ثقافة الوحدة...متى ستحكم الواقع الإسلامي؟

بقلم: المهندس غريبي مراد عبد الملك(*)

 من الأوبئة التي اكتسحت مجتمعاتنا، حالات الصراع والخصام الداخلي والانحرافات الأخلاقية كالأحقاد بين الناس والعائلات وفي داخل  العائلة الواحدة وفي المساجد المفترض فيها التقوى والأخوة والتواصل والوحدة وفي الأماكن العامة حتى بدت  نوادي الاجتماع صورة من صور حلبات التصادم والتخاصم وتبادل السباب وما هنالك من أساليب وحشية لا تمت للإنسانية بصلة وبالإسلام بعلاقة،حيث يسعى بعض الأفراد في كل التجمعات من الأسرة حتى أكبر إدارة  لممارسة دور الوصاية على حياة الآخرين.

فما يراه هؤلاء هو الحق المطلق الذي لا يجوز لأحد الخروج عليه، وإلا استحق  اللعن والسباب والتكفير والتهميش والاتهام بالخيانة ثم النبذ والطرد، ناهيك عن المحاصرة والإلغاء، ويصبح مستهدفاً في وجوده المادي والمعنوي.

 نجد هذا واضحا  على صعيد الخلافات المذهبية، حيث تتبادل الأطراف مع بعضها تهم التكفير والتبديع والمروق من الدين ومن الجزب ومن العرق والأصل، ويجري التحريض على الكراهية في أوساط الأتباع، حيث  يصل الأمر إلى إباحة هدر الدماء وانتهاك الحقوق والأعراض.

ونجده أيضا على مستوى الخلافات داخل المذهب الديني الواحد، حين تتعدد المدارس، وتختلف الآراء في بعض التفاصيل العقدية والفقهية في إطار المذهب نفسه.

الواجب الالتفات إليه في هذا كله حين يتبنى الإنسان رأياً باعتباره حقاً وصوابا، ويرفض رأياً آخر باعتباره باطلاً وخطأً، فإنه غالباً ما يندفع للانتصار للرأي الذي يؤمن به ويسعى لنشره، كما يهتم بإضعاف جبهة الرأي الآخر، وخاصة على مستوى الرأي الديني والمعتقدات الفكرية.

وعلى حد قول عالم الدين السعودي الشيخ حسن الصفار في احد مقالاته:"من المشروع أن يجتهد الإنسان في خدمة متبنياته الفكرية، فذلك هو ما يخلق الحراك الفكري في المجتمع البشري، عبر حالة التنافس، واستثارة العقول، وكشف ثغرات الآراء، وإذا لم يهتم أصحاب الآراء بطرح أفكارهم والدفاع عنها تسود حالة الركود الفكري، والجمود المعرفي" وأيضا الجهل الثقافي وبالتالي تنقطع أواصر التواصل والتعارف بين الأطياف الاجتماعية التي تشترك في المصير الواحد والتاريخ الأوحد والدين الإسلامي الواحد.

لكن هناك نهجين في الانتصار للرأي احدهما سلبي والآخر إيجابي:

1-نهج العنف والقمع لأصحاب الرأي الآخر، بمحاصرتهم والتضييق عليهم، والتنكيل بهم، ليتراجعوا عن آرائهم، ولمنع انتشارها في المجتمع وهذا سلبي ومدمر للبنية الاجتماعية وللاستقرار السياسي.

2-أما الإيجابي فيتمثل في نهج المواجهة الفكرية. بالاجتهاد في تبيين الرأي وإثبات صحته وأحقيته بالدليل العلمي والبرهان المنطقي، ونقد الرأي الآخر بكشف نقاط ضعفه، ومكامن الخطأ فيه، وإبطال حججه ومستنداته.

ويستدل أيضا الشيخ الصفار في أحد مقالته الأسبوعية من التاريخ الإسلامي ليثير العقل الإيماني للساسة وعلماء الدين في الزمن الإسلامي الراهن إلى توخي الورع والتقوى في إصدار الأحكام ومعالجة الأمور حيث يقول:

"من المؤسف أن كثيرين من الحكام في تاريخ الأمة الإسلامية قد سلكوا نهج العنف، ليس فقط ضد أصحاب الرأي السياسي المعارض، وإنما ضد الآراء الدينية والفكرية، تارة بعنوان الحرب على الزندقة والإلحاد، وأخرى بعنوان التصدي للبدع والأفكار المنحرفة في الساحة الدينية.

