في ذكرى ولادة الإمام العسكري عليه السلام

 تأملات ولائية من أجل وعي إسلامي كبير

بقلم: م.غريبي مراد عبد الملك(*)

 مدخل :إنها ذكرى مولد الإمام العسكري(ع). وفي رحاب أي إمام من أئمة أهل البيت(ع) في حركة القدوة لا بد لنا من أن نحرّك البطولة، لا من جهة أننا نريد أن نتغنى بالإمام و مدحه فالمسألة بينة منذ عالم الذر و ما مدحنا المفصول عن سلامة و صحة واقعنا الإسلامي سوى انتحاب بليد غير راشد ثم إنه تزين بجمال نشوهه. فالشيعة قوم مسؤولون عن الحاضر الإسلامي وعن المستقبل بمقدار تحملهم للمسؤولية الإسلامية. لأن رسالة  أهل البيت(ع) عنوانها  الإسلام، والتشيع ليس شيئاً يتأطر في الخصوصيات التاريخية ليغيب فيها ولكنه ينفتح على  الإسلام الرسالة بل هو صميمها كلّها ليجسدها التجسيد السليم، فالإسلام هو الرسالة الكاملة  و التشيع هو وقود الرسالة في سفر الدنيا.

إنطلاقا من هذا التفكر فإن استعادتنا لذكرى أهل البيت(ع) هي استعادة  و إحياء وعي لحركية الإسلام في سيرهم الرائعة الخالدة المنقذة من الغي و الغرور ،من خلال المفاهيم التي طرحوها مما لا يختلف فيه زمان عن زمان ولا مكان عن مكان و المواقف التي صنعوها و الوصايا التي أرسلوها للأجيال الإسلامية المستقبلية.

و مولانا الإمام العسكري (ع) هو الذي استطاع أن يغني الواقع الإسلامي في العمق وفي الامتداد ذلك أن الظروف السياسية كانت تيارا ضخما و قويا مستبدا يسري ضد  هذا الإمام فمنعته ابلاغ  رسالته كاملة غير منقوصة ، فعانى عليه السلام  من الاضطهاد الجسدي والاضطهاد المعنوي ومصادرة الحريات وما إلى ذلك، مما حرم المسلمين عبر الزمن الإسلامي كله،  الكثير  من عطائه الإسلامي فيما يتضمنه الإسلام من عقائد وقضايا ومفاهيم ومناهج ووسائل وأهدافاً،  إن الاستبداد  و الظلم الذي عاشه الإمام العسكري عليه السلام ككل إمام من أئمة أهل البيت عليهم السلام هو ما عبر عليه الإمام السجاد عليه السلام في أحد أدعيته "وقد علمت انه ليس في حكمك ظلم ولا في نقمتك عجلة، إنما يعجل من يخاف الفوت ويحتاج إلى الظلم الضعيف وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علوّا كبيرا". فالظالم يخاف من المظلومين فيظلمهم حتى لا يسقطوا موقعه في خط ظلمه.

وعندما ندرس سيرة  الإمام الحسن العسكري (ع) نجد أن الإمام (ع) عاش  في فترة الحكم العباسي الذي لا يوافق على شرعيته لأنه هو الشرعية، ونقرأ في تراثه سلام الله عليه انه في زمن المعتزّ، أُدخل الإمام العسكريُّ(ع) إلى السجن، فـ"دخل العباسيّون على صالح بن وصيف وغيره من المنحرفين عن هذه الناحية ـ أي ناحية الأئمة من مخالفيهم ـ عندما حُبس أبو محمد(ع) (العسكري) فقالوا له: ضيّق عليه ولا توسّع، فقال لهم صالح: ما أصنع به، وقد وكّلتُ به رجلين شرَّ مَن قَدِرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم.. ثم أمر بإحضار الموكّلين، فقال لهما: ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل؟ فقالا له: ما تقول في رجلٍ يصوم نهاره ويقوم ليلَه كلَّه، لا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا، فلما سمع ذلك العبّاسيون انصرفوا خاسئين"(1).

ونجد في تراثه (ع) كيف كان عليه السلام  في محنته الرسالية ، ففي الرواية عن عليّ بن محمد عن محمّد بن إسماعيل العلويّ قال: "حُبس أبو محمد العسكري عند عليّ بن أوتامش، وهو أنصب الناس وأشدّهم على آل أبي طالب، وقيل له: افعل به وافعل، فما أقام عنده يوماً حتى وضع خدّيه له ـ كنايةً عن الخضوع والتذلّل ـ وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً، فخرج من عنده، وهو أحسن النّاس بصيرةً وأحسن الناس فيه قولاً"(2).

وقد كان تأثير الإمام العسكري(ع) الروحيّ على هذا الآخر ككل قويّا و قويما وصل عليه السلام إلى درجةٍ استطاع فيها أن يغيّر تفكير الآخر كلَّه ووجدانه كلَّه، وإذا به يتحوّل هذا الآخر الحاقد من عدوٍّ لدود إلى صديق حميم.

