رحلة بين الأموات في مشرحة الطب العدلي

لا أحد يرغب بزيارة هذا المكان.لكننا زرناه!. رائحة الموت تنبعث من ثلاجات صفت فيها جثث القتلى , يتجمد شعورك بالحياة وانت تتخيل ان تكون رقما في تعداد جثث الغد ... ترى كيف سيستقبلك مشرحي الطب العدلي وانت جثة لاحراك لها؟.

هاهم يضحكون معك وانت على قيد الحياة تتجاذبون أطراف أحاديث شتى فيها السار والمحزن, لكن ماذا سيكون شعورهم عندما يستقبلونك وانت ملفوف بكيس من النايلون الاسود؟.

تبدو بناية الطب العدلي وهي احدى دوائر رئاسة صحة نينوى قد عمرت حديثا, حيث عبد طريقها وجرى تحديث لاثاثها , واعيد طلاء جدرانها , كما اضيفت لها ثلاجات لتستوعب اعدادا اضافية لجثث مجهولة ومعلومة،مقطعة وسليمة،مشوهة وطبيعية ،مقيدة وحرة ..جثث من مختلف الاشكال والاعمار تجمعهم ثلاجة , يشتركون بامتلاكهم لبطاقة معلومات موحدة دونت عليها مواصفات من امتلك تلك البطاقة كالجنس .الطول . العمر . العلامات الفارقة. كالوشم او الشامة . .سبب الوفاة . حالتها عند الاستلام . تاريخ الاستلام . بالاضافة الى الرقم ..هناك جثث تبحث عن ذويها،وهناك من ينتظر ذويها وصولها!. تشعر بقشعريرة تسري في اوصال جسدك وانت تشاهدها وتنتقل ببصرك حيث مشرط المشّرح يبحث في خفاياها عن مجهول ليسجل بالنهاية في مربع صغير عن سبب خروجها من هذه الحياة، ثم في دقائق يخيط المشّرح هذه الجثة ليستلم جثة اخرى, ولاينظر الى ساعته ليعرف موعد انتهاء دوامه، بل ينظر على العدد المتبقي لديه من الجثث.

بدأ مدير المشرحة حديثه لوكالة أنباء (أصوات العراق) عن معاناة الأطباء العدليين في العراق اكثر من حديثه عن معاناة دائرته، فقال"منذ 36 عاما وانا امارس دوري كطبيب عدلي في محافظة نينوى وكعضو في مجلس معهد الطب العدلي في القطر . لا احبذ ان يختص ولدي في هذا المجال لسلبياته . فقد اغفلت عنه عين المسؤول ولم تنصفه وترفع من رواتبه، فهو الطبيب الوحيد الذي لا يملك عيادة خاصة تعين مواردها على سد مستلزماته الحياتيه , وتساويه بما يأخذ أطباء باقي الاختصاصات."

وتابع " وعليه لا أحبذ الطلبة الجدد الدخول في هذا الاختصاص بالرغم من حاجة القطر اليه , فلاتوجد دماء جديده في هذا المجال والكادر قليل جدا."

اما طبيب المشّرحة والذي رفض ذكر اسمه خوفا من اتهامه بسرقة اعضاء الجثث فقال" ان من المعاناة التي تعترض عملنا هي جهل ذوي المتوفي بعدم رغبتهم بتشريح الجثث خوفا من فقدان اعضاء الجثة كالقلب او الكلى على حد قولهم."

وتحدث ايضا عن قساوة قانون الطب العدلي بقوله " للطب العدلي قانون قاس،منه سحب يد الطبيب اذا اكتفى بالتشخيص الظاهري ولم يشرح الجثة,فمثلا رجل توفي بحادث دهس ادى الى خروج دماغه من رأسه ،اما باقي اعضاء جسده تبقى سليمه , قانون الطب العدلي في العراق يوجب عليك تشريح كامل للجثة بينما لاتشرح الجثة في دول الخليج المجاورة الا بقرار اميري."

