قراءة في سلبيات العقل القديم

الانتخابات والرأي العام بين النمذجة والتغيير

أمل فؤاد عبيد

بداية  نستطيع القول ان مسالة الرأي العام ظهرت نتيجة تحولات كثيرة وتغييرات في بنية الوعي الفردي والجماعي.. منذ ان بدا العقل يأخذ  منحى اخر تماما عما ذي قبل.. وذلك من جراء تطورات كثيرة علمية وثقافية وما يسمى عادة بالنهضة الثقافية او العلمية.. او عصر النهضة بشكل عام..

وقد كان لظهور مصطلح الرأي العام.. في بداياته الاولى اهمية كبيرة ذلك ان الكثير من الباحثين والدارسين حاولوا جاهدين ان يحددوا مدارات واشتغال الرأي العام ومناطق تأثيره على وجه الخصوص.. ودراسة مدى تأثره بما يصدر من قرارات من اصحاب صنع القرار..

ومع بداية حقبة الثلاثينيات  وحدوث الكساد العالمي.. وهذه الحقبة التي انتهت بحرب عالمية هو ما ادى لاهتمام اكبر بالرأي العام نظرا لان هذه الفترة تعتبر فترة تجريبية واسعة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. مع صعود هتلر للسلطة ومسيرة النازية والفاشية.. ناهيك عن حقبة الاربعينيات.. التي شهدت ايضا تحولات كثيرة سياسية واجتماعية.. ففي منتصفها قد تركز في الحرب العالمية الثانية الاهتمام  بمشاكل  اعادة التعمير والبناء والاهتمام بالرأي العام ودراسته..  سواء من النواحي النظرية او التطبيقية..

من ناحية اخرى نجد ان ارتباط السياسي بالدرجة الاولى بالرأي العام لهو من اصعب المسائل واكثرها خصوصية وحساسية ايضا.. وكان واجبا عليه ان يضع دوما في الاعتبار مسألة الرأي العام كهدف وغاية.. كما هو وسيلة لتأكيد وظيفته او التنحي عنها.. فكلما كان الرأي العام في رضا عما يقدمه السياسي من توصيات ضمن خريطته السياسية وتوجهه السياسي.. بما يتوافق مع اهداف الجماعة.. والذي يتم التأكيد على هذه الاهداف من خلال الرأي العام..

كان السياسي او رجل صنع القرار.. متوافقا مع ذاته واهدافه ومجتمعه ايضا.. وبالتالي كان متوافقا مع الرأي العام بكل يحتمله من شكليات ومضامين محددة.. وعندما يكون هناك فارقا في اللغة المتداولة بين رجل السياسة والرأي العام لابد ان يتم  ايجاد وسيلة علاج فعالة تسعى الى تأكيد التوافق  وتحقق الرضا..

 ياتي التغيير المطلوب على مستويات عدة  من اهمها  تغيير بنية الضمير الفردي والجماعي وتأسيسه على مفاهيم تؤكد على اهمية الدور الاجتماعي لكل فرد في مساعيه نحو التآخي والتعاون والامانة في  انجاز العمل. الى جانب تفعيل الدور الريادي لمؤسسات صنع القرار في تشكيل وعي سياسي قادر على تمثل القيم التاريخية الى جانب القيم المستقبلية.

ويأتي تغيير اساليب التعليم وتجديد طرق التدريس من اخطر التغييرات المطلوبة.. لكن هذا  التغيير لن يؤتي اكله بالطبع الا بعد فترة قد تصل الى عشرين عاما او تزيد.. حتى لو امكن التغلب على كل المشكلات الكبيرة، ولكن لو استمر خطؤنا في تقدير اهمية الامور التي تلاحقنا سلبياتها او ايجابياتها  فان السنوات المقدرة للتغيير قد تطول اكثر وقد لا تاتي ابدا.. الواضح اننا نحتاج الى  انواع اخرى من طرق التفكير ومعالجات جديدة لمشاكلنا  وخاصة تلك التي تكون في مواجهة مباشرة لصناع القرارات في مجتمعاتنا.. وتغيير شكل محتوى التعليم قد يكون خطوة هامة نحو التطور الواعي..

كيف نبدأ في تنفيذ  هذا ؟ يجب اولا ان نعرض قادة المجتمع لافكار ليست دارجة الان.. لابد ان يثار الجدل في المصالح الحكومية واجهزة الاعلام ودوائر المثقفين  وبين ذوي الفعالية بالمجتمع.. ونعني بهم من يمتلكون الثقافة والاهتمام بسبل التوعية.. على ان  يكون لهم من الادوار ما يكفي لتجديد الوعي بكافة مستوياته السياسية والاجتماعية والثقافية ايضا..  ومن ثم تلاشي صور التفكير التقليدي غير المؤهل للفاعلية المجتمعية في ثوبها الجديد. وهو ما سوف يعمل على تشكيل رأي عام يغلب عليه المنطق وتوفر العقلانية في اصدار الاحكام.. ذلك ان اراء الناس غير ثابتة  كما يظن في العادة.. إننا نعرف الكثير عن كيفية تغييرها في الواقع.. كما ان احتمالات تحول العقل القديم بفروضه القديمة الى العقل الجديد..  كبيرة جدا إذا ذاعت هذه المعرفة  وانتشرت..

