في التعليم تتجلى روح الأمة

الاستاذ زكي الميلاد*

 عندما انتصرت اليابان في الحرب على روسيا مطلع القرن العشرين، أطلق جنرال ياباني مقولة (انتصر المعلم الياباني)، وأراد من هذه المقولة، أن تعبر عن جوهر وحقيقة هذا الانتصار، حيث ربطه بالتعليم.

 وعندما وقعت فرنسا تحت الاحتلال الألماني في الحرب العالمية الثانية، اعتبر شارل ديغول أن هذا الوضع يصور هزيمة المدرسة الفرنسية أمام المدرسة الألمانية، وعندما سبق الصاروخ الروسي نظيره الأمريكي عام 1957م، صور هذا التفوق العالم الأمريكي كارل الندورفر بأن المدرسة الروسية انتصرت على المدرسة الأمريكية، وعندما وجد الأمريكيون ضعفاً في نظامهم التربوي والتعليمي دقوا ناقوس الخطر، وأصدروا تقريراً بهذا الشأن عام 1983م، حمل عنواناً لافتاً للغاية هو (أمة في خطر)، العبارة التي اكتسبت شهرة لقوة دلالتها، وشدة الدهشة فيها.

تكشف هذه المواقف كيف أن التعليم يمثل روح الأمة، ويعكس وجدانها، وتتجلى فيه كل خصائص وسمات الأمة، قوة وضعفاً، تقدماً وتراجعاً.

ويمكن القول أن من يريد التقدم والمدنية والحضارة عليه أن يبحث عنه في التعليم، ومن يريد المحافظة على النظافة، وحماية البيئة، والتقيد بالنظام، والالتزام بالوقت، وإتقان العمل، عليه أن يبحث عنه في التعليم، ومن يريد البحث عن الأخلاقيات والفضائل والآداب الحميدة عليه أن يبحث عنها في التعليم، وهكذا من يريد البحث عن ترسيخ الوحدة الوطنية، وتماسك النسيج المجتمعي، وتقوية الروابط والعلاقات بين الناس، عليه أن يبحث عنها كذلك في التعليم.

وهذا يعني أن هناك ثروة عظيمة علينا أن نكتشفها في مقاعد الدراسة، وبإمكان كل طالب أن يتحول إلى منجم، يختزن من الثروات التي لا تنصب، عن طريق التعليم المثقف والفعال.

هذه هي عظمة التعليم، وهي ليست بحاجة إلى اكتشاف، لكنها بحاجة إلى تخلق، تتجلى في حب العلم، وعشق المعرفة، واكتساب فضائل العلم وآدابه.

ونحن كأمة من السهولة علينا كما يفترض، التعرف على قيمة العلم، وعظمة التعليم، بحكم معرفتنا أن أول كلمة نزلت من الذكر الحكيم، هي كلمة (اقرأ)، التي تفيد نفي الجهل كقاعدة عامة، وتأكد أن الأصل في الإنسان المسلم أن يكون متعلماً، وكيف أن الدين جعل من العلم نقطة البدء، وبحكم أن الدين جعل من طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، كما جاء في الحديث النبوي المعروف، ودعا إلى طلب العلم ولو بالصين.

والمشكلة أن هذه الأمور نعرفها جيداً، ونحفظها عن ظهر قلب، وتمر على أذهاننا باستمرار، لكنها لا تغير فينا شيئاً، ولا تحرك ساكناً في حياتنا، ولم تعد تدهشنا مع شدة وقوة الدهشة فيها، والسبب يكمن في ذلك التخلف الجاثم علينا بقوة، والذي يشكل مانعاً وحاجزاً لا نستطيع أن نقدر حجمه وتأثيره كماً ونوعاً، فهو الذي يحجب عنا الرؤية، ويسلب منا البصيرة، ويشل إرادتنا، ويهبط بطموحنا، وبالتالي لا يجعلنا نقدر قيمة العلم وعظمة التعليم.

