ثقافة الانتظار: نضوج العقيدة وواقعية التطبيق

السيّد محمّد جواد سنبه

 تعتبر قضية ظهور الإمام المهدي(عج)، وتخليص البشرية من معانات الظلم والجور والاستبداد، ليست طرحاً تنفرد به الرسالة الاسلامية المجيدة فحسب، بل أنّ هذه القضية تشترك بها الديانتين اليهودية والمسيحية أيضاً، إذ تؤكدان  الاعتقاد بظهور المسيح المخلص. وهذا الاتجاه يوجد حتى عند بعض الديانات غير السماوية، فانها تعتقد بانتظار الشخص المنقذ لأتباعها.

 وعلى مستوى المعتقد الاسلامي، فجميع المذاهب الاسلامية تتفق على وجود الشخص المنقذ، وحتمية دوره العالمي في ملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت ظلماً وجوراً، بيد أنّ الاختلاف ينحصر بأنَّ المذاهب الاسلامية (عدا المذهب الجعفري)، تعتقد أنّ الامام الحجة (عج)، لم يولد بعد، وإنه سيولد في الفترة التي يريد الله تعالى بحكمته ذلك. بينما عند مذهب أهل البيت (ع)، فهو موجود بين ظهراني العالم الآن، ليعيش واقعية التجربة الانسانية، بابعادها الزمانية لمراحلها الثلاث، الماضي، والحاضر، والمستقبل، (إلى ان ياذن الله تعالى بظهوره الشريف وفق مقتضيات الحكمة الإلهية).

 لا نريد أن نناقش أي الأدلة أقوى عند الطرفين، لأن ذلك خارج نطاق الموضوع. ولكن نريد أنْ نبحث في موضوع الاعتقاد بمفهوم انتظار الإمام (عج)، المُدَعَمّ بعدد كبير من الاحاديث المستفيضة، الدقيقة والممحصة غاية في الدقة والتحقيق، لدرجة أنْ لا يرقى إليها شك بالمرة. إنَّ الاعتقاد بهذه المسألة، وأدبياتها وقدسيتها، وسلوك المؤمنين إزاءَها، إضافة إلى طقسيّتها الإيمانية، وتراثيتها الفكرية، وبعديها التاريخي والمستقبلي، يجعلها كمجموع يشكل برمته (ثقافة الانتظار) عند اتباع مدرسة أهل البيت(ع).

والسؤال : هل يحسن المؤمنون انتظار الإمام الحجة (عج)، استخدام ثقافة الانتظار بشكل سليم، وبشكل يليق بمنهجية مذهب أهل البيت(ع)، وباسلوب يوظف الطاقات ويشحنها باتجاه تطبيق هذه الثقافة عملياً ؟.

 للاجابة، لابدّ أولاً أن نستعرض خصائص ثقافـة الانتظار، ومن ثم نعرف خصائص المنتظرين، وبالتالي نحكم على سلوكيات المؤمنين بهذه الثقافة، ومقدار تطبيقهم أو خروجهم عن ثقافة الانتظار.

أولاً. إن البعد النظري لثقافة الانتظار، يرتبط مباشرة بأصل من أصول الدين الحنيف، وهو وجوب الإعتقاد بالإمامة، وبذلك تكون هذه الثقافة ذات بعد معتقدي، وان الاستخفاف بها  أو الغائها، يعتبر هدماً لأصل من الأصول الدينية لعقيدة مذهب أهل البيت (ع). لذا فثقافة الإنتظار ذات أصل عقائدي رصين.  

ثانياً. إنَّ الانتظار بحد ذاته، هو نوع من أنواع عبادة الخالق تعالى، كون المُنتَظِر يعمل وفق خطة إلهيّة مرسومة، تحكم العالم البشري وفق منظور رباني، شـاء الله تعالـى بحكمتـه، أن تكون صيرورة البشرية، منتهية إلى وضع العدل والحق والاحسان، وتكتب الهزيمة الماحقة، للباطل والظلم والجور، ويشهد العالم نهاية وجود الطواغيت فيه.

