مراحل نشوء وتطور التعليم الديني: تطور المنهج التعليمي (3-6)

كريم المحروس

 كانت محاور التعليم في الدور والمساجد في مراحلها الانتقالية تقتصر على إعداد الحضور لحمل المرويات في الأصول والفروع الدينية وما أشبه. لذلك كان النص في هذه المرحلة هو الهدف والمقصد المتعلق بوظائف جهات التعليم.  ولأن الكثير من حملة النصوص قد خضعوا لعوامل الاختلاق والوضع والتحريف والتزوير في مراحل تاريخية مختلفة يرجع بعضها لأسباب شخصية أو اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو عقائدية مختلفة، مجتمعة أو متفرقة ؛ فقد تطلب الأمر إعداد معايير خاصة في وظيفة حمل المرويات ونقلها وتداولها، ودراسة عناصرها بين المتن والسند إضافة إلى حجيتها ومن ثم الاجتهاد بها بعد انقطاع عهد التشريع وحتى حين تحولها اثر ذلك إلى مادة أساسية دارت عليها رحى العلم ومراحل التعليم في مواقع دينية مختلفة.

فقد أشار  الإمام علي (عليه السلام) إلى آليات تحمل الخبر والرواية ونقلها، وهي آليات لها من الخاصية ما بلور تخصصا علميا في مجاله، فعنه (عليه السلام) قال:"اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية، فإن رواة العلم كثير ورعاته قليل". وقال أيضا:"إذا سمعتم من حديثنا ما لا تعرفونه فردوه إلينا، وقفوا عنده، وسلموا، حتى يتبين لكم الحق، ولا تكونوا مذاييع عجلى"23.

وعرف في فترة التشريع الإسلامي أن نقل السنة كان بطريقين: طريق النقل الشفوي، وطريق النقل التحريري.  وتعرض طريق نقل الرواية التحريرية إلى مواجهة ورفض عند بعض الصحابة وعدّوها (مشناة كمشناة أهل الكتاب) كما في اجتهاد عمر بن الخطاب.  لذلك تأخر تدوين السنة عند اتجاه الخلافة جريا على اجتهاد عمر حتى صدور الأمر الأموي في عهد عمر بن عبد العزيز بكتابة السنة وتدوينها.  فجمعت السنة في النصف الثاني من القرن الثاني ممزوجة بأقوال الصحابة واجتهادهم من بعد التأكيد الرسمي على النزاهة المطلقة للصحابة كافة تحت دلالة نص مختلق يفيد بأنهم نجوم (فبأيهم اقتديتم اهتديتم).  ثم صنفت هذه المؤلفات بعد صدورها في نهاية القرن الثاني الهجري وجمعت أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) بمعزل عن سنة الخلفاء في مؤلفات أخرى كثيرة جدا، فلحق هذه المرحلة دور كتابة الصحاح كـ (الموطـأ) لمالك بن انس و(مسند ابن حنبل) و(جامع البخاري) و (القشيري) و (سنن السجستاني) و (الترمذي) و (النسائي) و (ابن ماجة) وغيرها.

وتؤكد مصادر اتجاه التشيع المعتبرة أن الإمام علي(عليه السلام) أول من كتب بإملاء من النبي (صلى الله عليه وآله) في كتاب اسمه ( كتاب عليّ).  وبهذا الدليل لم يمنع الشيعة كتابة السنة وتدوينها بل حرضوا وحثوا على كتابتها، واشتهر عندهم في عهد الأئمة (عليهم السلام) أربعمائة كتاب سميت بـ"الأصول الأربعمائة"ومؤلفات أخرى. ثم تبعها في عهد الغيبة الكبرى ما اشتهر عندهم بـ"الكتب الأربعة"التي تميزت بالنقل عن الكتب الأربعمائة وفق تبويب وإضافات على الإسناد، وهي: كتاب (الكافي) للكليني الرازي، وكتاب (من لا يحضره الفقيه) لابن بابويه القمي، وكتاب (تهذيب الإحكام) وكتاب (الإستبصار) لمحمد الطوسي. ثم تبع هذه المؤلفات تأليف (الجوامع المتأخرة) بإضافة تعليقات مؤلفيها على الكتب الأربعة، وهي: كتاب (الوافي) للفيض الكاشاني، وكتاب (وسائل الشيعة) للحر العاملي، وكتاب (بحار الأنوار) للمجلسي، وكتاب (مستدرك الوسائل ومستنبط الدلائل) لميرزا النوري.

