قيم الاجتهاد سند مناهج التعليم الديني

كريم المحروس

  اعتنى مصلحو مناهج الدراسات الدينية بين القرنين الثامن عشر والعشرين الميلاديين كثيرا بمبدأ الاجتهاد في الدين ومسيرته ومفاهيمه وانعكاساته وتطوره وما خلفه من آثار علمية واجتماعية على الصعيدين: الإيجابي، وما له من دور في نمو حركة المدارس الفقهية ومناهجها الدينية، وعلى الصعيد السلبي وما طبعه من صور باهتة سُخرت في خدمة أغراض سياسية أو شخصية خاصة بعيدة كل البعد عن الشأن العلمي وذلك عقب الانقطاع المباشر لهذه المدارس عن عهد التشريع مباشرة.

وقد أولى المصلحون المخلصون اهتماما فائقا لدور المدارس الدينية المختلفة التي تبنت عملية الاجتهاد وساندتها. إلى جانب ذلك عارضت قوى المصالح الذاتية هذه العملية وحاربتها وتمسكت بحرفية النص ووقفت ندا لحركة الاجتهاد.

وكان من بين مبادئ المصلحين المهمة تأصيل مسيرة الإصلاح وإسناد مشروعيتها على ركائز وقواعد متينة على طريق إخراج عملية الإصلاح والتطوير والتحديث على أحسنها إلى جانب اعتمادهم الكلي على الموروث المؤكد على دعم مشروعية التجديد إزاء مناهج الدراسات الدينية التي بدت في بعض جوانبها جامدة بعيدة عن المنهجية في الأساليب والمضامين والمفاهيم وما تركته من انعكاسات على ذات المؤسسة التعليمية الدينية وأهدافها وقاعدتها الاجتماعية العريضة.

من هنا كان مفهوم الاجتهاد ومهماته وما تمخض عنهما من شد وجذب حسن خلال هذه المسيرة مبعثا هاما على جدية إعادة النظر في بعض ما ورد من مواقف صنعتها جهات الجمود على شروح وتعليقات النص، وكان الاجتهاد حاضرا أيضا في مراحل إثراء العلوم الدينية وتنمية المؤسسات التعليمية الدينية بأشكالها المختلفة برغم تميزها ببطء في الحركة والقصور في بعض أطرافها.

ولم تكن كل تلك الجهات المتبنية لمهمة الاجتهاد ووظائف التجديد منزهة عن الزلل والقصور والخطأ أو الميل لدوافع ذاتية أنانية، أو معصومة عن الكبوات. وكان للظروف الموضوعية أيضا دور كبير في انحراف مسيرة حركة الاجتهاد ووظائفها في مراحل تاريخية مختلفة فضلا عن خروجها على مراميها الشريفة في كثير من الأحوال، كما هو الحال بالنسبة لحركة السيد احمد خان في الهند الذي أقام مدرسة دينية غريبة الأطوار والمناهج لم يتردد المصلح الكبير السيد جمال الأفغاني في اتهامها بـ"الإلحاد"1. من هنا كان بروز مدارس اجتهادية متباينة الآراء ومتضاربة المواقف في أحيان كثيرة يبدو في شكل مواز لبروز حركات أخرى معارضة لأي لون من ألوان الاجتهاد.

منتهى الجدل السلفي

إن حركة الإصلاح والتجديد تبدو طارئة ومعقدة بين أروقة المؤسسة التعليمية الدينية، وبمقدار ما ساهمت في تبادل الدعم والإسناد مع حركة الاجتهاد وتطورها بشكل غير مباشر؛ ساهمت أيضا من جهة أخرى - ومن خلال تدخل مباشر أو غير مباشر من قبل الأنظمة السياسية الحاكمة خلال مسيرة عدد من الدول المتعاقبة على سدة الخلافة - في تحولات خطيرة بين جهات التمسك بحرفية النص التي كانت تشكل زعامة الاتجاه العام الغالب في الأمة، ما أدى إلى زيادة في التخلف والتراجع والتقهقر في مختلف شؤون الحياة العلمية والاجتماعية إلى جانب تقدم بدا واضحا في درجة الولاء السياسي للسلطة والبيعة لأسباب أمنية واقتصادية غالبة.

