تجديد الفكر الإسلامي ومنطق الاجتهاد

 الاستاذ زكي الميلاد*

لعل أهم حقيقة يمكن أن نقررها في مجال الحديث عن تجديد الفكر الإسلامي، هي أن مهمة التجديد لا يمكن النهوض بها، والتقدم المستمر في طريق إنجازها، وبالمستوى الذي يحقق درجة عالية، إلا إذا استعاد العلم الإسلامي، واستعاد المسلمون منطق الاجتهاد، وتعاملوا مع الفكر الإسلامي بهذا المنطق. فهو المنطق الذي يفسر لنا كيف استطاع المسلمون في عصرهم الأول تأسيس العلوم، واكتشاف المناهج، وابتكار النظريات في مختلف ميادين العلم والمعرفة، وكيف تمكنوا من بث الروح في علوم الآخرين التي تعرفوا عليها، واعتنوا بها كعلوم اليونان القديمة، ولولاهم لندثرت تلك العلوم، ولما تعرف عليها العالم اليوم، وكيف صنفوا لنا تلك المؤلفات الجليلة والخالدة، التي كشفت عن الروح العلمية الفائقة والمدهشة عند العلماء المسلمين في ذلك العصر.

 وهي الروح التي حاول العالم الألماني فرانتز روزنتال الكشف والحديث عنها في كتابه: (مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي)، متتبعاً تجليات هذه الروح في مختلف ميادين المعرفة، من المعرفة الإسلامية والشعر والأدب، إلى المعرفة المتصلة بعلوم الطب والصيدلة والكيمياء.

فحين يتحدث روزنتال عن عناية العلماء المسلمين بالمسائل الصعبة والشائكة، ينقل عن الجوزجاني الذي تتلمذ على ابن سينا مدة خمس وعشرين سنة، أنه لم يره مرة (إذا وقع له كتاب مجدد ينظر فيه على الولاء، بل كان يقصد المواضع الصعبة منه، والمسائل المشكلة، فينظر ما قاله مصنفه فيها، فيتبين مرتبته في العلم ودرجته في الفهم)، ويعلق روزنتال على هذا الكلام بقوله: (أن ابن سينا كان ذا قدرة نادرة على النظر في الأمور الجليلة الفائدة، دون إنفاق الجهد سدى على أمور ثانوية، إنه كان يعنى أولاً بالمستجد في شتى حقول العلم الذي كان يهتم به)

وحين يتحدث عن الغاية من التأليف والتصنيف في نظر بعض العلماء المسلمين، ينقل كلاماً أورده الشيخ عبد الباسط العلموي في كتابه: (المعيد في آداب المفيد والمستفيد) الصادر عام 1573م، يقول فيه: (قال صاحب الأحوذي: ولا ينبغي لمصنف يتصدى إلى تصنيف أن يعدل إلى غير صنفين: إما أن يخترع معنى، أو يبتدع وضعاً ومبنى، وما سوى هذين الوجهين فهو تسويد للورق، والتحلي بحلية السرق).

ونقل عن أبي حامد الغزالي أنه كان يخاطب غيره بقوله: (اطلب الحق بطريقة النظر لتكون صاحب مذهب، ولا تكون في صورة مقلد أعمى).

وبمنطق الاجتهاد يتحرر الفكر الإسلامي، من أصنام التقليد والتبعية والجمود، ويتخلص من أوهام الرهبة والهيبة والشعور بالضعف، ويكتسب شجاعة النظر، وعزيمة الكشف، وقوة الابتكار، فهو المنطق الذي يتطلب إعمال العقل بأقصى طاقته، والسعي لامتلاك ناصية العلم، والاحاطة بكل ما تتطلبه عملية البحث والكشف من شروط معرفية ومنهجية.

فالاجتهاد هو نقيض التبعية والتقليد، والفكر الإسلامي لا يمكن له أن يتجدد إذا لم يتحرر من صنمية التبعية والتقليد. وهذه هي مشكلتنا، فنحن لا ننتج المعرفة، وإنما نقلد الآخرين ونتبع سبيلهم، ونجتر ما عندهم من أفكار ومعارف، وهذا ما نعرفه نحن عن أنفسنا، وما يعرفه الآخرون عنا أيضاً، ولن نتخلص من التبعية والتقليد إلا بالاجتهاد.

كما أن الفكر الإسلامي لن يتجدد إلا إذا تحرر من ذهنية التواكل والجمود، وتخلص من أوهام الرهبة والهيبة، ومن الشعور بالضعف والقصور، ولن يتحرر من هذه الأصنام والأوهام إلا باستعادة منطق الاجتهاد.

ومن جهة أخرى، يكشف منطق الاجتهاد عن حجم ومستوى وطبيعة مهمة التجديد في الفكر الإسلامي، وكيف أنها مهمة ضخمة وشاقة، وكأننا بحاجة إلى ثورة فكرية ومنهجية في الفكر الإسلامي تؤهله للنهوض وإتمام مهمة التجديد.

تجديد الفكر الإسلامي وجدلية التراث والمعاصرة

تتحدد ابرز إشكاليات تجديد الفكر الإسلامي في إطار جدلية التراث والمعاصرة، بمعنى أن التجديد في الفكر الإسلامي لا يمكن أن يتحقق بدون إعادة قراءة التراث من جديد، وبمنهج العقل النقدي، وعلى أساس فلسفة التواصل وليس الانقطاع، وبخلفية الهضم والاستيعاب، وسعياً نحو التجاوز والإبداع.