ثالثاً. تحتم ثقافة الانتظار على روادها، أن يكون المُنتَظِر على درجة من الوعي والمعرفة، تؤهله بأن يكون عضواً متفاعلاً وكياناً متحركاً، على ضوء تصورات المنظومة الفكرية الاسلامية، التي يتغذى منها فكرياً من جهة، ومع مجتمعه والعالم الخارجي، بحيث يكون له الدور المحوري الإيجابي، في بناء أركان الخير والعمل الصالح. وإن هذا الأثر يجب ان يترك بصماته الواضحة التأثير على الشخص الآخر، سواء كان مؤالفاً أو مخالفـاً لـهذه الثقافـة، سيّما أن الأصل في العمل الإسلامي، هو التواصل مع الآخرين بواقعية، ومدّ جسور التعاون معهم، وبث روح الاحترام المتبادل بين الجميع.

رابعاً. تحث ثقافة الإنتظار المؤمنين بها، بأن يكونوا على قرب من المناخات العلمية والسياسية، المحلية منها والعالمية، بغية فهم التحولات التي تجري في العالم، لقراءة الاحداث عن كثب، للوصول إلى الإدراك الواقعي لحقيقة المرحلة الآنية، والمرحلة المستقبلية، من أجل رسم موقف محدد على ضوء ما تمليه المصلحة الاسلامية. إضافة إلى اطلاعاتهم الأخرى، التي يمكن تحصيلها من القراءآت الموضوعية والعلمية للتاريخ الاسلامي والعالمي، فهناك الدروس الجليلة الفائدة، التي تغني الخبرات وتنمي القدرات.

 لكن مع الأسف الشديد فان المسلمين أكثر البشر إهمالا واحتقاراً لتاريخهم، بالرغم ما لديهم من المصادر الغنية والثرية بالمواد التاريخية،(منها القرآن الكريم). لكن نرى العكس من ذلك في العالم الغربي، الذي يقدس تاريخه، ويعتبر التوراة المزيفة، من أهم مصادره التاريخية الموثوقة. لذا نجد عباقرة سياسي الغرب، هم الذين درسوا التاريخ بدقة واهتمام، كما درسوا العلوم السياسية. 

خامساً. تدفع ثقافة الانتظار اتباعها، للعمل وفق نسق وإطار الستراتيجية المهدويّة، باعتبارهم مراكز تغيير مرحلية، تسعى لتهيأة الأجواء المناسبة، لانبثاق دولـة العدل الإلهــي. فالتطابق في الأهداف بين ثقافة الإنتظار، وستراتيجية التغيير العالمية، على يد الامام الحجة (عج)، يشكل خطة محوريّة موحدة الاهداف بين الجانبين.

 من جهة ثانية أنَّ ثقافة الإنتظار تهيئ البيئة العالميّة المناسبة، لاستقبال صاحب المشروع التغييري العالمي، بحيث تكون مهمته(عج)، الانطلاق بمشروعه الجاهز، ولا يحتاج لبناء الكوادر المتقدمة للعمل، أو القواعد الشعبيّة، فكل شيء ممهد لاستقبال صاحب الأمر(عج).  

سادساً. إنَّ التفاؤل بالمستقبل، والجلد والصبر على المكاره، وتوطين النفس على قبول الامتحان والنجاح فيه، والتفاعل بواقعية وعلمية وموضوعية مع الاحداث والمتغيرات، وتهيأة المقدمات وكسب النتائج بعد الاتكال على الله تعالى، إضافة الى العقلية المتنورة الوقّّادة، التي تفهم دورها وما هو مطلوب منها بيقظة وعمق، هي سمات أخرى لثقافـة الإنتظـار.  

سابعاً. إن هذه الثقافة مستقلة في مصادرها، فهي تستمد منظومتها المعرفية من القرآن الكريم، وهدي الرسالة المحمدية السمحاء، ومنهج مدرسة العترة الطاهرة. وعلى ضوء هذه المرتكزات، فان ثقافة الإنتظار بعيدة كل البعد، عن الخرافات والسلوكيات الجاهلة.