وانعكست هذه الأدوار أيضا على مسيرة النهضة التعليمية الإصلاحية نفسها إيجابيا، في ناحية تحديها وإصرارها على تحقيق الفوز والانتشار، وسلبيا، في ناحية تشدد موقف زعامة حركة الجمود على النص ضد أية محاولة إصلاحية هادفة – حسب تصورها- المساس بالنص تحت مسمى الإصلاح ومفاهيمه ومقاصده السياسية. وهو الأمر الذي جعل جهود الإصلاح بطيئة في حركتها وتطورها وساهم في استنزاف الكثير من طاقاتها وقدراتها.

ولم تكن جهود الإصلاح المتمثلة في عصرنا الراهن بدعا في الدور والمسؤولة الإصلاحية. فقد تميزت بالجمع بين مسيرتين شرعيتين: مسيرة التبني لمصادر التشريع التي حثت على الاجتهاد ودوافعه الإنسانية والثقافية والدينية وأخذت بالمتغيرات البشرية وعالجتها، إلى جانب تبني سيرة الاجتهاد ومعطياتها وسيرة المجتهدين الذين لعبوا دورا مهما عقب أخذهم مبدأ الاجتهاد منطلقا أساسيا. وكان من نتائج ذلك: إثراء العلوم الدينية، وإدخال المؤسسة التعليمية في مراحل انتقالية همها الأول تنمية التراث العلمي الضخم والمحافظة على حيوية النص ودعم ظاهرة انسجام حركة تطور العصر مع مضامين هذا التراث ودلالاته.

إن هذا الجمع بين هاتين المسيرتين أضاف الكثير من المحفزات عند رموز الإصلاح، بينما سلك معارضوهم طريق التمسك بقوة التقاليد التعليمية القديمة والدفاع المستميت دون عطاء السلف وما توصل إليه من سقف لا يمكن – حسب ظنهم- تجاوزه أو توظيفه لمتطلبات إنسانية حديثة مع قرب عهد هذا العطاء من مرحلة التشريع، ما أوحى إلى أن مفاهيم هؤلاء المعارضين كانت متقمصة لدور الدفاع دون قداسة التراث العلمي وتصويبه بالمطلق، الأمر الذي كان بالنسبة لهم مدعاة لتجنب الانخراط في التحولات الكبيرة نحو مبدأ الاجتهاد وتفضيل خيار مبدأ التقليد والتمسك بالنص وترجيح ظاهره أمام القائلين بمبدأ الاجتهاد والانغلاق عليه.

 ويؤكد أتباع السلف أيضا على أن الإصلاح ومهمات الخروج على ما هو متعارف عليه بين أيدي السلف قد يحفز على تمرد الأمة أو خروجها على مصادر التشريع ويجرئ على خرق الكثير من أحكامها وقيمها وتراثها ورموزها، فضلا عن احتمال حصول انتكاسة قد تمس النظرة القدسية للوليد الجديد (الاجتهاد) خلال مراحل تاريخية متقدمة فيما إذا لم يوفق المجتهدون في المتبنى الجديد، ما يسقط – حسب اعتقاد حركة التقليد والانغلاق على النص – سِيَرْ ومراحل تاريخية متقدمة يُظن أنها كانت مزدهرة على أرضية علمية خصبة، وقيام تحول غير مشروع عن الشريعة الغراء وعن ذات المفهوم المستجد للاجتهاد.