وقد سرني ما سمعته من الدكتور سهيل زكار أستاذ التاريخ بجامعة دمشق، متحدثاً في ندوة عن حوار الحضارات بدمشق عام 2002م، داعياً إلى أن تكون وزارات التربية والتعليم والتعليم العالي هي الوزارات السيادية والأولى في حكومات العالم العربي، وأن تحل من حيث الأهمية والسيادة والإنفاق مكان وزارات الداخلية والأمن والدفاع.

وإذا كنا نريد إصلاحاً وتمدناً فعلياً وحقيقياً في العالم العربي، فعلينا أن نعطي وزارة التربية والتعليم صفة الوزارة الأولى بشرطها وشروطها في حكومات هذه الدول، ونجعل من حقل التربية والتعليم الحقل الذي نرى فيه معركتنا الحضارية، ومصيرنا ومستقبلنا، ونضع له أكبر ميزانية مالية، ونبذل فيه أكبر إنفاق في ميزانية الدولة. وبهذه الخطوة سنكون على الطريق الصحيح في عملية الإصلاح وبناء التمدن.

  المسألة التعليمية والإطار الثقافي

يتزايد الحديث ويتراكم عندنا حول المسألة التعليمية والتربوية، وتتعدد حولها وجهات النظر، وقد تختلف وتتباين في مداخل البحث عن الحاجة الملحة للتطوير والتحديث، وكيفية تدارك وتجاوز نقاط الضعف وعناصر الخلل، ومنهجية معالجة المشكلات والإشكاليات المحيطة والمتصلة بهذا الشأن.

فهناك من يرى أن المدخل الأصوب في معالجة هذا الوضع، يتحدد في تطوير وتحديث المناهج الدراسية والتعليمية، بالشكل الذي يجعلها تواكب حركة العصر ومنجزاته، وتتناغم مع روح القرن الحادي والعشرين، وتتفاعل مع ما وصل إليه العالم من تقدم في ميادين ثورة المعلومات، وتكنولوجيا الاتصالات، وشبكات الإعلام، وتتنبه إلى ما تفرضه العولمة من فرص وتحديات.

وهناك من يرى أن المدخل الأصوب، يتحدد في تطوير وتحديث طرائق ومنهجيات التعليم والتوجيه، لتجاوز الأساليب التي تكرس الحفظ والتلقين، ولا تثمر إلا بناء ذهنية جامدة وساكنة، والتوصل إلى أساليب تعزز الفهم والإدراك، وتساهم في بناء ذهنية نقدية ومبدعة، تنطلق في رحاب الحياة بطموح سام، وبأمل في المستقبل الواعد.

إلى الجانب من يرى أن المدخل والأولوية، تتحدد في الاهتمام برفع مستوى إعداد المعلمين، والعناية المستدامة بتدريبهم، لتطوير كفاءاتهم التعليمية والتربوية، وإكسابهم المزيد من الخبرة والتجربة، ليكونوا في المستوى اللائق والناضج، لأداء مهامهم ووظائفهم وبالشكل الذي ينعكس في بناء وتكوين الطلاب تعليمياً وتربوياً.

إلى غير ذلك من وجهات نظر تتصل بهذا الشأن، وتعطي الأولوية لمداخل أخرى.

والذي أراه أن هناك مدخلاً مختلفاً، في تحليل طبيعة هذه المشكلة التعليمية عندنا، وبحسب هذا المدخل فإن هذه المشكلة لها علاقة بنيوية، بطبيعة المشكلة الثقافية في مجالنا الاجتماعي، العلاقة التي تفرض ربط المشكلة التعليمية بالإطار الثقافي، الذي يمثل بحسب هذه العلاقة، جوهر المشكلة في التعليم وأساسها، وبالتالي لابد من النظر إلى هذه المشكلة من خلال هذا الإطار الثقافي.

