العودة للذات في رحاب الثقلين

بقلم: م.غريبي مراد عبد الملك(*)

 مدخل:

ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: « ذكر الموت يميت الشهوات في النفس، ويقطع منابت الغفلة، ويقوّي القلب بمواعد الله، ويرق الطبع، ويكسر أعلام الهوى، ويطفي نار الحرص ويحقر الدنيا »(1).

 في زمن الثورة المعلوماتية وحرب البيولوجيا والأنظمة النووية وفي ليل اللهوواللعب والمجون وفي سوق النخاسة الحديث وخمر الهوى الرهيب وجمال السياسة المخيف، أصبح الإنسان حبيس الهوس والخوف والقلق وكل أعراض النفس، حيث لا مجال للإستقرار ولا للراحة والسعادة الحقيقية، فالجميع قلق والكل متوتر من أقل الأمور وأتفهها... هكذا هذا الكائن العاقل المكرم من خالق الوجود، لايزال يبحث عن الحقيقة الأولى والأخيرة في هذا الكون الفسيح، سؤاله الملح لماذا وكيف؟ وفي عمق هذا الركام الهائل من أهوال الحياة الدنيوية يطل الموت على الإنسان ليفتح له بريق أمل ويعطيه بصيصا من النور وإذا بهذا المسكين يخلد للقلق والخوف ويعنت مع عقله ويفر من الحقيقة التي قربت منه، حيث حاله هذا سره الجهل المركب الذي ينتج الغفلة التي بدورها تشكل نظاما من الغباء الموجه.

هذا المخلوق المسكين المعطل لأعظم هبة مكنونة فيه وهو الصدفة الخازنة للؤلؤة الحق والعدل والحياة الكريمة، يعيش في غربة ليس بعدها غربة، همه من الصباح لليل نفسه التي يحسب أنه يشقى ليسعدها بينما هويدمرها في اللحظة ألف مرة، لأنه اعتقها من حبل المودة المكنون فيه، فضاقت بعد أن هربت من عاشقها الأصيل، وترهلت من غربة الفراق وساخت في تضاريس الشيطان فنست عنوان الحبيب وانحدرت في وادي العدى،فإذا بنار الشوق تناديها بين أحجار الظلام وعناقيد الغضب وأشواك الفجور: إلى أين تذهبين أيتها الذكية الغبية ؟

إنها قصة العودة للذات بعد طول هجرة ونسيان وغفلة وبهتان، لا يستشعرها غبي إلا ملكته نسائم الذكاء، بابها اسمه التفكر وبهوها العتاب والندم (عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: « إنّ الرجل ليكون بينه وبين الجنّة أكثر ممّا بين الثرى والعرش لكثرة ذنوبه، فما هوإلاّ أن يبكي من خشية الله عزّوجلّ ندماً عليها، حتى يصير بينه وبينها أقرب من جفنته إلى مقلته »(2) ) ونورها التوبة( ففي الأثر الإمامي العظيم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال:« لا تيأس لذنبك وباب التوبة مفتوح »(3) )  ودفؤها الإيمان الحق على هدى الإسلام الأصيل...

كانت رحلة إنسانية مقتضبة كتبتها في حال ليس للتصوف فيها حضور ولا للتسلف معها حظ إنها في رحاب الثقلين، حيث للروح والكون معنى يغني إنسانية الواحد منا غنى ليس ماديا ولكنه نفسيا مطلقا في تراجم التاريخ الإنساني، ثم يطل الغيب لينتشل الأذكياء (ذكاء الروح) من براثين الغباء المادي …

إنها كلمات مادية تبعث روحا في الفضاء الإنساني ليست لأجل المصالح الضيقة الحرجة ولكنها من أجل نيل وسام القلب السليم من أوجاع التيه والضلال، القلب المتسع للخير والهدى والجد والإحسان...

أرجوكم اقرؤوها كأنها بيان إنساني من منظور إسلامي عرض للشورى بين أنفس عائدة من حرب في جنة السراب الشيطاني... عفوا ما بين السطور ميلاد صفاء من رحم الحزن الذكي، وليس الصفاء الوضوح فقط ولكنه الجمال الآخذ في الإشعاع المكتسح لظلام الغربة الرهيبة والناصح الرفيق بالغبي الظالم لنفسه والناس...وسنبقى نتفكر في كل خلجة أوهمسة أولحظة في آية من آيات الوجود: "ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد"(آل عمران/182) صدق الله العلي العظيم، ونبقى في رحاب الولاية نستمد منها الثبات على اليقين ونكتشف حكمة القرآن، فمن روائع أمير المؤمنين  عليه السلام أنه (عليه السلام) سمع رجلاً يقول: استغفر الله، فقال:« ثكلتك اُمّك أوتدري ما حدّ الاستغفار ؟ الاستغفار درجة العلّيين، وهواسم واقع على ستّة معان:

أولها: الندم على ما مضى.

والثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً.

والثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله عزّ وجلّ أملس ليس عليك تبعة.

والرابع: أن تعمد إلى كل فريضة ضيّعتها فتؤدي حقّها.

والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت والمعاصي فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد.

والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية.

فعند ذلك تقول: أستغفر الله »(2).

الهوامش:

(1) المحجة البيضاء / الفيض الكاشاني: 8 / 242

(2). عيون أخبار الرضا عليه السلام / الشيخ الصدوق: 2 / 3.

(3) تحف العقول / الحرّاني: ص 149

(4) إرشاد القلوب: ص 47

(*)كاتب وباحث إسلامي جزائري

شبكة النبأ المعلوماتية-الجمعة 6 نيسان/2007 -15/ربيع الاول/1428