 وفي ذلك، انتهى الجدل والنزاع بين رموز الاجتهاد ورموز التقليد والجمود على النص إلى فوز ساحق لحركة الاجتهاد عند الشيعة الإمامية بعد مخاض عسير بينها وحركة المحدثين "الإخبارية" التي جمدت على الاحتياط ورفضت "الاجتهاد" في شك منها بأنه وليد اتجاه "الرأي" المعتمد لدى اتجاه الخلافة، ما أدى إلى تحول كبير في كل ما تقدم من موروث علمي، كما أدى إلى تطور في مؤسسة التعليم الديني التي بدأت تخرج على بعض تقاليدها وتعاليمها ومفاهيمها في معالجة النص وسجلت في ذلك مساهمات كبيرة كان لها شأن في تعظيم فرص الإصلاح وتهيئة سبل النجاح للوصول إلى ما كانت تصبو إليه من تحريك وتطوير وحداثة في دعائم المسار التاريخي للأمة، الأمر الذي قربها من وظيفة تزعم الأمة نحو نهضتها في العصر الحديث.

  وإزاء ذلك، نجحت في الجهة الأخرى حركة التقليد والجمود بعد غلق باب الاجتهاد على المذاهب الأربعة عند اتجاه الخلافة، حيث قادها تلامذة أصحاب هذه المذاهب، وأعانهم على ذلك متبنيات الدول المتعاقبة لفقه وعقائد هذه المذاهب وفقا لما أملته مصالحهم السياسية والاجتماعية، الأمر الذي جعل رواد هذه الاتجاهات ينغمسون في صراع مرير فيما بينهم، وينحدرون عن مسيرة متأخرة جدا على المسيرة العلمية الحديثة، فجروا معهم العالم الإسلامي من ورائهم وقادوه إلى انحطاط وتخلف وتزمت وتصوف بائس برغم الحرج الكبير المتكرر عند بعض رموزهم الإصلاحية ونداءاتهم العاجلة في ضرورة فك الارتباط مع النظام السياسي وفتح باب الاجتهاد أسوة بمنهج اتجاه التشيع".. فها نحن نقف بين طائفتين من المسلمين، وكل واحدة تخالف الأخرى فيما تذهب إليه من حيث الاجتهاد والتقليد، وان النزاع لا يزال يشتد، كلما اتسع الفكر وانتشر العلم ورفعت القيود.وكانت كفة القائلين بالجواز أرجح"2.

من هنا أتت أهمية الرجوع إلى حقيقة الاجتهاد، ومفاهيمه، ومسيرته التاريخية، وانعكاساته على فكر ورؤى رموز الإصلاح التي نبذت مشروع الانقلاب ذي المفهوم المشكك والقائم على إرادة إخضاع الحاكم للمصالح أو المقاصد بدعوى تبني الإصلاح والتجديد كما في بعض الإجتهادات الفقهية عند اتجاه الخلافة، فذلك مما أخرج الأمة ومؤسساتها التعليمية عن حال تطورها الحضاري في إطار النص والأدلة التفصيلية واتجه بها إلى حال التطرف وفتاوى الإرهاب بلا أية قيمة علمية أو أخلاقية جادة، والحال إن " ثمة معايير داخلية (من النصوص تعتمد تراتبية القيم)، وثمة معايير خارجية (لكشف الموضوع الخارجي وكم المصالح الخارجية).

ففي سيرة أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) نموذج معصوم لعلاج تعارض القيم والمصالح.  فلم يقدم الإمام (عليه السلام) الأمن على العدل بمصادرة الحريات، ولم يسقط الحقوق للمعارضين. ومن النماذج: معركة الجمل حينما انتصر على الفريق الآخر حرم على جيشه الاستيلاء على أموال المهزومين.  فقد قال الإمام (عليه السلام):"..  ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، وألاّ يؤخذ شيء من أموال أصحاب الجمل، إلاّ ما وجد في عسكرهم من سلاح أو غيره..".. فينبغي استبدال تعبير (المقاصد) بـ (المصالح). فالأمن والعدل والحرية وما إلى ذلك هي مصالح. وعليه ندرك أن المصالح في تطبيقاتها نسبية، نعم المصلحة العليا نظريا مطلقة، لكن مصاديقها متفاوتة. فالعدل وهو قيمة مطلقة ذاتا بحسب النظر الفلسفي للتقبيح والتحسين العقليين، إلا أنه في الخارج ليس بصورة واحدة، ومع ملاحظة أن قوام العدل في الحياة الاجتماعية هو الجمع بين الحقوق لتنافرها بالتعارض خارجا لإتاحة الفرصة لاستيفاء كل ذي حق حقه، وبعبارة أدق استيفاء أكبر حصة من حقه الأولي لولا تزاحم حقه مع حقوق الآخرين.  ندرك بوضوح أن العدل في الحياة الإنسانية مسألة نسبية"3.