وبحسب هذا الإطار الثقافي يمكن النظر إلى المشكلة التعليمية من خلال الأبعاد التالية:

أولاً: أن المشكلة التعليمية هي متفرعة عن المشكلة الثقافية التي هي الأصل، بمعنى أن جوهر المشكلة التعليمية وعمقها، يمتد ويرجع إلى أساسيات المشكلة الثقافية.

ثانياً: أن كون المشكلة في جوهرها وعمقها لها طبيعة ثقافية، فهذا يعني أن المشكلة من حيث الأساس ترتبط وتتصل بالمجتمع، وليس بالمؤسسة التعليمية فحسب، وبالتالي لابد من النظر لهذه المشكلة في داخل المجتمع، وليس في حدود المؤسسة التعليمية.

ثالثاً: أن أي بحث في معالجة المشكلة التعليمية، لابد فيه من الالتفات إلى الإطار الثقافي المتصل بهذه المشكلة، وتكوين المعرفة بطبيعة مشكلتنا الثقافية في مجالنا الاجتماعي.

وحين نريد أن نبرهن على صحة هذه الفرضية، فإن بإمكاننا أن نلمس أثر المشكلة الثقافية على مختلف أبعاد ومكونات العملية التعليمية، بما في ذلك المناهج والمعلمين والطلاب.

فعلى مستوى المناهج، نلمس أثر هذه المشكلة في التبسيط الشديد الذي تتصف به مناهجنا، وبالذات مناهج المرحلة الابتدائية، وكأنها وضعت لكي تناسب البيئات البسيطة من ناحية الفهم والإدراك والذكاء، ونلمسها كذلك في الميل الشديد إلى الماضي، وفي قوة حضور التراث بطريقة لا تخلو من مبالغة، ونقصد بالتراث المنتج الفكري الإنساني، وليس النص الديني المعصوم كتاباً وسنة.

وعلى مستوى المعلمين، نلمس أثر المشكلة الثقافية في ضعف التكوين الثقافي لقطاع كبير من المعلمين، بالشكل الذي يجعل هؤلاء يتقيدون حرفياً بالمادة العلمية، ولا يقدموها بشرح ناضج تمتزج فيها المعرفة بالثقافة، والعلم بالتربية، وبسبب هذا الضعف في التكوين الثقافي، فإن المعلم لا يظهر أمام الطلاب، وحتى في رؤيتهم له، بشخصية المعلم المربي والمثقف، والذي كاد أن يكون رسولا.

أما على مستوى الطلاب، فإن أثر المشكلة الثقافية، هي أكثر وضوحاً، حيث نرى أن قطاعاً كبيراً من الطلاب الذين يلتحقون بالتعليم، وهم لا يحملون معهم أية خلفية ثقافية، ويضلون لزمن غير قصير، على هذا الضعف بدون أي تغيير جوهري، والمدهش في الأمر أن الكثير من هؤلاء يحملون معهم هذا الضعف الثقافي، إلى ما بعد تخرجهم من الجامعات. في حين أن المفترض في الطالب الجامعي أو المتخرج من الجامعة، أن يكون مثقفاً أو صاحب ثقافة أو تأهيل ثقافي، بعد هذا الزمن غير الطويل نسبياً، من التعليم الذي يعد كافياً بالتأكيد في البناء العلمي، والتكوين الثقافي في شخصية الطالب.

ولهذا يمكن القول أن مشكلة التلقين والحفظ في التعليم، ترجع إلى هذا الضعف الثقافي عند المعلمين، وعند الطلاب على حد سواء.

لهذا كان ينبغي أن تلفت المشكلة التعليمية، النظر إلى طبيعة المشكلة الثقافية في مجالنا الاجتماعي، وإذا أردنا البحث عن معالجات جذرية وعميقة وبعيدة المدى لهذه المشكلة التعليمية، فعلينا أن نجعل من الثقافة والإطار الثقافي، مدخلاً للنظر والتحليل والاستشراف.

*باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة

رئيس تحرير مجلة الكلمة.

http://www.almilad.org

شبكة النبأ المعلوماتية-الخميس 4/كانون الثاني/2007 - 13 /ذي الحجة /1427