العقل الإيماني الإسلامي بين حكم الأغبياء وسجن الأذكياء

بقلم: المهندس غريبي مراد عبد الملك(*)

من المآثر في كتاب طبائع الإستبداد: «العافية المفقودة  هي الحرية السياسية...ومهرها كثرة الطلاب»

لا داعي للاستفسار: من هم الأغبياء ومن يكون الأذكياء ؟ لأنك تعرفهم وتتعامل معهم وتسمع عنهم وتراهم في الفضائيات وفي الشارع وتزورهم في المعتقلات وفي المصحات العقلية، إنهم صنفان من الناس فيصلهم هوالعقل الذي  يفكر الناس به في كل تفاصيل حياتهم، لكن قليل منهم من يعلم قيمة العقل عندما يرتبط بالإيمان لينتج قيمة العدالة التي تحكم الذكي وتعقلن الغبي...

هذه المعادلة المفاهيمية، هي وجيز الواقع العربي الإسلامي، حيث في تاريخنا العربي الإسلامي ككل إلا ما عفا الله عنه، شهد تلازما بين الحكم والجنون وصراعا بين الأغبياء والأذكياء، فآل مصير الأمة  العربية الإسلامية فيما يخص الرشد السياسي إلى معانقة الاستكبار والرضا بالضلال ومحاربة الهدى والحق، قد يبدوأنني بالغت في الوصف لكن شهد شهود من أهلنا، بأن العقل الإيماني في التاريخ السياسي العربي الإسلامي لم يشع نوره بعد النبي الأكرم (ص) إلا مرات لكنه كان باهتا لأن الأهواء كانت قد تلقفت الأمة بقبضة من حديد لتجعلها إمبراطورية قتل الأذكياء وتحكيم الأغبياء، وهذه المعادلة فيها صراع بين العلم والجهل أساسا، حيث إشكالية الواقع العربي الإسلامي ليست الثروات أوالقوة البشرية ولكنها الصدام بين العلم والجهل في قبال الحكم...

هكذا ننتهي إلى أن المأزق العربي والإسلامي مرهون بإعادة الديكور العام إلى أصالته، هذا بتصور عام وشامل ولكن تفصيلا وإبتداءا  الإنسان العربي المسلم بحاجة لإستجمام إنساني بالمعنى الذي يختزن القيمة العقلائية الدالة على الإنسانية فيه وهذا ما يستتبعه التخطيط لتنمية ثقافية عادلة مكفولة بالمثقف الديني التقي النقي المنفتح على مفاهيم الحق والعدل والسلم والإصلاح والتجديد والإنسانية والسلام والثورة الصالحة والشهادة الخالدة، والمرتكزة بدقة على الفكر الإسلامي والخطاب الإسلامي والعمل الإسلامي والإنجاز الإسلامي...الرشيد، العارف بمسؤوليته في ظل هذا الغباء السياسي المعطل لحركية الإجتماع العربي الإسلامي.

ولكننا أيضا، عبثاً نحاول الخلاص من حكم الأغبياء دون إطلاق الأذكياء من سجن الجنون. لأننا سنزداد التباساً كلما حاولنا التفكير بالخلاص أوالإمساك بمقوماته. لأن إنساننا العربي المسلم لا يعرف أين هوسجن الأذكياء ؟ أهوفي الماضي حيث شيد وتشكل ثم ترمم، وعندئذ ينبغي أن يعود إلى الماضي حتى تعود الأمور إلى نصابها أم هوفي الحاضر ؟ وإذا كان في المستقبل؟ كيف نستطيع فتح زنزاناته؟

ثم إن مفتاح زنزانات «سجن الأذكياء» ليس مفتاح كمفاتيح الأبواب المادية( الحديدية أوالخشبية)، حيث من الصعوبة والتعقيد والمشاكلة تحصيله، لأنه بالغ التنوع في دلالاته ورمزياته. وهذا ما ينفي الطرح التبسيطي  الذي يتم تداوله لمفهوم الإصلاح والخلاص  في المخيال العربي الإسلامي المعاصر. والعربي المسلم حديثا، لم يستطع التعرف على مفتاح حرية الذكاء نتيجة فقدانه لروحانية الزمن الإسلامي مع استغراقه في هوامش الزمن العربي...