حداثة ومغالطات تقليدية

هناك مغالطة وردت في معنى الاجتهاد أثيرت في بعض مؤلفات الحداثة في الفكر المعاصر سعت إلى جعل فكرة الإصلاح وما تحمله من معاني شمولية بديلا عن معنى الاجتهاد أو مرادفا له في الفكر الإسلامي، بينما يعد الإصلاح في حقيقته أمرا جزئيا في الاجتهاد. وهذه مما يجب أن تستعرض في محافل المعرفة حتى يميز المراد من الاجتهاد في الفكر الإسلامي.

وقد اقتبس معنى الاجتهاد من المجهود المبذول واستفراغ ما بالوسع في فعل من الأفعال، على أن يكون في هذا البذل كلفة. فلا يقال مثلا لمن حمل وزنا خفيفا كوزن حبة رز مجتهدا، لكنه حين يبذل طاقته بوسعها في حمل ثقل كبير من الأثقال، يقال له مجتهدا.

هذا مجمل ما أفادته معاني الاجتهاد التي وردت في الكثير من كتب معاني الألفاظ. وقد اختص هذا اللفظ في عهد التشريع وفي عهد التعامل المباشر مع النصوص في وصف المتعبدين الذين يستفرغون جل ما في وسعهم في التقرب إلى الله تعالى. وهناك إشارات واضحة في النصوص الدينية في هذين العهدين إلى هذا المعنى، وكان الفقيه المجتهد بعد عهد التشريع يوصف بـ"الفقاهة" فيقال: هذا فقيه. لكن لفظ "المجتهد" أختص بعد ذلك في عرف العلماء وتقاليد المؤسسة التعليمية الدينية بجهد الفقيه المبذول على طريق العلم بحكم من الأحكام الشرعية بعد استفراغ الجهد في عملية استنباط معقدة من النصوص الدينية، إضافة إلى وصول الفقيه المجتهد في حركته النشطة هذه إلى كشف الأصول والقواعد الفقهية، ومن ثم إخراج الأحكام إلى الواقع الخارجي ومتعلقاته بشكل يظل متجددا من فقيه إلى آخر ومن زمن إلى آخر مع اختلاف في التطابق تبعا لاختلاف الحوادث الواقعة وموضوع كل قضية.

ويعّرف ابن الأثير في كتابه"نهاية اللغة" في مادة جهد، الاجتهاد، بالقول: "الاجتهاد بذل الجهد في طلب الأمر، وهو افتعال من الجهد الطاقة".  وفي هذا المعنى – على حد قول ابن الأثير - استعمل على عهد الرسول وأصحابه إلى آخر القرن الأول.  فقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أما السجود فاجتهدوا في الدعاء  فقد من أن يستجاب لكم). (صلوا علي واجتهدوا في الدعاء). (فضل العالم على المجتهد مائة درجة).

نعرف من هذه الموارد والكثرة الكاثرة من نظائرها، انه كان من المتبادر من الاجتهاد في القرن الأول، هو بذل الجهد.  ثم تطور مدلول الاجتهاد لدى المسلمين، وأصبح يدل في اصطلاحهم على استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية.

 قال الغزالي في تعريف الاجتهاد "هو عبارة عن بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال، ولا يستعمل إلا في ما فيه كلفة وجهد... ولكن صار اللفظ في عرف العلماء مخصوصا ببذل المجتهد ووسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة.