كما لا معنى للتجديد، إذا لم يبدع الفكر الإسلامي معاصرته وحداثته في إطار شروطه التاريخية والثقافية، ويبرهن على قدرته في مواكبة العصر، والانخراط في تجربة الحداثة العالمية، والمشاركة في إنتاج المعرفة الإنسانية.

من هنا ندرك عمق هذه الإشكالية وطبيعة تعقيداتها، وكيف أنها إشكالية تاريخية وحضارية، يتوقف على أساسها مستقبل ومصير الفكر الإسلامي والأمة الإسلامية، وبهذا المستوى من الفهم والإدراك ينبغي أن ننظر ونتعامل مع هذه الإشكالية.

من جهة أخرى، أن هذه الإشكالية هي من أكثر ما يظهر الضعف في بنية ومكونات الفكر الإسلامي، وتكشف عن الحاجة الملحة للتجديد، وضرورتها التاريخية والحضارية.

وعند النظر في هذه الإشكالية، نجد أنها تتفرع إلى محنتين، محنة مع التراث، ومحنة مع العصر. والمحنة مع التراث، تتحدد في كون أن الفكر الإسلامي مع أنه بقي ومازال مسكوناً بهاجس التراث، إلى درجة أنه يعد من أكثر المنظومات الفكرية اشتغالاً به على مستوى الثقافات الإنسانية في العالم، مع ذلك لم يتمكن الفكر الإسلامي من هضم هذا التراث واستيعابه، والعمل على تمثله، بل ويمكن القول أن التراث بوصفه منتجاً فكرياً مازال متفوقاً ومتقدماً على ما ينتجه المفكرون الإسلاميون المعاصرون.

وهذه هي المحنة الحقيقية التي تواجه الفكر الإسلامي المعاصر، الذي مازال يفتش عن ابن سينا في عصره ولم يجده، وعن ابن رشد في عصره ولم يجده، وعن ابن خلدون في عصره، وعن الخوارزمي وابن الهيثم وابن النفيس والبيروني وغيرهم ولم يجد أحداً منهم في عصره. ولهذا فإن هناك من يبحث عن العصر الثاني لابن سينا، والعصر الثاني لابن رشد، والعصر الثاني لابن خلدون، وهو العصر الذي لم يتمكن الفكر الإسلامي المعاصر من إبداعه أو تمثله، أو الوصول إليه.

وما لم يتقدم الفكر الإسلامي على التراث، من ناحية الإسهام النظري والمعرفي، فإن إشكالية التراث ستظل قائمة، وقيمتها أن تذكر الفكر الإسلامي بالحاجة إلى التقدم والتفوق، ومن دون هذا التقدم على التراث، ستظل مهمة التجديد متعثرة.

وأما المحنة مع العصر، فهي أكثر شدة وفداحة نتيجة المسافة البعيدة التي باتت تفصلنا عن العصر، ونتيجة التطور السريع والتراكم المذهل في المعرفة الإنسانية.

ومع كل هذا التطور والتقدم، مازالت إمكانية النفوذ إلى العصر مفتوحة ومتاحة لجميع المنظومات الثقافية، بما فيها المنظومة الثقافية الإسلامية، لكنها ليست إمكانية سهلة ويسيرة، لأن النفوذ إلى العصر، بحاجة إلى الارتقاء بمستوى العصر وشروطه التاريخية والحضارية، على طريقة ما حققته اليابان في مسيرتها الحضارية، حتى وصلت إلى وضع أصبحت فيه جزء من العصر، وفرضت مستوى من الوجود والحضور جعل منها شريكاً فاعلاً ومؤثراً في مسيرة التقدم الإنساني، بحيث لا يستطيع أحد مهما أوتي من قوة ونفوذ أن يغيبها، أو لا يتفاعل معها.

ومن جانب آخر، فإن محنة التراث لا تنفصل عن محنة العصر، فلولا محنة العصر لما التفتنا إلى عمق وشدة محنة التراث، المحنة التي تتسع وتزداد كلما اقتربنا من العصر وعلومه ومعارفه، وكلما نضجت وتطورت رؤيتنا في النظر إلى العصر، ومستويات التقدم التي وصل إليها.

ولهذا لا ينبغي أن نقدم علوم التراث على علوم العصر، ونعطي أفضلية علوم التراث على علوم العصر، فهذا لا يحقق تقدماً، ولا يبني مدنية، فالسعي لابد أن يكون باتجاه تقديم علوم العصر على علوم التراث، باعتبار أن علوم التراث هي علوم أمة قد خلت لها ما كسبت ولنا ما كسبنا، ولن نسأل عن علومها، وإنما نسأل عن علومنا، وعلومنا هي علوم عصرنا.

فحين توقف نصير الدين الطوسي أمام الحديث النبوي المعروف (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)، اعتبر أن المراد من العلم الذي طلبه فريضة، هو علم الحال، ويقصد به العلم المحتاج إليه في الحال الموصول إلى النفع في المآل، وكما يقال أفضل العلم علم الحال، وأفضل العمل حفظ المآل.

وعلوم العصر بالنسبة إلينا هي في منزلة علم الحال، لأن لا قوام لحياتنا واجتماعنا ومدنيتنا بدونها.

*باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة

رئيس تحرير مجلة الكلمة.

http://www.almilad.org

شبكة النبأ المعلوماتية- الجمعة 13 نيسان/2007 -22/ربيع الاول/1428