إنه العقل الإيماني الحامل لروحانية الزمن الإسلامي الضامن للذكي حقه والرفيق بالغبي المقهور والقاهر للغبي الغوي، هوسبيل الخلاص من حكم الأغبياء...

رحم الله المصلح عبد الرحمن الكواكبي حين كتب في كتابه طبائع الإستبداد:"وأنت أيها الشرق الفخيم رعاك الله، ماذا دهاك؟ ماذا أقعدك عن مسراك ؟أليست تلك الأرض ذات الجنان والأفنان، ومنبت العلم والعرفان، وسماؤك تلك السماء مصدر الأنوار، ومهبط الحكمة والأديان، وهواؤك ذاك النسيم المعتدل، لا العواصف والضباب، وماؤك ذاك العذب الغدق، لا الكدر ولا الأجاج؟...رعاك الله يا شرق... ماذا أصابك فأخل نظامك، والدهر ذاك الدهر ما غير وضعك ولا بدل شرعه فيك؟ ألم تزل مناطقك هي المعتدلة، وبنوك هم الفائقون فطرة وعددا؟ أليس نظام الله فيك على عهده الأول، ورابطة الأديان في بنيك محكمة قويمة، مؤسسة على عبادة الصانع الوازغ.

أليست معرفة المنعم حقيقة راهنة أشرقت فيك شمسها، وأيدت بها عز النفس، واحكم بها حب الوطن وحب الجنس ؟...رعاك الله يا شرق، ماذا عراك وسكن فيك الحراك؟"(1)

في نفس السياق،ربما يكون من الضروري التأكيد، أنّ مفهوم العقل الإيماني التي قد نأخذه كمفهوم توفيقي للتعامل مع الظاهرة العربية الإسلامية المعاصرة هوغير ما ذهب إليه ياسر جاسم قاسم،  حيث نختلف معه في المدخلية المنهجية لتحليل الظاهرة الدينية وفي درجة انسجامها وتعاملها مع الأزمات وصياغتها للحلول والنهوض بالتنمية كمفهوم  ذا أفق ايجابي شامل، ناهيك عن النسبية في العلاقة بين العقل الإيماني الإسلامي وظاهرة العنف.

إنَّ القضية التي حاولت مناقشتها باقتضاب ومعالجتها في هذه المداخلة السريعة، هي أنّه من الضروري للذكاء الإسلامي، أن يؤسس مشروع إسلامي شامل يرتكز على عقل إيماني منفتح، بحيث يملك القائمون عليه وضوح رؤية الواقع والأشياء، فلا تكون الدوغمائية الإسلامية مغلقة ومشتتة  في مواجهتها للغباء والجهل السياسي الضاغطٍ والمستبد بالواقع العربي الإسلامي. إنني أعتقد أنَّ التوازن في التفكير الإسلامي، بين ما هوامني وسياسي، وما هو فكري وثقافي، هوالذي يضع هذا التفكير في إطاره الصحيح...

بالكاد إلى الآن لم أستعرض حقيقة إشكالية الظاهرة العربية الإسلامية، ولم أتبيّن ماهية تحليلها بعمق، وإنما ألمحت فقط إلى أصل الأزمة.. حيث تحرير الأذكياء من سجن الأغبياء يحتاج منا...تأصيلا لمفهوم العقل الإيماني المفقود في التفكير العربي الإسلامي المعاصر...

(*) كاتب وباحث إسلامي جزائري

(1) طبائع الإستبداد ومصارع الاستعباد ص158، عبد الرحمن الكواكبي، دار النفائس2003.

شبكة النبأ المعلوماتية-الاحد 18 آذار/2007 -28/صفر/1428