وقال الدهلوي في حقيقة الاجتهاد، هو:"استفراغ الجهد في إدراك الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية الراجعة كلياتها إلى أربعة أقسام: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.

ويعّرف ابن حزم الاجتهاد"استنفاد الطاقة في حكم النازلة حيث يوجد ذلك الحكم، لأن أحكام الشريعة كلها متيقن أن الله قد بينها بلا خلاف، وهي مضمونة الوجود لعامة العلماء، وان تعذر وجود بعضها على بعض الناس، فمحال ممتنع أن يتعذر وجوده على كلهم، لأن الله تعالى لا يكلفنا ما ليس في وسعنا، وما تعذر وجوده على الكل فلم يكلفنا الله تعالى إياه"4.

كان التعريف هذا مقيدا بأتباع اتجاه الخلافة ومقصورا عليهم. وقد شاع هذا الاصطلاح لدى رجال العلم في اتجاه التشيع بشكل مماثل تقريبا بعد القرن الخامس الهجري كما ورد في كتاب مبادئ الأصول للعلامة الحلي (ت:726هـ ) في الفصل الثاني عشر، البحث الأول في الاجتهاد ما ملخصه: "الاجتهاد": هو استفراغ الوسع في النظر فيما هو من المسائل الظنية الشرعية، على وجه لا زيادة فيه". وقال جمال الدين صاحب المعالم: الاجتهاد لغة:"تحمل الجهد... وأما في الاصطلاح: فهو استفراغ الفقيه وسعه في تحصيل الظن بحكم شرعي"5.

ويذهب المحقق الأخوند الشيخ كاظم الخراساني أحد كبار فقهاء ومجتهدي اتجاه التشيع في النجف الأشرف، في كتابه (كفاية الأصول) إلى ابعد من التعريف اللغوي والاصطلاحي للإجتهاد، إذ يبحر في مناقشة عدد من التعاريف ومكمن الخطأ فيها، وذلك بالقول: "الاجتهاد لغة: تحمل المشقة، واصطلاحا كما في قولي الحاجبي والعلامة الحلي: استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي، وعن غيرهما: ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأصل فعلا أو قوة قريبة"6.

وفي هذين التعريفين الواردين عن الحاجبي والعلامة الحلي وغيرهما يرى الشيخ الأخوند الخراساني أن في تعريفاتهم لاصطلاح الاجتهاد اختلاف، إذ أنهم أشاروا إليه بلفظ لا ينسجم مع المفهوم، أو أن المفهوم لا يدل على اللفظ المستعمل والمراد منه."فلا يخفى أن اختلاف عباراتهم في بيان معناه (الاجتهاد) اصطلاحا، ليس من جهة الإختلاف في حقيقته وماهيته، لوضوح أنهم ليسوا في مقام بيان حده أو رسمه، بل إنما كانوا في مقام شرح اسمه والإشارة إليه بلفظ آخر وإن لم يكن مساويا له بحسب مفهومه، كاللغوي في بيان معاني الألفاظ بتبديل لفظ بلفظ آخر، ولو كان أخص منه مفهوما أو أعم... ومن هنا القدح أنه لا وقع للإيراد على تعريفاتهم بعدم الإنعكاس أو الإطراد...، ضرورة عدم الإحاطة بها بكنهها أو بخواصها الموجبة لامتيازها عما عداها، لغير علام الغيوب.وكيف كان، فالأولى تبديل الظن بالحكم بالحجة عليه، فإن المناط فيه هو تحصيلها قوة أو فعلا لا الظن حتى عند العامة القائلين بحجيته مطلقا، أو بعض الخاصة القائلين بها عند انسداد باب العلم بالأحكام، فإنه مطلقا عندهم، أو عند الانسداد عنده من أفراد الحجة، ولذا لا شبهة في كون استفراغ الوسع في تحصيل غيره من أفرادها من العلم بالحكم أو غيره مما اعتبر من الطرق التعبدية غير المفيدة للظن ولو نوعا – اجتهادا أيضا.  ومنه قد أنقدح انه لا وجه لتأبي الأخباري عن الاجتهاد بهذا المعنى، فإنه لا محيص عنه كما لا يخفى، غاية الأمر له أن يتنازع في حجية بعض ما يقول الأصولي باعتباره ويمنع عنها، وهو غير ضائر بالاتفاق على صحة الاجتهاد بذاك المعنى، ضرورة انه ربما يقع بين الإخباريين، كما وقع بينهم وبين الأصوليين"7.