وأضاف المشّرح" نعاني ايضا من عدم التقدم في هذا المجال، فالعالم المتحضر يستخدم مايسمى بالحامض النووي، وهناك اختصاص حديث يسمى باختصاص العلوم الطبية العدلية والتي يفحص عن طريقها الملابس والشعر والسائل المنوي ، اما في محافظة نينوى فنحن نضطر الى ارسال الامعاء في حالة الاشتباه بالموت تسمما الى بغداد في سيارة اسعاف ونستلم النتيجة بعد شهرين ، وهذا بحد ذاته يؤخر من كشف الحقائق, كذلك لدينا مشاكل في تضارب القوانين فوزارة الصحة ترسل لنا خطابات من الوقفين السني والشيعي بتحريم تشريح الجثة، كما وترسل لنا تعليمات بضرورة تشريح الجثة."

خالد عبد الامير احد الموظفين الاداريين في المشرحة قال لـ (اصوات العراق) " الجثث المجهولة نسلمها للبلدية لتدفنها بعد شهرين من العثور عليها, ولكن الان الثلاجات لاتستوعب بقاء الجثث لمدة شهرين، وذلك لكثرة وصول جثث يومية ,وعليه نقوم بتصوير الجثث وحفظ الصور لعرضها على ذوي المفقودين."

وعن الحوادث المروعة التى مرت عليه خلال عمله في المشرحة، قال عبدالأمير" من الحوادث المروعة التي سجلتها مشرحة الموصل هي انقلاب باص لنقل طلبة احدى الكليات فى جامعة الموصل فى ثمانينات القرن المنصرم وذهب ضحيته 22 طالبا جامعيا."

غرفة التشريح عبارة عن صالة باردة صفت الجثث فيها على اسرة معدنية بانتظار مشرط

نذير نزيه.

ونذير مشّرح في الخامسة والثلاثين من عمره، بشوش ضحوك، لكن لا يتمنى احد ان يرقد بين يديه، قال "منذ عام 1991 وانا اعمل في تشريح الجثث ،مايتعبني هو زخم العمل وانفعالات ذوي المقتولين والتي لايستطيعون السيطرة على اعصابهم فيبدأون بتحطيم محتويات المشرحة وسيارات الاطباء ..ففي احدى الايام انفعل احد المواطنين عندما شاهد جثة اخيه فبدأ باطلاق النار داخل المشرحة مما اضطرنا للاختباء, وفي حالة مماثلة كسر ذوي القتيل باب الثلاجة وانابيب الماء وزجاج النوافذ ,لكننا نقدر مشاعرهم ."

وعن الحالات المؤلمة التي مرت عليه .. قال نذير" من الامور التي تؤلمني هي وصول كتل اللحم بدون وجه، حينها نضعها في اكياس خاصه ولا نصورها بل ندفنها في الحال ,كما أن هناك جثثا تؤلم الناظر اليها ."

نذير يجمع بين متناقضين، فهو طيب القلب عطوف رقيق الى ابعد الحدود، وفي نفس الوقت تراه جلد وقاس في حركاته مع الجثة، فهو يمسك بالمشرط بيد قوية ولاتهتز ويضعها في بداية الصدر ويمررها طوليا حتى نهايه البطن.

وعن الوقت الذي يستغرقه تشريح الجثة قال نذير" لايأخذ مني عملي هذا اكثر من ربع ساعة لكل جثة في الظروف الاعتيادية، اما في ظروف الموت الغامضة فقد ابحث عن المجهول لاكثر من ساعتين."

وعن اصعب المواقف قال" تشريح جثة ابن عمي القريب الى قلبي ونفسي كانت من اصعب المواقف التي مرت علي , فقد سقط من السطح وكان علي تشريحه لاكتشف سبب الوفاة، وجثة رضيعتي الي لقت مصرعها في حادث سيارة وتهشم رأسها فقط.. اخلاق المهنة تحتم علي تشريحها، وقد شرحتها وخيطت جثتها وانا مشرح فقط ثم وضعت الجثة في الثلاجة وخرجت من المشرحة وانا ابكي بكاء اخ فقد شقيقتة."

