اصدارات جديدة: الفلسفة البيئية من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجيا الجذرية

الكتاب: الفلسفة البيئية من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجيا الجذرية

الكاتب: مايكل زيمرمان

ترجمة: معين شفيق رومية

سلسلة عالم المعرفة

 

 

 

 

 

نشأت الإيكولوجيا (علم البيئة) في أواخر القرن التاسع عشر في سياق التشعب المتزايد للتخصصات العلمية، وقد اشتق إرنست هكل Ernest Haekle المصطلح من الكلمة اليونانية Oikos (منزل الأسرة) ونقل دلالتها إلى كوكب الأرض باعتباره منزلنا نحن البشر، وكان المصطلح يشير إلى هذا الميدان الجديد من البحث البيولوجي الذي يتناول العلاقات التي تربط عناصر كوكب الأرض.

وحالياً، تعرّف الإيكولوجيا بأنها العلم الذي يدرس العلاقات المتبادلة بين الكائنات الحية والبيئة التي تعيش فيها، ويتخذ موضوعاً له المنظومات البيئية – النهر والبحر والغابة والصحراء...، والنطاق الجوي والنطاق المائي واليابسة والنطاق الحيوي...، والكرة الأرضية ككل التي تعد النطاق الإيكولوجي الشامل الذي تعشش فيه المنظومات والنطاقات الفرعية، وقد ارتبط تطور الإيكولوجيا بنشوء وتطور نظرية المنظومات العامة التي يتلخص مبدؤها الأساسي في القول الشهير (الكل أكثر من مجموع أجزائه المكوّنة له) نظراً إلى أن ميزته الأساسية هي علاقات التفاعل بين مكوناته المختلفة.

يتضح مما سبق أن موضع تركيز الإيكولوجيا هو العلاقات، ومن خلال هذا المنظور ترى أن الأزمة البيئية تعبر عن خلل (اضطراب/ تصدع/ تخرب/ دمار) في العلاقات الداخلية للنطاق الإيكولوجي. ويكاد يجمع الباحثون اليوم على أن منشأ هذا الخلل يعود إلى الإنسان الذي بلغت تأثيراته وضغوطاته على النطاق الإيكولوجي حد تحوله إلى قوة جيولوجية هائلة، وفق تعبير إدوارد ويلسون، تدفع الكثيرين إلى الاقتناع بأن الإنسان هو مشكلة البيئة.

إن الواقع الذي تدرسه الإيكولوجيا، أي المنظومات البيئية، يتسم بالتعقيد لأنه يشمل العلاقات المتبادلة بين ثلاثة مستويات متداخلة: المستوى المادي (العناصر المادية في الطبيعة) والمستوى الحي (الكائنات الحية) ومستوى الإنسان الذي انبثق بالتوازي مع ما يسمى عصر الإنسان Age of man – أي الفترة الزمنية من تاريخ الأرض التي ساد فيها الإنسان – وهي تمثل الدور الجيولوجي الحالي منذ حوالي مليوني سنة وحتى الآن. وارتباطاً مع تعقيد الواقع الإيكولوجي مرّ التفكير في الأزمة البيئية، سعياً في سبيل فهمها ودرءاً لعواقبها، بثلاث مراحل: إخضرار العلوم وإخضرار الدراسات الإنسانية وإخضرار الفلسفة.

يعبر إخضرار العلوم عن تلون العلوم الطبيعية بالمفاهيم والأفكار المستعارة من الإيكولوجيا من جهة، واستعانة البحوث البيئية بهذه العلوم من جهة أخرى، وقد تجلى هذا التعاون والتداخل في نشوء فروع وتخصصات علمية جديدة فبدأنا نسمع، مثلاً، عن الكيمياء البيئية والكيمياء الحيوية البيئية، وعن الزراعة الحيوية والهندسة البيئية والأبنية الخضراء، وهلم جرا. لكن إخضرار العلوم على أهميته لا يكفي من أجل فهم الأزمة البيئية الراهنة لأن العلوم الطبيعية وتقاطعاتها الإيكولوجية تبقى في مستويي المادة والحياة، وعندما تبحث في علاقة الإنسان بالبيئة تنظر إليه ككائن حي (أي تبقى في مستوى الحياة) ولا يدخل في منظورها القيم والأفكار التي يحملها الإنسان وتوجه علاقاته وتفاعلاته مع ما حوله، مما يتطلب منا جميعاً الانكباب عليه إذا أردنا إحاطة أشمل بالأزمة البيئية.

من هنا يأتي إخضرار الدراسات الإنسانية ليستكمل تحليل الأزمة البيئية فيتجلى في نشوء بحوث وفروع معرفية جديدة تتداخل في إطارها العلوم الإنسانية والمفاهيم الإيكولوجية، فنشأ، مثلاً، علم النفس البيئي والاقتصاد البيئي والتاريخ البيئي والدراسات اللاهوتية والإيكولوجية Theoecology والنقد الإيكولوجي Ecocriticism وغيرها.