ويؤكد الشيخ الأخوند إلى حاجة الاجتهاد إلى التنوع في العلوم خصوصا علم الأصول ومبانيه الذي يعتبره الشيخ الخراساني عمدة وضرورة، كما يذكر أيضا إلى أن الحاجة إلى عملية الاجتهاد ليست بمستوى  واحد، وإنما تبعا لاختلاف الأزمان والأشخاص.

فالمجتهد اليوم هو أكثر العلماء حاجة إلى العلوم المختلفة، وتشتد حاجته إلى علم الأصول كلما ابتعد عن عهد التشريع الإسلامي" فلا يخفى احتياج الاجتهاد إلى معرفة العلوم العربية في الجملة ولو بأن يقدر على معرفة ما يبتنى عليه الاجتهاد في المسألة بالرجوع إلى ما دون فيه، ومعرفة التفسير كذلك. وعمدة ما يحتاج إليه علم الأصول. ضرورة أنه ما من مسألة إلا ويحتاج في استنباط حكمها إلى قاعدة أو قواعد برهن عليها في علم الأصول، أو برهن عليها مقدمة في نفس المسألة الفرعية، كما هو طريقة الإخباري، وتدوين تلك القواعد المحتاج إليها على حدة لا يوجب كونها بدعة، وعدم تدوينها في زمانهم (عليهم السلام) لا يوجب ذلك، وإلا كان تدوين الفقه والنحو والصرف بدعة.

وبالجملة لا محيص لأحد في استنباط الأحكام الفرعية من أدلتها إلا بالرجوع إلى ما بني عليه في المسائل الأصولية، وبدونه لا يكاد يتمكن من استنباط واجتهاد، مجتهدا كان أو إخباريا، نعم يختلف الاحتياج إليها بحسب اختلاف المسائل والأزمنة والأشخاص، ضرورة خفة مؤونة الاجتهاد في الصدر الأول، وعدم حاجته إلى كثير مما يحتاج إليه في الأزمنة اللاحقة، مما لا يكاد يحقق ويختار عادة إلا بالرجوع إلى ما دوّن فيه من الكتب الأصولية 8.

وبرغم الاختلافات في تعريف الاجتهاد بين فرق المسلمين والمتعددة إلا أن الأكثر أهمية أيضا ما كان يترتب على الأحكام الصادرة عن المجتهد. فقد اختلف في مطابقة حكم المجتهد لحكم الله سبحانه وتعالى في الواقعة الواحدة. إذ"اتفقت الكلمة على التخطئة في العقليات، واختلف في الشرعيات، فقال أصحابنا (والقول للشيخ الخراساني) بالتخطئة فيها أيضا، وان له تبارك وتعالى في كل مسألة حكم يؤدي إليه الاجتهاد تارة والى غيره أخرى. وقال مخالفونا بالتصويب، وان له تعالى أحكاما بعدد آراء المجتهدين، فما يؤدي إليه الاجتهاد هو حكمه تبارك وتعالى"9.