فلقد رفع الخليفة المهدي العباسي، والذي حكم الأمة من سنة 158 حتى مات سنة 169هـ، شعار محاربة الزنادقة، حيث بدأت تنتشر بعض أفكار التشكيك في الدين، وبدلاً من مواجهتها بالعلم والمنطق، شهر الحاكم في وجوههم السيف، وكان هناك تسرع كثير في إراقة الدماء واستخدام العنف.

حيث أورد الشيخ محمد الخضري بك في كتابه  تاريخ الدولة العباسية:

وكان المهدي مغرى بالزنادقة الذين يرفع إليه أمرهم، فكان دائماً يعاقبهم بالقتل، ولذلك كانت هذه التهمة في زمنه وسيلة إلى تشفي من يحب أن يتشفى من عدوأوخصم..

كان كاتب الدنيا وأوحد الناس حذقاً وعلماً وخبرة الوزير أبوعبيد الله معاوية بن يسار مولى الأشعريين، وكان متقدماً في صناعته، وله ترتيبات في الدولة، وصنف كتاباً في الخراج وهوأول من صنف فيه..

حصل حقد عليه من الربيع الحاجب، فوشى عليه عند المهدي بأن ابنه محمداً متهم في دينه، فأمر المهدي بإحضاره (الولد) وقال: يا محمد اقرأ فذهب ليقرأ فاستعجم عليه القرآن، فقال المهدي لأبيه الوزير أبي عبيد الله معاوية بن يسار: يا معاوية ألم تخبرني أن ابنك جامع للقرآن؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين، ولكنه فارقني منذ سنين وفي هذه المدة نسى القرآن. فقال المهدي: قم فتقرب إلى الله بدمه. فذهب ليقوم فوقع.

فقال العباس بن محمد: يا أمير المؤمنين إن شئت أن تعفي الشيخ، ففعل، وأمر المهدي بابنه فضرب عنقه.

هكذا يكون مجرد الاتهام في الدين، والارتباك في قراءة القرآن مبرراً لقتل هذا الإنسان، وأن يُطلب من أبيه مباشرة عملية القتل!!".

 نفس المشهد أصبحنا نعيشه في واقعنا الإسلامي حيث يسعى أهل النفاق وعمى البصيرة في الدين إلى اتهام الأشخاص الذين يختلفون معهم لدى الحكام والعلماء،  بتهم واهية باطلة من الأساس لكن للأسف هذه الوشايات والتهم تجد مؤسسات وأنظمة قمعية واستبدادية لصبغها بصبغة الحقيقة للنيل من هؤولاء الأبرياء، معتمدين على شعار"الحفاظ على النظام واستئصال المعارضة"، ونفس الأمر نشهده في التعامل مع  دول الممانعة والمقاومة التي تسمى تارة  بمحور الشر وتارة أخرى بالإرهاب الدولي...

عودا للبدء وبكلمة، إن اعتقاد كل طرف صوابية رأيه وخطأ الرأي الآخر أمر مقبول، بناء على مشروعية حق الاجتهاد، لكن إنكار حق الطرف الآخر في الاجتهاد وإبداء الرأي، والتعبئة ضده بالتشكيك في دينه واتهام نواياه، هومنزلق خطير يؤدي إلى تمزيق الساحة الإسلامية، وتشويه سمعتها، ودفع أبنائها إلى الصراع والاحتراب، كما هوحاصل بالفعل في العديد من المجتمعات الإسلامية كالعراق والباكستان ومؤخرا بين الفصائل الفلسطينية.

إن التعبير عن الرأي الاجتهادي عقدياً وفقهياً وفكريا ضمن الضوابط المقررة أمر مشروع، وحق مكفول للجميع، ولا يصح أن تحتكره جهة وتصادره من الآخرين، لأن احتكاره هو عين الإرهاب الفكري، وإغلاق فعلي لباب الاجتهاد وانتزاع فاضح للحريات العامة، وحرمان للساحة العلمية من الثراء المعرفي.أما الحذر من وجود آراء خاطئة، وطروحات منحرفة، تخالف المعتقدات السائدة، والاتجاهات الفقهية المشهورة والأفكار العقلائية التجديدية، فهذا لا يقف أمامه القمع والتهريج، وإنما المواجهة العلمية الفكرية، التي تثبت ضعف الرأي الآخر وخطأه، ومكامن الانحراف والثغرات فيه، وتظهر صحة الرأي المتين وأصالته، وتعالج الإشكالات المثارة حوله، لأن الحقيقة بنت الحوار العلمي البناء والرصين والمرتكز على الأخلاق الفاضلة والتقوى الرسالية والرحابة الإسلامية والمنطق الدقيق.