أسلوب الإمام (ع):

أمّا عندما نحاول أن نحدث الآخر الجواني أو الخارج عن الدائرة الإسلامية عن أسلوب أئمة الهدى عليه السلام في الحياة ككل، فلا مناص نجد أن الأسلوب هو أسلوب القرآن وأسلوب النبي (ص) وأسلوب الأئمة (ع) السابقين لذلك الإمام يعني هناك وحدة ثقافة وهدف أولا ، وتنوع ظروف و تكامل مناهج أيضا تهدف  لإصلاح المجتمع و تركيز بنائه على القاعدة الفكرية الإسلامية بحيث لا ينحرف المجتمع عن الخط الإسلامي الأصيل في غلّو هنا أو عداوة هناك و تشرذم هنالك... حيث نجد في تراث أهل البيت(ع)سلسلة منتظمة متناغمة ومتكاملة و ذات منهج علمي حركي إسلامي رصين. على سبيل المثال هناك وصية للإمام العسكري عليه السلام مرويّة أيضاً عن الإمام الصادق(ع) مع بعض التغيير في الألفاظ:"وأوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله ـ في معرفته وطاعته وفي عبادته ـ وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برّ أو فاجر، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد(ص)، صلّوا في عشائرهم ـ يعني هؤلاء الذين يجاورونكم ممّن تختلفون معهم في المذهب ـ واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدّى الأمانة، وحسّن خلقه مع الناس، قيل هذا شيعي، فيسرّني ذلك ـ لأنه سائر على الحق والاستقامة في خط الإسلام ـ اتقوا الله وكونوا زيناً ـ نتزين به ـ ولا تكونوا شيناً، جرّوا إلينا كلّ مودة ـ اجعلوا الناس يحبوننا، فلا تتحدثوا مع الناس بالحقد والبغضاء والسباب وما إلى ذلك ـ وادفعوا عنا كلّ قبيح، فإنه ما قيل فينا من حَسَنٍ فنحن أهله، وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك، لنا حق في كتاب الله، وقرابة من رسول الله، وتطهير من الله لا يدّعيه أحد غيرنا إلاّ كذّاب". و كأن الأئمة عليهم السلام هناك بعض المسائل تداولوها و أثاروها جميعهم عليهم السلام بالتحليل و التصحيح و التوجيه والترشيد مع تلامذتهم نظرا لخطورتها على صحة و فعالية التدين الإسلامي  و التشيع العلوي و الاستقرار الاجتماعي و الثورة الحكيمة على الاستبداد، و هذا  لا للتكرار كما قد يتصور البعض ولكن لأجل الذكرى التي تنفع المؤمنين حيث نستلهم هنا دليلا على تلازمية الثقلين في معالجة الأزمات في الواقع الإسلامي عبر الزمن الإسلامي كله.

فنلاحظ في عبارات الوصية الآنفة الذكر ، الإمام(ع) أراد أن يركّز القاعدة الفكرية وان يخطط للخطط العملية التفصيلية في حركة القيم الإسلامية في حياة الشيعي  من خلال علاقات المجتمع به أو علاقاته بالمجتمع. فالخطاب  كان موجه للشيعة، فلقد كان يخاف عليه السلام ككل إمام من أئمة أهل البيت عليهم السلام على التشيع من التحريف و على الشيعة من العجب و التعصب و التخندق أو أن يدخلوا في دائرة الغلوّ ،انطلاقاً من أن الحب عندما يزداد فإنه قد يتجاوز الحدود، ولذلك أراد أن يرتب و يطلق  القاعدة الشيعية الإسلامية على أساس التوازن الذي أراده الإسلام. هذا هو الخط الإمامي الذي أراد أن يركّزه الإمام العسكري(ع) كإمتداد للوحدة الثقافية الإمامية القائدة للرشد الإسلامي...