واختلف اتجاه التشيع في تصحيح (الكتب الأربعة) التي كانت تضم كل ما جاء في الكتب الأولى (الأربعمائة) بين كونها جاءت مقطوعة الصدور عن الأئمة (عليهم السلام) وبين كونها جمع للمرويات بلا اجتهاد، ما ساهم في تطور مناهج البحث والتحقيق وتعدد المادة الآلة وتطورها وتصنيف الرتب العلمية في مدارس التشيع ومراكزه.  فكانت البحوث والتحقيقات تدور حول شهادة مؤلفي هذه الكتب بصحة أحاديثهم المنقولة ووثاقة رواتها وسندها فتعد بذلك صحاحا مشابها لمفهوم صحاح اتجاه الخلافة، وعلى ذلك بني منهج المحدثين (الإخباريين) بنيانه، وكان على رأسهم الميرزا محمد الأسترابادي صاحب كتاب (الفوائد المدنية). وإما أنها دونت على أساس غير اجتهاد مؤلفيها فلا تعد صحاحا ويمكن أن تخضع لاجتهاد المجتهدين، وعلى ذلك ذهب منهج (الأصوليين) الذين اثبتوا بالدليل اجتهاد المؤلفين في الجمع فلا يقع اجتهادهم حجة لغيرهم من المجتهدين.

وقد بدأ مثل هذا الجدل والحوار والنقاش في المؤلفات خلال فترة انقطاع عهد التشريع في فترة الغيبة الصغرى للإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، فتطور مفهوم الاجتهاد وآلياته ومناهجه وقواعده وتبلورت مصادر التشريع وبرز الكثير من المجتهدين المراجع كالشيخ المفيد (413هـ) وتلميذاه: المرتضى (436هـ) والطوسي (460هـ)، وتبع ذلك تطور المؤلفات في جوانب قواعد الحديث والرجال (الرواة) وأصولها إلى جانب تطور علوم الآلة ومناهج الدراسة والمكتبات والمؤسسات التعليمية.

أ- التطور المنهجي والمؤسسي 

تبلورت الحوزات والمعاهد والمراكز والمدارس التعليمية الدينية وتعددت في شكلها الراهن كمؤسسة بفعل عدد من الظروف المنتهية إلى انقسام المسلمين إلى مدرستين فقهيتين اجتهاديتين. وقد بدأت المدرسة الفقهية لاتجاه الخلافة في بلورة موضوعها الفقهي ومادة تدريسها العلمي مع نشوء مذاهبها التي اجتهدت في مرحلة غياب الصحابة وانقراضهم، وأسست أصول الفقه، وألّفت الموسوعات الفقهية والأصولية إضافة إلى الموسوعات في مادتي الحديث والرجال.  وأما بالنسبة لمدرسة أتباع اتجاه التشيع، فقد انتقلت إلى الاجتهاد وتدوين العلوم والتأسيس للأصول بعد الغيبة الصغرى للإمام الثاني عشر  المهدي بن الحسن العسكري (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ووفاة آخر سفرائه الشيخ علي بن محمد السمري.

إن هذا التحول في الوسط الإسلامي في جهتي المذهبية وغياب عهد التشريع عند كل من أتباع اتجاه التشيع واتجاه الخلافة وانطلاق عهد الاجتهاد عند كل منهما ؛ كرس مفهوم جمع العلوم وتدريسها وتهيئة الظروف المناسبة لعهد تعليمي جديد قائم على منهج دراسة ووسائل علمية جديدة، يخرج العلماء والفقهاء والمجتهدين العارفين بأصول استنباط الأحكام الشرعية من مصادر التشريع التفصيلية التي حُددت عند اتجاه الخلافة في وقت مبكر على القرآن والسنة والإجماع والقياس، بينما ربعت مصادر التشريع عند أتباع اتجاه التشيع اثر تبلور"الإجماع"و"العقل"بعد عهد الشيخ المفيد.  وبذلك وضعت الأسس لقاعدة علمية وتعليمية واسعة جدا أضيفت إلى وظيفة إعداد حفاظ القرآن والسنة والسيرة.