بينما أساليب القمع والإرهاب الفكري لا تستطيع أن توقف زحف الرأي الآخر،بل قد تخدمه بإثارة الاهتمام به، وتكتل أتباعه للدفاع عنه، ولتعاطف الكثيرين مع ظلامتهم بسبب ما يستهدفهم من قمع وتشويه. وخاصة في هذا العصر الذي سادت فيه شعارات الحرية والانفتاح، وتطلعات التغيير والتجديد.

أما عن الجدير بالتفقه والوعي أن تمزيق صفوف المؤمنين وتحويل ساحتهم إلى خنادق للصراع والاحتراب، ودفعهم إلى انتهاك حرمات بعضهم بعضا، وإسقاط كل طرف وتشويهه لرموز وشخصيات الطرف الآخر، جريمة أكبر وخطر أعظم من وجود رأي في قضية جزئية نعتبره خاطئاً باطلاً.ثم إن تعاليم الإسلام وأخلاقياته، لا تقبل مثل هذه المناهج ولا ترضى بها جملة وتفصيلا.

وفي ظل هذا الضباب الفكري الشامل للعقل الجمعي الإسلامي، تطفوعلى السطح عدة أسئلة معرفية حساسة أمام الفكر الديني، دون نسيان  الطوفان الثقافي العالمي الجارف الذي يقتحم واقعنا في أدق خصوصياته، ويستقطب بوسائله الإعلامية والمعلوماتية المتطورة اهتمامات أبنائنا وبناتنا ويوجهها ويخطط لها كما يشاء، هناك حاجة ماسة لتفعيل العطاء الفكري والثقافي من قبل الحكام وعلماء الدين. لأن تطور الحياة وتقدم مستوى العلم والمعرفة يستوجب تطوير استراتيجيات الطرح الاجتماعي والديني، وتجديد خطط التثقيف والتوجيه.

وإن من التحديات الكبرى أمام الساحة الجزائرية أن تخلق جوا ثقافيا يغني الوعي الاجتماعي بثقافة الوحدة ويستلهم حقيقة مفهوم الاختلاف ويخلق لدى الإنسان الجزائري  قدرة على تحمل الآخر الجواني ومواكبة التغيرات والتعامل بحكمة مع التحديات، وذلك لا يتحقق إلا بتوجيه الاهتمام بالتنمية الثقافية التي تؤصل الحريات وتعقلن الاختلافات وتحفظ الاجتماع، مع تضافر الجهود نحوالأهداف المشتركة، أما الانشغال بالخلافات الجانبية والقضايا الجزئية، فإنه يشكل هروباً من المعركة الأساسية، ويضعف كل القوى الوطنية. فمثلا الرؤية للتشيع كخط إسلامي يقابل التسنن تختلف من حيث المناقشة حيث نجد منظورين يجب التركيز عليهما في مباحثة هذه الضجة المفتعلة :

1-     المنظور الفقهي الذي يمكن أن يسهم في تركيز النظرية التشريعية الإسلامية عامة إذا ما توصلنا لبناء نظرية معرفية متكاملة حول الفقه المقارن تسهم في استنطاق القوانين الإسلامية العامة أولا ثم أبعاده التفصيلية ثانيا.

2-     المنظور الفكري وهذا هوالمسهل الأساسي القادر على أنسنة العلاقة بين التشيع والتسنن إذا ما التزم أهل الفكر الإسلامي بالرحابة الإسلامية التي تغني العقل الإيماني وتخمد العنفوان المذهبي الذي يجعل من المذهب هوالدين ليس من منطلق إنساني ولكن من مدخل طائفي تعصبي.

والعجيب الغريب  أن نظرة الأغلب الأعم من أتباع المدرستين( السنة والشيعة) لبعضهما البعض لا تستند في مجمل تأسيساتها لتأصيل إسلامي بل ترتكز لثقافة العوام وللجزيئات التي تجعلها حاكمة على الكليات الجامعة بحيث تلغيها وتقلل من شأنها، بالإضافة إلى مسألة الاستغراق في التاريخ بدلا عن القراءة العلمية الرصينة له والتي تساعد في خلاص الحاضر من محنة التخلف الحضاري، ثم لا ننسى أن الدور الأبرز والأدق في هذا كله هولعلماء الدين أولا وللساسة والمفكرين الإسلاميين، والمجال المؤثر في استدراك الحالة الإسلامية هوالإعلام  بكل أشكاله، نظرا لتأثيراته العميقة والخطيرة في نفس الوقت على الرأي العام والصحة الاجتماعية للأمة الإسلامية، دون أن ننسى تلك الإسقاطات الفتنوية التي روج لها مؤخرا العديد ممن ينسبون أنفسهم للثقافة العربية الإسلامية بينما واقعهم يوحي بانتماءات بوليتيكوثقافية دفعتهم لمحاولة استبدال العدوفي اللاوعي الجماهيري الإسلامي، ومحاولة شخصنة الأطراف المتنازعة حاليا بشخصيات تاريخية وهذا مطب جد خطير، لأنها محاولة لتثبيت أدلجة التاريخ الإسلامي وجعله-التاريخ- الحاكم والمسيطر على الحاضر والمستقبل وهذا بمنهج الحتمية التاريخية التي ناقشها ذات يوم الشهيد المطهري والشهيد الصدر والشيخ محمد الغزالي.  