هذه الحقيقة نجدها واضحة في رسالة خالدة بعثها عليه السلام  في زمن إمامته إلى إسحاق النيسابوري  لكنها لا تزال تشع بدروس وحقائق ولائية عظيمة ككل كلمات الأطهار عليهم الصلاة و السلام قائلاً: "سترنا الله وإيّاك بستره، وتولاّك في جميع أمورك بصنعه، فهمت كتابك، ونحن بحمد الله ونعمته أهلُ بيتٍ نرقُّ على أوليائنا، ونُسَرُّ بتتابع إحسان الله إليهم، وفضله لديهم، ونعتدُّ بكلِّ نعمةٍ يُنعمها الله تبارك وتعالى عليهم، والحمدُ لله ـ تقدّست أسماؤه ـ عليها مؤدّ شكرها، وأنا أقول الحمد لله أفضل ما حمده حامدُه إلى أبد الأبد بما منَّ الله عليك من رحمته ونجّاك من الهَلَكة وسهّل سبيلك على العقبة. وأيم الله، إنَّها لعقبةٌ كؤود، شديدٌ أمرها، صعبٌ مسلكُها، عظيمٌ بلاؤها..فاعلم يقيناً يا إسحاق، أنَّه من خَرج من هذه الدنيا أعمى، فهو في الآخرة أعمى وأضلُّ سبيلاً، وذلك قول الله في محكم كتابه حكايةً عن الظالم إذ يقول: {رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وقد كنتُ بصيراً* قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتَها وكذلك اليوم تُنسى} [طه:125ـ126]، وأيُّ آيةٍ أعظم من حجّة الله على خلقه وأمينه في بلاده وشهيده على عباده من بعد مَنْ سلف من آبائه الأولين النبيّين، وآبائه الآخرين الوصيّين، عليهم أجمعين السلام ورحمة الله وبركاته. فأين يُتَاهُ بكم، وأين تذهبون كالأنعام على وجوهكم، عن الحقّ تصدفون وبالباطل تؤمنون وبنعمة الله تكفرون، أو تكونون ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، فما جزاء من يفعلُ ذلك منكم ومن غيركم إلاّ خزيٌ في الحياة الدنيا وطول عذابٍ في الآخرة الباقية. إنَّ الله بمنِّه ورحمته لما فَرَض عليكم الفرائض، لم يفرض ذلك عليكم لحاجةٍ منه إليكم، بل برحمة منه ـ لا إله إلاَّ هو ـ عليكم، لِيَميزَ الخبيث من الطيّب، وليبتلي ما في صدوركم، وليمحّص ما في قلوبكم، لتتسابقوا إلى رحمة الله، ولتتفاضل منازلُكم في جنّته، ففرض عليكم الحجَّ والعمرة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والولاية"(3).

نافلة القول أن معرفة الإمام العسكري عليه السلام مدخل أساسي لمعرفة الإمام المهدي عليه السلام و وعي المسألة المهدوية في التطلع الإسلامي ككل ، كما أن الولاية و إمتداداتها  تفرض علينا في خضم هذه المناسبة العظيمة أن نتشبع بالروح الولائية والثقافة الإسلامية المغنية للعقل الإيماني حتى يتسنى لنا الإنفتاح على حديث الثقلين انفتاحا استراتيجيا و خاصة مدخله التاريخي و مداه الرسالي حتى نتشيع التشيع المسؤول لا التشيع النرجسي ...و السلام عليك يا سيدي ومولاي يا أبا محمد و سنبقى ندعو دائما كما علمتنا "يا أسمع السامعين، ويا أبصر المبصرين، ويا أعزَّ الناظرين، ويا أسرعَ الحاسبين، ويا أرحم الراحمين، ويا أحكم الحاكمين، صلِّ على محمد وآل محمد، وأوسع لي في رزقي، ومُدَّ لي في عمري، وامنن عليَّ برحمتك، واجعلني ممن تنتصر به لدينك ولا تستبدل به غيري". هذا الدعاء أوصى به عليه السلام  بعض مواليه سألوه عليه السلام أن يعلّمهم دعاءً، فكتب إليهم أن يدعو بذلك الدعاء..

فقال أبو هاشم الجعفري راوي الحديث: فقلت في نفسي: اللهمّ اجعلني في حزبك وفي زمرتك.. فأقبل عليّ أبو محمد(ع) (العسكري) فقال: "أنت في حزبه وزمرته، إذ كنت بالله مؤمناً، ولرسوله مصدِّقاً، ولأوليائه عارفاً، ولهم تابعاً"(4).

إن إحياء الذكريات الإمامية مسألة تفرض أن نعيش امتداد الولاية  في العلاقات بكل العناصر التي تتمثل فيها المسؤولية الإسلامية في إيجابية الشيعي مع المسلم الآخر وحتى مع غير المسلمين، فالله يصف عظمة الرسول (ص) في أنه على خلق عظيم وأنه كان رقيق القلب لطيف اللسان وكان الرؤوف الرحيم وكان الإنسان الذي يتألم لمن حوله إذا تألم، وكان يحرص على من حوله عندما يسيرون في خط الضياع و كان الأئمة عليهم السلام آل النبي الأكرم (ص) حقا و عدلا و أوصيائه  أهلا و فضلا فهل نكون شيعتهم عليهم الصلاة و السلام حقا و عدلا ؟ و يبقى الجواب حياة إسلامية و ليس حديثا قد يسقط في أودية الدنيا و متاهات الأزقة السياسية و مع الإمام العسكري عليه السلام في مولده حكمة بالغة لمن أحياها بصدق و جد و اجتهاد....

الهوامش:

(1) الكافي، ج:1، ص:512

(2) الكافي، ج:1، ص:584.

(3) تحف العقول، ص:359.

(4) مرآة العقول ـ ج:1، ص:383 

(*) كاتب و باحث إسلامي جزائري

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 29 نيسان/2007 -10/ربيع الثاني/1428