وكانت البداية في عهد الغيبة الصغرى بالنسبة لأتباع اتجاه التشيع مناسبة لإعداد مرحلة علمية جديدة حيث كانت نهاية عهد التشريع بغياب الإمام المعصوم (عليه السلام) تطلبت الكثير من الجهود العلمية على طريق تطوير مفهوم الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية وآلياته ومواده، فشرع الشيعة في تأليف الموسوعات العلمية في الحديث الشريف واستخلاص القواعد الفقهية وفق مناهج منظمة بالإضافة إلى تطوير المعاهد والمراكز العلمية والمدارس في إطار مؤسسي مناسب مساهم في بلورة فكرة الزعامة الفقهية والعلمية. 

كل ذلك تطلب أيضا استكمال البحث في معالم مصادر التشريع بعد الغيبة الصغرى، فأضيف"الإجماع"على يد السيد المرتضى علم الهدى من خلال مؤلفه (الذريعة إلى أصول الشيعة)، والشيخ الطوسي من خلال مؤلفه (العدة)، ثم ربع ابن إدريس مصادر التشريع فأضاف (العقل) من خلال كتاب (السرائر). وهكذا تضافرت مشروعية الاجتهاد وتنظيم المؤلفات في الرواية والحديث وتربيع مصادر التشريع والأدلة الفقهية مع تأسيس بعض المراكز العلمية كمكتبة (سابور) وخزانة الشريف المرتضى في العراق ودار العياشي بسمرقند ومدرسة الرازي بالري، إلى جانب ذلك تبلورت مهمات الفقيه المجتهد على عهد الشيخ المفيد فكانت إدارية تربوية تعليمية مؤسسية شاملة، ساهمت في دور بناء المدارس الدينية الكبيرة والمتخصصة بالإضافة إلى إنماء فكرة التصدي لشؤون الفتوى ورعاية الجانب المالي والاقتصادي المساند لمسيرة المؤسسة التعليمية الدينية.

وأثرى كل من مجتهدي الشيعة وفقهاء اتجاه الخلافة المؤسسة التعليمية الدينية بمؤلفات كثيرة جدا كانت محل تداول ودراسة بين أروقتها وزواياها وعلى منابرها. فقد توسع الشيخ الكليني عند الشيعة بعد الغيبة الكبرى في مؤلفاته الجامعة للحديث إلى جانب مؤلفات الحديث عند البخاري ومسلم وغيرهم.  لكن الدراسة في هذه المؤلفات اختلفت بين اتجاه التشيع واتجاه الخلافة. 

فقد توصل اتجاه الخلافة إلى وقف مذهبي على مدارس فقهية أربعة هي الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، وسد عند هذا الوقف عهد الاجتهاد واستقر على مؤلفاته التي أفردت الأحاديث الصحيحة لهذا الاتجاه، حتى جاء من بعد هذه المدارس الفقهية الأتباع على التقليد.  بينما ازدهر الاجتهاد عند الشيعة بتأليف كتب الكليني وغيره من بعد الغيبة الكبرى لأن مرويات الشيعة بعد الغيبة كانت جمعا للأحاديث لا تصحيحا لها، فأثٍرت هذه المؤلفات مادة المؤسسة التعليمية الدينية وتراثها في مجالات البحث والتحقيق ووفرت بيئة مناسبة للاستدلال الفقهي.

وبالمقارنة بين ما جمعه كل من مؤلف (الكافي) للشيخ الكليني ومؤلف (الجامع الصحيح) للبخاري - الأقرب إلى مذهب الشافعي - في عدد الأحاديث المروية ؛ فإن مرويات البخاري وصل عددها إلى (3730) حديثا، بينما وصل عدد مرويات الكليني إلى (16199) حديثا، ما جعل باب الرجوع إلى اجتهاد الرأي عند أتباع اتجاه الخلافة واسع الجدل لضيق المرويات، بينما تميز اتجاه التشيع بعدم حاجته لاجتهاد الرأي لتميزه وانفراده بكثرة المرويات وتغطيتها للحاجة التشريعية. كل ذلك أثرى المؤسسة التعليمية الدينية عند أتباع اتجاه التشيع بمادة البحث والاجتهاد، خصوصا وأن مؤلفات الشيعة في الرواية كانت جمعا وليست تصحيحا في وقت جمد أتباع اتجاه الخلافة على (الصحيح) باعتباره صحيحا. 

