجوهرية ، تقود  إلى القول بأن الإمامة هي ترشيد للحرية وتحريك للتفكر، بينما غيرها انقلاب على حقيقتها –الإمامة- يقود  إلى ممارسة الحرية  بمعناها السلبي والتمتع بفكر جامد...

إلى هنا يبدو مشروع بازار ثقافي فقهي إعلامي إسلامي  رسالي  ذا طابع تقدمي. إنه يدعو إلى شورى الحصول على الحكمة الإسلامية وتجسيد التمدن  الإسلامي في أبهى صوره، لكن الأسئلة التي تطرح نفسها على تصورات  تفكر كهذا  هي من قبيل: هل يتأثر -إيجابيا- المجتمع العربي الإسلامي  المعاصر في ظل هكذا مشاريع ؟ ألسنا نعيش  ظواهر المجون الإجتماعي وتغوله على التجديد الثقافي الإسلامي ناهيك عن الطغيان السياسي ؟ إن أسئلة مثل هذه تضع بين قوسين سؤالا متقدما: ما مدى إمكانية  الوصول إلى شورى ثقافية فقهية إعلامية إسلامية،تمكن المجتمع العربي الإسلامي من استضافتها في ظل تغطرسه السياسي وترفه الثقافي ودينه المغيب وإعلامه المارق؟.

نافلة القول:  يتطابق مشروع الشورى الثقافية الفقهية الإعلامية،  في وجه من وجوهه، مع  تشكيل مجتمع علمي إسلامي نموذجي، وسوف يعيدنا هذا إلى حقيقة الإمامة  مرة أخرى التي شكلت عبر التاريخ الإسلامي  "النموذج الإجتماعي الإسلامي الرسالي...

وفي رحاب البحث عن حقيقة الإمامة الضائعة أوالمغفول عنها، لا يبقى مناص من الوقوف وقفة رسالية أمام ما قيل من أنه لم يسل سيف كما سل حول الإمامة، وبأسلوب خدم التخدير الثقافي والقمع الفكري حتى يبقى إنساننا إمعة يؤمن بنظرية فرعون التي جسدها مثقفون وفقهاء وإخباريون  عبر الزمن الإسلامي كله لا نريكم إلا ما نرى...

مشروع الشورى هو بمثابة أفق رسالي ومدخل عقلائي ، تنتهجه عقول وقلوب وأرواح مؤمنة بالحق الإمامي كتجربة نهضوية رشيدة متطلعة لغد إسلامي مشرق وصامدة  أمام الشر كله لتحرير الإنسان من الزيف التاريخي الزاحف للموت والحاقد على الإمامة كعنوان الحياة الكريمة ومرشد الخلافة الحقة بعد النبوة...

(1) التجارة مع الله ؟                

 (*)كاتب وباحث إسلامي جزائري

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 12 تموز/2007 -27/جماد الاخرى/1428