في ملامح الخطاب السياسي الديني

تساؤلات مؤجلة

نوفل ابورغيف

 ثمة مخزون هائل يستقّر في أذهان من يتمسكون بانتمائهم الى الدائرة الدينية عموماً وفي خطاباتها الوسطيّة  على وجه التحديد وهو عبارة عن خليط غير منسجم من أسئلة قديمة تخشى من ردة فعل قد تنتهي بمن يطرحها الى إلقائه خارج الدائرة، واقتراحات مرتبكة لا تستشرف حاضنة تؤهلها لأن تستكمل نضجها بالمداولة والنقاش.

هذا المخزون الذي تراكم حتى صار مستفزّا الى أقصى درجاته لم ينشأ بسبب مزيد من سنوات الصمت القسري والكتمان والترقب فحسب، بل لعلّه اكتسب زخما مضاعفا بعد انفراج الظروف التي اسّست لبداياته مناخا مناسبا، مما أدى الى الألحاح على ضرورة كسر الأقفال التي أحكمت على أبواب الأسئلة ونوافذ المقترحات، وفك الاغلال التي تقّيد أجواء التساؤل بصوت مسموع وتمنع نقد الذات من التنفس الا خارج اسوار المجتمع الذي تهيمن على مقاليده ثقافة القطيع أو اصحاب العقول المسطحة ممن (يمكن أن يكونوا خارج هذا التوصيف) ولكنهم يعملون على إذكائه على طريقة استثمار الممكن لأنجاز قدر من طموحات الماضي بصرف النظر عما ستؤول اليه الحال في نهاية المرحلة.

من بين تلك الاسئلة المؤجلة قسرا ما نبت في الاوساط الفتية للنخبة متمثلة (بطلبة الاعداديات) بوصفهم قاعدة اولى لتفتح مدركات تفتش عن المعرفة لتعثر على ظآلة لم تتحدد ملامحها بعد، صعودا الى اوساط ( التعليم العالى) مرورا بمناخات لا تنتمي الى الدائرة الاكاديمية ولكنها لا تبعد كثيرا عنها، يزاولها من لديهم شغف بدرجة متوسطة بقراءة الواقع الذي تجاذبته التيارات الدينية بالمقارنة مع ما يقدم على طبق ساخن من ثقافة سياسية بالمجّان تساعد على اقتنائها ذائقة التنوع التي افرزتها ساعات طويلة انفقت في مطاولة تقنيات العولمة والحداثة، من دون أن تتبلورهذه القراءة في سياق ممنهج يفضي إلى تصحيح ما انحرف من مسارات التفكير أو يعزّز المسيرة باتجاه مقنع.

ومن هنا فأن من بين هذه الأسئلة التي ربما لا تبحث عن اجابة فوريّة، الآتي :

اولا – هل سيبقى نقد الذات الدينية التي ينتمي اليها، السائلون ضرباً من التجرؤ على مقدسات لا يجوز مجرد التفكير في ترويض أسئلة عنها، وسط مجتمعات يراد لها أن تزاول تكفير الآخر وتخطئته حفاظا على بقائها.

ثانيا – هل يصح إصدار حكم نهائي على الخطاب السائد، يصفه بالسطحية التي ستبقى ما بقيت في المشهد طبقة ترهن وجودها وانتشارها بوجود وانتشار هذه السطحية ومن ثم فانها تبذل ما يرسخ هذا الخطاب ويكرّس مظاهره لدى أجيال قادمة.

ثالثا – هل هناك ثقافة بديلة من شأنها أن ترمم ما تساقط من نوافذ المشهد القيمي وانحدر بالطبقة المتلقية باتجاه تعميق خطاب التظلّم والشعور بالحيف وبث الشكوى، والى اية درجة.. يمكن التفاؤل ببديل مؤجّل.

رابعا – كيف يمكن استبدال مجموعة ممارسات ومظاهر لم يعد بوسعها أن تقاوم المدّ العارم للحداثة والعولمة وحوار الحضارات، بمنظومة معرفية سلوكية أكثر قدرة على المواجهة والديمومة، مالم تنضح معالم استعدادات ستقف على أرض تتحمل ثقل المواجهة وتّدّخر شيئا للقادم.

خامسا – لماذا لاتتبنى الجهات والشخصيات المعنوّية وبعض المرجعيات الثقافية والسياسية برامج جديدة بمساندة الجهات المركزية الكبرى والمؤسسات المرجعية إيجاد مراكز إبحاث على غرار مرموق يمكن الأستناد اليه في عملية انتاج وتصدير ثقافة جديدة تحافظ على أصالة القيم الدينية وتنفخ فيها روحا جديدا يعكس مرونة الخطاب الديني وقدرته على استيعاب الآخر وتطوير الذات على نحو يمكن أن يمنحه قدرة الاستقطاب.

اخيراً – من يتحّمل مسؤولية تأخير الملايين وتأخّر علاقتها بالعوالم الأخرى على أساس من عدم الخشية من الانفتاح عليها، ومن سيتولى زمام المبادرة في توجيه الاسئلة ومعاتبة الواقع الذي يٌظلّل ويكتّف كثيرين ويمنعهم حق التفكير حتى مع ذواتهم بفعل ما يمارسه خطاب الأملاء والتلقين من تأثير عاطفي ونفسي يجعلهم في معرض التلقي والاستجابة بصرف النظر عما ستؤول اليه العواقب / عقيديا واعلاميا وثقافيا، مع الاعتراف بالفوائد السياسية المؤقتة والاجتماعية الطارئة.

وتبقى هذه الاسئلة في المحصلة مما يدور في افق التعمية والغموض وقد تصّب على نحو ما في دائرة الايحاء والاشارة بحكم الظروف التي يحكمها واقع ديني سياسي متشنّج يتحجج بالمقدس والثابت خلافا لما يأمر به المنطق الديني من الاستماع الى الآخر وتبادل الرؤى لترجيح القناعات،(( وجادلهم بالتي هي احسن ))، و ((ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة )) وما ينهى عنه دستور الحياة الدينية، والعقيدية مع اختلافها، من إكراه الآخر حتى وإن كان هذا الآخر منضويا تحت خيمة الدين، أو اكراه من هو خارج هذا السور على الاقتناع بثقافة الخطاب الرائج، فـ ( لا اكراه في الدين)، سيما اذا مورس هذا الأكراه عبر الافكار المطروحة بآلية (قرون- الالفية الثالثة – الوسطى)، ليس من مصلحة الثقافة الدينية مستقبلا أن تبقى على غرار ما هو مطروح الآن لئلا تشي بركود المؤسسات الدينية العليا وتأخرها وإن كنا نبرّئها من كل ما هو مخالف وشاذ عن أنساق التصاعد الحضاري في المعرفة وفي وسائل اقتنائها وبثها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الجمعة 6 تموز/2007 -19/جماد الاخرى/1428