وهكذا تحولت المعاهد والمدارس والمراكز الدينية بعد ذلك إلى تمثيل وزعامة للمذاهب الإسلامية وليس للتعليم فحسب. وتأسيسا على ذلك تبلورت المركزية الدينية والإدارية في شؤون التعليم ووظيفة نشر علوم وفكر المذاهب، وأسست على ذلك مستويات ومراتب علمية تقدمتها مستويات التمكن من العلوم وآلات الاجتهاد عند الشيعة إلى جانب مستويات التمكن من العلوم كمقدمة لنشرها عند المذاهب الأربعة.  فتطلب ذلك أيضا تشييد مدارس ومعاهد فرعية في مناطق مختلفة في بلاد المسلمين لإعداد المجتهدين والمبلغين ومراكز الاتصال بالمجتمعات الإسلامية لعقد الفتيا والتوجيه الديني.  كما تطلب ذلك أيضا تخريج أعداد كبيرة من الطلاب للوفاء بحاجات الدولة في شؤون القضاء وغيره. وقد ظلت العلاقة بين المؤسسة التعليمية الدينية والدولة محل شد وجذب واستقطاب ونفور تبعا لطبيعة النظام السياسي القائم وعلاقته بالمذاهب. 

فالشيخ المفيد مثلا كان زعيما للمركز الديني للشيعة في بغداد على عهد آل بويه حيث نهضت الحركة العلمية وتطورت بسبب الدور الإيجابي الذي لعبه آل بويه واقترابهم من علوم أهل البيت (عليهم السلام). 

وظهرت خلال فترة حكم البويهيين مراكز دينية شبيهة بتلك الدور المستخدمة على عهد الأئمة (عليهم السلام) من حيث استقلالها عن المسجد واحتضانها للمناظرات والمباحثات وحلقات الجدل الفكري والعلمي، لكنها تميزت باحتوائها على الكتب الكثيرة والمتعددة في اختصاصاتها.  وكان من ابرز تلك الدور العلمية  في بغداد في سنة (381هـ): دار علم سابور بن أردشير وزير الحاكم البويهي بهاء الدولة"وقد جمع فيها ما تفرق من كتب فارس والعراق واستكتب تآليف أهل الهند والصين والروم.. وفاضت كتبها على عشرة آلاف من جلائل الآثار ومهام الإسفار"24، وظلت هذه المكتبة على هيئتها لمدة سبعين سنة حتى أحرقت على يد طغرلبك في سنة (450هـ).

وإذا ما شئنا وضع المؤسسة التعليمية الدينية في نظام تطورها من حيث التسلسل الزمني، فإن المدينة المنورة التي شهدت تحول المدرسة الدينية وانتقالها من البيوت إلى المساجد ومن ثم إلى البيوت والمساجد معا إلى أن توسعت وأخذت أشكالها المستقلة بالقرب من المساجد أو بعيدا عنها كجهة أو مؤسسة مستقلة ؛ فإن المدينة المنورة كانت تضم المدرسة والمركز والمعهد الأول الذي استمر في دوره التعليمي والعلمي حتى عهد الإمام الصادق (عليه السلام).

وفي بداية النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، جاء مركز الكوفة الذي نما واستمر حتى بداية الغيبة الكبرى في النصف الأول من القرن الرابع الهجري (سنة 329هـ). والى جانب هذا المركز التعليمي المهم ظهر مركز (قم والري) في بلاد فارس على عهد آل بويه واستمر في عطائه العلمي حتى القرن الخامس الهجري. وتعد (الري وقم) من المناطق المهمة التي ضمت أتباع اتجاه التشيع حيث شاعت رواياتهم وكثر الرواة بينهم عن أهل البيت (عليهم السلام) منذ عهد الإمام الجواد (عليه السلام). وقد برز الكثير من رجال العلم في هذه المنطقة وكان أشهرهم كل من: الشيخ علي بن إبراهيم القمي وابنه أبي جعفر محمد الصدوق (381هـ) صاحب كتاب (من لا يحضره الفقيه)، والشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني (329هـ) صاحب كتاب (الكافي)، وابن الحسن حسن بن محمد بن الحسن القمى‏ صاحب كتاب (تاريخ قم). 

وبعد الري وقم برزت بغداد في النصف الأول من القرن الخامس الهجري كمركز تعليمي كبير استمر في عطائه العلمي حتى ظهور السلاجقة واضطرار الشيخ الطوسي (460هـ) للانتقال به إلى النجف حيث أسس ما عرف بـ (الحوزة) إثر تقلده للمرجعية بعد وفاة أستاذه الشريف المرتضى (436هـ).