يطرح إخضرار العلوم وإخضرار الدراسات الإنسانية نقطتين أساسيتين:

1- إن الأزمة البيئية تتسم بالطابع الشامل فهي تتصل على نحو مباشر أو غير مباشر بجميع ميادين النشاط البشري النظري والعملي.

2- إن الإمعان في تحليل الأزمة والذي يترافق مع نشوء فروع معرفية كثيرة جديدة يحمل معه خطر تشظية الحقيقة الإيكولوجية وتبعيضها وإعادة إنتاج الموقف الاختزالي المضاد للإيكولوجيا (للمناخ الفكري الإيكولوجي وليس فقط لعلم الإيكولوجيا) والنظرة الكلية القابعة في صميمها. وها هنا ينشأ مطلب جديد من أجل وضع الكثرة من التحليلات والحقائق الجزئية في وحدة تجمعها وذلك كمسعى، يجدر بالفلسفة أن تتعهده وتخضرّ به، لإيجاد مفهوم موحد يمتلك القدرة على تركيب هذه المعارف الجزئية في حقيقة قابلة للتأمل والفهم، وبالتالي للنقد بكل ما يحمله من احتمالات، ولعل مفهوم النظرة إلى العالم worldview قادر على تجسيد هذا المسعى، فهو مفهوم خصب يشمل عناصر تجربتنا المعرفية والقيمية وما يرافقها من ممارسات ومواقف إزاء أنفسنا وإزاء الآخرين من البشر أو غير البشر – أفراد المجتمع والكائنات الحية والبيئة والطبيعة عموماً.

يكمن في صميم الفلسفة البيئية ربط الأزمة البيئية بالنظرة الحديثة إلى العالم التي حدثت في إطارها، أي ربطها تحديداً بالنظرة الحديثة إلى العالم التي نشأت وهيمنت في الغرب الأوروبي وامتدت تأثيراتها إلى بقية أنحاء العالم، وشكلت في الوقت نفسه نواة الحضارة الحديثة (والمعاصرة) وأنماط الحياة والاجتماع والتمدن التي نشرتها في العالم.

إن فهم أصول الأزمة البيئية الراهنة يمر عبر نقد هذه النظرة، وهذا يتطلب العودة إلى اللحظة الفلسفية التأسيسية للعصور الحديثة، أي بالضبط إلى ديكارت والقسمة الثنائية التي أقامها بين جوهرين: الأنا المفكر والمادة الممتدة.

فرّخت هذه الثنائية الأساسية ثنائيات وضعت الأنا مقابل العالم والإنسان مقابل الطبيعة والذات مقابل الموضوع. فإثبات الأنا لوجوده كجوهر مفكر متقوِّم بذاته عنى في الوقت نفسه فصلاً واستقلالا له عن العالم/ الطبيعة، وهذا ما شكل الخروج الثاني للإنسان على الطبيعة بعد الخروج الأول الذي دفعته إليه قواه البيولوجية التي اكتسبها في سياق التطور.

وهكذا، في مقابل الأنا الصاعدة والذات البارزة هبط العالم إلى مرتبة امتداد جامد وتحولت الطبيعة إلى آلة ضخمة هائلة وتحولت أسرارها وأرواحها إلى قوانين وقوى ميكانيكية ما على الأنا، كذات عارفة، إلا أن تتوجه إلى معرفتها وحيازتها والتصرف والتلاعب بها بما يؤدي بنا نحن البشر إلى أن نصبح (سادة مسخرين للطبيعة) وفق التعبير الديكارتي الشهير وأولى خطوات هذه المعرفة/ السيادة امتلاك المنهج الذي يضمن اليقين، وأولى خطوات المنهج هي التحليل. وفي حين أن الموضوع (العالم/ الطبيعة) آلة ضخمة معقدة يمكن فهمها بتفكيكها إلى أجزائها والبحث في كل جزء على حدة، وهذا يعني أن الكل (الطبيعة) ما هو إلا تجمع من الأجزاء المتراصفة المرتبطة آلياً، وليس كلية لها خصائصها التي لا يمكن اختزالها إلى خصائص أجزائها، كما أفادتنا المعرفة الإيكولوجية لاحقاً.

هذا هو جوهر النقد الفلسفي البيئي للنظرة الحديثة إلى العالم، أما تجلياته فتتناول، كما سنرى في فصول الكتاب، الأفكار والقيم وأساليب الحياة والممارسات التي انبثقت عن هذه النظرة في ميادين الحياة البشرية المختلفة.

لكن الفلسفة البيئية لا تكتفي بالنقد بل تتخذه منطلقاً لتأسيس مشروع إنساني جديد لوجودنا في العالم، مشروع عماده نظرة جديدة تؤسس لحضارة جديدة أساسها الانسجام والتوافق والتناغم (وليس الاندماج كبديل للانفصال) بين الإنسان والطبيعة. إن إخضرار العلوم والدراسات الإنسانية والفلسفة بشير إخضرار وجودنا على هذا الكوكب الذي نشأنا من ترابه وإليه نعود.

شبكة النبأ المعلوماتية-الجمعة 22/كانون الأول  /2006 - 30 /ذي القعدة /1427