ثم إن منطلق الإصلاح المنهجي في التعامل مع الأزمة الإسلامية الراهنة هو تفعيل حرية الرأي التي أصبحت شعاراً ومطلباً لكل المجتمعات والشعوب وفق الأصول الأخلاقية الإسلامية،استنادا على الانفتاح والحوار بين أبناء الدين الواحد كقاعدة لبلوغ إمكانية ولوج حوار الحضارات والثقافات، الذي أصبح نهجاً يتطلع إليه عقلاء البشر على مستوى العالم، فكيف سيقدم المسلمون أنفسهم أمام الآخرين، وهم لا يتحملون بعضهم بعضا، ولا يحتكمون للحوار في خلافاتهم، ولا يستطيعون التعايش فيما بينهم واحترام بعضهم بعضاً؟ ولماذا نركز في جل الحوارات الإسلامية على نقاط الخلاف ونهمل عمدا نقاط الوفاق واللقاء التي قد تخلق قاعدة إسلامية صلبة وتنتج روحية إيمانية عظيمة تقدر على مواجهة الخلافات المثبطة للحراك الإسلامي الحضاري؟

كما لابد من الإشارة إلى أن السمة الغالبة على من يمارسون الوصاية الفكرية هي استثارتهم لانفعالات المتدينين وتجييشهم لعواطفهم، بعنوان حماية العقيدة والدفاع عن الثوابت والمقدسات، لكنهم لا يبذلون جهداً يناسب التحديات المعاصرة نحوانارة دفائن العقول.

ثم في تبيين أصول العقيدة،  العقيدة لا تتلخص في القضايا الجزئية التي يختلف فيها الناس، على المسلمين المثقفين والخطباء  أن يكتفوا من خلط الأوراق في تحديد الثوابت والمقدسات، وكأنها قضايا اعتبارية، فالثابت والمقدس يحدد وفق مقاييس واضحة ومتفق عليها.

إننا بحاجة إلى ثورة ثقافية علمية على التخلف المذهبي والجهل الديني والإستحمار السياسي الذي بدأ يعتو في بلدان المسلمين فسادا، ليراجع علماء الدين أنفسهم فالمرحلة لا تقبل أي مهاترات أو تشنجات لابد للعقل الإيماني والشهادتين والقرآن والمعاد أن يوحدنا وينمي إيماننا بالحق والعدل، وليس مجرد تجييش العواطف وإثارة الأحاسيس والتغاضي عن مكارم الأخلاق والحقائق الإسلامية...

وليعلم كل المسلمون سنة وشيعة أن الإسلام لا يحب العصبية الدنيئة البعيدة عن العدل والحق فليكن تعصبنا للإسلام الأصيل الذي يفتح القلوب بالمحبة والأخوة الإسلامية وينير العقول بالحكمة الإسلامية.

ويكفينا دعوة الجموع للتحديق في الأبطال دون ترشيدهم للبطولة الإسلامية التي بمدى وعيها يتحقق لدينا جيل مسلم واع بمسؤوليته الإنسانية التي تغني السياسة والاجتماع والاقتصاد والأمن والثقافة والفكر والدعوة الإسلامية السمحة...

من هذا المنظور ينبغي النظر بجدية وإيمان لجدلية العلاقة بين الإسلام والانتماء إليه، لأن السباب والغيبة والافتراء وإباحة الدماء والأعراض وتشويه السمعة والتكفير وما هنالك من ظلم كلها ثقافة قاتلة للحياة الإسلامية الكريمة ومدمرة لآخرة كل واحد منا... 

(*) كاتب وباحث إسلامي جزائري

شبكة النبأ المعلوماتية-الاثنين 19 شباط/2007 -2/صفر/1428