ويفسر السيد محمد تقي الحكيم خريج النجف الأشرف في كتابه"الفقه المقارن"، ما أشار إليه الأخوند من اختلاف في تعريفات الاجتهاد بين الفرق الإسلامية، وذلك بالإشارة إلى تقسيمي الاجتهاد إلى المعنى العام والمعنى الخاص، وفي ذلك يتفق مع الأخوند في مدى الاختلاف في تحديد معنى الاجتهاد. فالعالمان الأخوند والحكيم، كلاهما يمثلان بيئة علمية واحدة، موقعها النجف الأشرف. فيقول العلامة الحكيم:"أن الاجتهاد في الاصطلاح مختلف في تحديده. "والذي يبدو أن لهم فيه اصطلاحين مختلفين أحدهما أهم من الآخر.

الاجتهاد بمفهومه العام "قد اختلفت كلماتهم في تحديده اختلافا كبيرا، والذي عليه الآمدي والعلامة الحلي وابن الحاجب هو أخذ الظن في التعريف... فقد عرفه الآمدي بـ"استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد عليه".

وعرفه كل من العلامة الحلي وابن الحاجب بـ"استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي"10.

فهذه التعريفات في نظر السيد الحكيم، كما في نظر الأخوند الخراساني، لا ترقى إلى أن تكون شاملة في إظهار المعنى الحقيقي للاجتهاد، وتتسم بثغرات  تثير مجال الاعتراض والنقاش، فاقتصارها على ذكر الظن في نصوصها"يجعلها غير جامعة تارة وغير جامعة ولا مانعة أخرى، لأن الظن وان أريد منه خصوص ما قام على اعتباره دليل من شرع أو عقل، كانت التعاريف غير جامعة وذلك:لخروج العلم بالأحكام عنها لبداهة أنها ليست بظن. ولخروج ما لم يفد الظن مما قام عليه دليل بالخصوص.

وقد عرفه الخضيري بـ"بذل الفقيه وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة"وجرى على ذلك جملة من أعلام الأصوليين.

وما يرد على هذا النوع من التعاريف، أن العلم هنا إن كان قد أرادوا به الأعم من العلم الوجداني والتعبدي، وأرادوا بكلمة الحكم الشرعي الأعم من الواقعي والظاهري. كانت هذه التعاريف سليمة نسبيا لاندفاع المؤاخذات السابقة عنها. وهذه المؤاخذات واردة على جل الأصوليين، حتى المتأخرين منهم كالأستاذ مصطفى الزرقا، حيث عرفه بـ"عملية استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية في الشريعة"لبداهة خروج عمليات استنباط الوظائف من بعض الأصول – كالبراءة والاحتياط والتخيير – عن واقع التعريف، لأن نتائجها ليست أحكاما شرعية"11.

 وبعد دراسة مستفيضة لهذه التعريفات وما يرد عليها من إشكاليات قابلة للنقاش، يستعرض العلامة الحكيم تعريفه الخاص المنتزع مما تبنته مدرسة النجف الأصولية، وليتفادى من خلاله النواقص والإشكاليات على تلك التعريفات"فالأنسب - فيما نرى – ( والقول للحكيم ) أن يعرف بـ"ملكة تحصيل الحجج على الأحكام الشرعية أو الوظائف العملية، شرعية أو عقلية"12.

 وأما الاجتهاد بمفهومه الخاص عند اتجاه الخلافة: "فقد عرفه الأستاذ خلاف بـ"بذل الجهد للتوصل إلى الحكم في واقعة لا نص فيها بالتفكير واستخدام الوسائل التي هدى الشرع إليها للاستنباط بها فيما لا نص فيه، بينما رادف الشافعي بينه وبين القياس، فقال: إنهما"اسمان لمعنى واحد".  وفي رأي أبى بكر الرازي أن الاجتهاد يقع على ثلاث معاني: أحدهما القياس الشرعي. لأن العلة لما لم تكن موجبة للحكم لجواز وجودها خالية عنه لم يوجب العلم بالمطلوب، فذلك طريقة الاجتهاد. والثاني ما يغلب في الظن من غير علة، كالاجتهاد في الوقت والقبلة والتقويم.والثالث:الاستدلال بالأصول.