اللا ان هناك كثير من المعيقات الذهنية التي تقف عائقا امام اي تغيير  ومن اهم تلك الصور الذهنية غير الكفؤ التحامل.. فهو من اهم ما يقف عائقا امام التغيير او التغير.. ويمكن حل هذه الاشكالية من خلال ثمة محاولة لترسيخ مبدا التعاون وتوظيف المنافسة في سبيل تعزيز الشعور بالتقدم وهناك ايضا التحيز  على مختلف صوره وانواعه  وهو يعني  الحكم المسبق انطلاقا من خلفية معينة ثابتة..

 و تنشأ التحيزات في الذهن من المثالات المصمتة التي تم تشكيلها عن العالم في الذهن للحكم السريع على الكثير من الاشياء والناس.. ثم التصرف بناءا على هذا الاحكام.. اي ان ردود الفعل قد تاخذ  مبررا لها لصدورها عن صور تم ترسيخها من قبل.. وهذا يعتبر اتجاها او نظاما ذهنيا في ادراك العالم الخارجي والاشياء  عن طريق ما نسميه العقل القديم..  الذي بطبيعته البسيطة كان ملائما للمجتمعات البسيطة او البدائية او غير العصرية.. ولكنه في عصر مثل عصرنا هذا قد يسبب الكثير نظام عقلي من هذا النوع في  تناوله  للامور.. حيث ان المشاكل تاتي عندما نحاول ان نمد هذا المثال او ذاك  ليشمل  مجالات او شرائح متنوعة.. مما يؤدي هذا الى تشكل مقولبات جامدة.. وهذا  هو التفسير  الذي يقدمه الكثير من علماء الاجتماع عند تفسيرهم لظاهرة التعصب او الاتجاهات المتشددة في التفكير..

وهناك ايضا من سلبيات العقل القديم استخدام صور وعمليات التبسيط للحكم على الاخرين الذي  يقود الى سوء تفهم دائم.. اعتمادا على ما تم ترسيخه من اسلوب للحكم يعتمد القولبة المسبقة.. وهو ما يؤدي في نهاية المطاف الى ظهور صور العنصرية..

هذا وهناك ايضا النمذجة  وقد طرح عليها مثال  عالم الاجتماع تشارلس موراي في احدى كتبه المثيرة للجدل وهو (التراجع)  الذي يعالج فيه نتائج برامج الخدمة الاجتماعية.. ومعنى النمذجة هي ان نتخذ من كثير من الشخصيات او النجاحات نموذج  ليتم  تعميمه فيما بعد وهذاسلوك قد يبدو ايجابيا لطرح مثال  ولكنه من ناحية اخرى قد يخل بطريق استيعاب العقل لكثير من الصور والنماذج الاخرى التي  لا تقل اهمية وقيمة ايضا..

من نقطة اخرى نستطيع التماس سلبية العقل القديم والذي مازال يفعل فعله.. هو ان جميع التهديدات التي تصادفنا في عالمنا قد تغيرت ولكنه في ذات الوقت لم يتغير العقل في النظر اليها او تتغير الاستجابة لها.. إن الافراد والمجتمعات ككل  هي بصفة  خاصة عرضة لكل من يمكنه استغلال هذا النمط العقلي وردود الفعل التابعة له  مما يؤدي الى سهولة الوقوع في براثن الارهاب و انتشار الاعمال الوحشية.. وصور كثيرة من سلبية العقل والحكم لتنتهي بانتخاب السياسيين غير الاكفاء..

بعد هذه المقدمة الضرورية نستطيع القول إن  قراءة العقل القديم وتحليله ومن ثم محاولة نقده نقدا موضوعيا.. بكل ما يحمل من سلبيات  لابد من تغييرها.. وايجابيات لابد من تأكيدها وتنميتها لهو اول طريق التغيير والتطور للافضل.. لابد من الوقوف امام هذا العقل وتدارك قصوره بطريقة لا تخل بطريقة استيعابه لمفاهيم العصر وطريقة  محاكاته  لها بما يساعد على التحكم في ردود الفعل المتوقعة وغير المتوقعة..

فبعد التحرر من اسلوب النمذجة الفكرية والقولبة الذهنية.. يمكننا تحديد اولويات الاختيار الحر على المستوى السياسي والاجتماعي بلا ادنى شروط واجبة سوى ان يكون هناك تداركا مهما لاسلوب الحياة المطلوب تحقيقها اجتماعيا.. واسلوب الافراد المنتخبين الواجب تمكينهم من السلطة..

من ناحية وأخرى ونحن نعاين  شروط اللحظة التاريخية في أي مجتمع.. ابتداءا من التصويت الحر.. والمشاركة المبدئية لتحديد  هيكلية السياسة الداخلية.. نبتدئ امكانات التغيير المطلوب قبلا.. حتى لا يكون هناك ما يقف حجر عثرة في طريق ديمقراطية  حقيقية نبتغيها بالفعل..

هذا التغيير  العملي والمطلوب حتميا.. لابد ان يسبقه فض النزاعات المحلية.. وايضا توحيد الكلمة.. مع افتراض الوعي المسبق بالحقوق والواجبات الالزامية.. المطلوبة.. ان كان على المستوى السياسي.. او المستوى المجتمعي.. لتحقيق معادلة.. اكثر قبولا واكثر شمولا.. واكثر تحققا  وعدلا..

شبكة النبأ المعلوماتية-الاثنين 26 شباط/2007 -9/صفر/1428