والى جانب حوزة النجف أسست حوزة في حلب بعد أن بعث إليها السيد المرتضى تلميذيه الشيخ حمزة الديلمي (448هـ) المعروف بـ (سالار)، والشيخ أبي الصلاح الحلبي (447هـ).  وبعد رحيل الطوسي إلى النجف تأسست حوزة الحلة بزعامة الشيخ ابن إدريس محمد العجلي الحلي (598هـ).

وبهذا التطور العلمي والانتشار الجغرافي اتسعت رقعة التشيع في بلاد المسلمين، وانتشرت المجالس والمدارس ودور الكتّاب والمعاهد والمراكز التعليمية الكبيرة لأداء دورها التعليمي لقرون عديدة بدون بديل مؤسسي علمي ومعرفي، لكنها لم تشهد تطورا مميزا نسبة إلى المدة الزمنية الطويلة التي أمضتها هذه المدارس والدور والمجالس والحوزات والمراكز إلا من حيث تنوع المواد التي أضيفت إلي بعض العلوم البسيطة والمكملة.

وتركز التعليم في هذه الحوزات والمراكز والمدارس والمعاهد على دراسة النص، وهو ما أنتج الكثير من المؤلفات خصوصا في مجالات الفقه وكذلك الأصول الفقهية بعد ذلك.  كما تخرج عن هذه الحواضر العلمية قضاة وعلماء وفقهاء، بينما لم تشهد المناهج والأساليب والوسائل التعليمية في قرون التأسيس تطورا وتقدما مشهودا، وظلت على قدمها وتقليديتها فيما عدا بعض ما شهدته المدارس العثمانية في بعض ولاياتها حيث أسست على نمط حديث وفقا لتطور النظام السياسي بعد تصديق السلطان عبد الحميد على دستور جديد للبلاد.

وظل عهد نشوء مدارس ومعاهد وكليات التبشير المسيحي في الولايات العثمانية في العصر الحديث بديلا سياسيا وتربويا أقامه الاستعمار في مرحلة الضعف والوهن والجمود الذي غلب المؤسسة التعليمية الدينية في العالم الإسلامي.  وكانت المدارس المسيحية الوافدة متميزة ومتطورة في مجالات المناهج والوسائل والأساليب التعليمية، فارتبط اسمها بالحداثة والتفاعل مع الواقع، إذ كانت تساهم في تخريج الكادر العلمي الذي كانت تحتاجه السلطنة العثمانية للتصدي لإدارة شؤونها في مختلف المجالات، وهي السلطنة التي بدأت للتو في تبلورها على النمط الحديث المقارب لنمط الدولة في أوروبا بقيادة سلطة عدد من الأمراء غير الشرعيين وغير المثقفين في غالب الأمر، بينما صمدت المؤسسة التعليمية الدينية بأنماطها المختلفة على تمثيل التراث العلمي القديم في مناهجه ونصوصه ووسائله وأساليبه، ما تسبب عن ذلك نزاع وخلاف وتباين في المواقف على الصعد العلمية والاجتماعية والسياسية بين رجال الدين في المؤسسة التعليمية الدينية الرسمية التابعة لمؤسسات السلطنة من جهة، وبين رجال الدين في المؤسسة التعليمية الدينية المستقلة، حتى برز رموز الإصلاح وترددت أسماء كثيرة في هذا الشأن، كالشيخ الأنصاري والسيد محمد حسن الشيرازي والميرزا محمد تقي الشيرازي والشيخ رفاعة الطهطاوي والسيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده والسيد هبة الدين الشهرستاني والطاهر بن عاشور وابن باديس وغيرهم، حيث وضعوا أمتهم أمام واقع جديد دعا إلى أمرين: إصلاح المجتمع على الصعيد الثقافي والسياسي، وإصلاح المؤسسة التعليمية الدينية وإعدادها لكي تمثل دور الزعامة.

23 -  بحار الأنوار . ط1 . مجلد2 . ص189 .

24- حسن الأمين . أعيان الشيعة . ص 159  

راجع القسم:

الاول: 

الثاني:  

الرابع:

شبكة النبأ المعلوماتية- االاثنين  7 آيار/2007 -18/ربيع الثاني/1428