… والظاهر أن لفظة الاجتهاد – بمفهومها الخاص – مرادفة لديهم لمفهوم"الرأي"، والمعاني الأخرى من قبيل المصاديق لهذا المفهوم، وقد وقع الاشتباه نتيجة للاختلاط في استعماله بين المفهوم والمصداق"13.

وهناك من المحدثين من يطلق على لفظ"الاجتهاد"معنيين، المعنى الاسمي: "وهو وصف المجتهد.  ويعرف بأنه"ملكة يقتدر بها على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية"، والملكة الكيفية الراسخة في النفس.  وتحصل هذه الملكة بالممارسة وتوفر الشروط التي ينبغي أن تكون في المجتهد.  والمعنى الآخر هو، المعنى الأصولي: وهو وصف فعل المجتهد"14

ويبقى أن"الاجتهاد في عرف علماء مدرسة الخلفاء استنباط الأحكام عن طريق الكتاب والسنة والقياس. وفي عرف علماء مدرسة أهل البيت مساوق للفقه، وتتفق المدرستان في الأخذ بكل ما ورد في كتاب الله وكل ما ثبت لديهم من سنة الرســـول"15.

إن عملية الاجتهاد تظل فاعلة متصلة بالواقع وتتجدد مع تجدده طولا وعرضا.  تتجدد في دائرة معارف الفقيه ورؤيته الفلسفية للدين والحياة، وتنمو وفقا لتطور الحياة ووسائلها، وتتسع وفقا لتفاعل الفقيه المجتهد ذاته مع محيطه الاجتماعي في مختلف جوانبه، لأن مقاصد الفقه و الاجتهاد تجعل من المحيط الاجتماعي مادتها في الحركة والتطور والتراكم، كما تجعل من الحياة العلمية ومادتها ووسائلها ووسائطها معينا في كشف القواعد العامة وبلورتها بعد تراكم الأحكام وتعددها في مجالات التعرف على طبيعة القضايا المبتلى بها وتشخيص ظروفها ومعطياتها.

من هنا نجد أن هناك الكثير من الأحكام والرؤى والقواعد الفقهية الصادرة عن المجتهد هي محل اختلاف بين مذهب وآخر في المرحلة الزمنية الواحدة المختلفة، وبين فقيه وآخر في المذهب الواحد في بعض الأحيان. والأمر في نهاية المطاف يرجع إلى المجتهد ذاته وما تحصل من علوم ومستوى معرفي ديني ومدى تفاعله مع محيطه الاجتماعي والحضاري، وشدة تقواه والتزامه بتعاليم الدين والشروط الأخرى الواجب توفرها في الفقيه المجتهد، اضافة لرؤيته لمفهوم الاجتهاد وضرورات تسخيره لخدمة العلوم والمنهج والمؤسسة العلمية.

-----------

المصادر

1- علي الوردي. لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث. ص 290.

2 - أسد حيدر. الإمام الصادق والمذاهب الأربعة. ج2.

3- مجلة البصائر. ع2. 1984م. ص 53.

4- الموسوعة الفقهية  ص 5،  عن الأحكام لابن حزم.

5 - معالم المدرستين. السيد مرتضى العسكري. ص22-25-م2.

6 - كفاية الأصول. الأخوند الخراساني. ص 464-465.

7 - المصدر السابق   ص 464-465.

8- المصدر السابق. ص468.

9- المصدر السابق. ص 468.

10 - الأصول العامة للفقه المقارن. العلامة محمد تقي الحكيم. ص561-565.

11- نفس المصدر السابق. ص561-565.

 2- نفس المصدر السابق. ص561-565.

13 - نفس المصدر السابق. ص561-565.

14 - مقاصد الشريعة وأصول الفقه. د. عبد العزيز الخياط. ص 248.

15 - معالم المدرستين. مرتضى العسكري. م2. ص361.

شبكة النبأ المعلوماتية-الثلاثاء 9/كانون الثاني/2007 - 18 /ذي الحجة /1427