ثامناً. لاتقبل ثقافة الانتظار بالدنيا وزخرفتها، كمشروع بديل عن الستراتيجية المهدويّة المباركة، فالهدف ليس الفوز بالدنيا وملذاتها الآنية الزائلة، وإنّما الفوز بالنعيم الأخروي ببركة خدمة مشروع الإمام المنتظر(عج).

هذه أهم المحاور التي تحدد ثقافة الإنتظار، غير أنَّ البسطاء والجهلة من الناس، يشوهون هذه الثقافة بدون قصد منهم، عن طريق تبني منهج الإتكال على الله سبحانه، من دون تقديم المقدمات العملية اللازمة، التي تسبق عملية الإتكال عليه سبحانه، وإنّما استبدال العمل والكفاح بالتوسل والدعاء. إضافة لذلك، فان المغرضين المعادين للاسلام المجيد، يشوهون ثقافة الإنتظار، من خلال تشجيع البسطاء على تبني منهجية الإتكال بدون العمل.

 فالمراقب يلحظ بجلاء، أنّ هؤلاء المساكين البسطاء الجهلة، يؤدون الصلوات اليومية الواجبة، وينصرفون بعدها بالاستغراق في أدعية الفرج، حتى اني ضبطت وقت إدائهم لصلاة الفرض الواحد، فوجدته يستغرق أربع دقائق. بينما ضبطت وقـت استغراقهـم بالدعـاء، فوجدته يستغرق عشرين دقيقة، كتعقيب لصلاة فرض واحد.

 وبالمناسبة اريد أن أُثير موضوعاً غاية في الأهمية، يحتم على ذوي البحث والاختصاص تحقيقه والبتّ فيه، وهو، أنَّ عدداً من الأدعية الموجودة في كتاب (مفاتيح الجنان)، تذكر الجمل التالية (اللهم صلِّ على محمد وآل محمد وأظهر كلمتك التامة، ومُغَيََّبَكَ في أرضك، الخائف المُتَرَقِّب)(زيارة صاحب الأمر ص471)، ووردت عبارة(المرتَقِب الخائف) في دعاء (آداب السرداب ص737)، وأنا بتصوري الخاص، أتحفظ على عبارات (الخائف المترقب) حتى يقول أهل الاختصاص كلمتهم الفصل فيها. لأني أتصور أن مجرد الاعتقاد بأنّ الإمام المنتظر (عج)، هو شخص خائف مترقب متوجس، بالرغم من وجود الحماية الربانية له، وعدم امكانية اختراق الحاجز الامني الذي يحيط به (وهو عملية غيابه عنا) من قبل اعدائه، ومع ذلك فهو (خائف ومترقب)، فإنّ ذلك يوهن في شخصية القائد الموعود. فالقائد الرسالي لايخاف من أعدائه، نعم إنّه يتقي المواجهة معهم ويؤجلها، لحين ملائمة الظرف العملي الذي يجعل المواجهة أمراً لا مناص منه. والغرض من الإتقاء والتأجيل في المواجهة، إبقاء تعامله معهم مفتوح، علّه ينجح في هدايتهم وإصلاحهم.

وهناك احتمال قوي آخر هو ان المعصوم(عج)، يخاف ويترقب ليس خشية على ذاته، وإنّما من بطش الانظمة الطاغوتية، التي لا تتورع من شن حرب باسلحة الدمار الشامل، على قواعده الشعبية من اجل تدمير وعزل هذه القواعد عن سيطرته، وبذلك حرمانه من خوض معركة متكافئة بينه وبين اعدائـه.

 علينا أن نراجع هذه التصورات (خوف وترقب الإمام (عج)) ونبحث في ملابساتها، عن طريق البحث العلمي، لأجل النجاح بتقديم تفسير مقنع للمؤمنين بعقيدة الظهور، أو المخالفين لها على حدّ سواء، فذلك سيعطي لثقافة الإنتظار زخماً قوياً، يشجع العاملين على نهجها، ويعطيهم المزيد من الدفع والتفاؤل. والله تعالى من وراء القصد. 

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 23 نيسان/2007 -6/ربيع الثاني/1428