للمشرحة خمس ثلاجات تتسع كل ثلاجة لعدد معلوم ولكن هذا العدد يضرب في خمسة عندما تتكدس فيها الجثث لتتحول الطاقة الاستيعابية الى رقم لايصدقه العقل . عندها ستظهر مشاكل تبريد الجثث، فالثلاجة لا تتحمل . والرائحة لاتطاق . يتبادر لذهنك سؤال.. كيف يستطيع نذير وخورشيد وقيس العمل في هذا المكان .

خورشيد سلطان جمعة (مشّرح - 40 عاما) قال "في بعض الايام وبسبب زخم العمل لا اخلع كفوفي لانها كنز، فالمستلزمات شحيحة جدا , بالرغم من ان جمعيات الهلال الاحمر وبعض المنظمات تساعدنا بالمستلزمات الضرورية كالكفوف والصداري واكياس النايلون , كما تنقصنا مواد التعقيم ."

ويضيف خورشيد نوع آخر من المشاكل" مشاكلنا الصعبة مع مجهولى الهوية وخاصة من المسلحين الذين يطالب ذويهم بجثثهم في حين تتحفظ الشرطة عليها لاجراءات امنية . "

وتابع حديثه " فحص جثة المرأة المقتولة يختلف , فعلينا تثبيت بعض المعلومات التي تفيد في الكشف عن القاتل , كواقعة الزنا او الاغتصاب او غيرها ."

خورشيد يتذكر حادثة لازالت عالقه في ذهنه "من الحوادث التي لازالت راسخة في الذاكرة هي نجاح طفل بعمر 10 سنوات في التعرف على جثة خاله القتيل في حين اغمي على ثمانية رجال كانوا بصحبته عند اقترابهم من ثلاجة المشرحة .

أضاف "من المفارقات الغريبة هي عثوري على مبالغ ضخمة من العملة الامريكية وانا اشرح جثة ، ولاكثر من مرة ،حيث يكون المتوفي قد وضعها في كيس وشدها حول خصره او جعلها في حافظة بخيوط ولبسها حول رقبته."

قيس عبد الله (مشرح - 42 عاما) قال " مايؤلمني وانا اقوم بعملي هو مشاهدتي لعراقيين يقتلون بلا ذنب سوى لدين اعتنقوه او لقومية عشيرتهم او لاسم لازمهم منذ نصف قرن ,, اتألم وانا اشاهد شبابا ورجالا نساء واطفالا يذهبون ضحايا المفخخات والعبوات , اتألم وانا اجمع بيدي اشلاء وكتل لحم محروقة او متفسخة لاضعها بكيس واسلمها للبلدية لتدفنها لتنهي بذلك رحلة انسان مع الحياة انتهت وهو غير راغب بهذه النهاية المؤلمة تاركا ورائه اطفالا ونساء يبكون غيابه دون ان يعرفون بان مصيره انتهى بكيس نايلون اسود."

وتابع عبد الله حديثه "معدل مايصل الى المشرحة يوميا 15جثة، ولكن ليس بالضروري ان تكون جميعها من ضحايا العمليات المسلحة ،فهناك المسموم والمنتحر والمحروق والمدهوس ولكن في جميع الاحوال نعامل جثثهم بلا تمييز."

محطتنا التالية هي بعض موظفي الخدمة في المشرحة ممن يسعون لكسب ثواب بتجهيز هذه الجثث بتغسيلها وتكفينها.

عبد الكريم احمد (عامل خدمة 56 - عاما) قال"يحصل اتفاق بين ذوي القتيل من ميسوري الحال وبيننا على تجهيزه قبل دفنه مقابل مبلغ معين , ونجهز القتيل من العوائل متوسطي الحال مجانا كنوع من الثواب ، اما سعر التابوت والكفن فيبلغ تقريبا مابين 30 -35 دولارا ، اجور تجهيز منتسبي الشرطة تدفعها مديرية الشرطة وليس ذوي الشرطي. "

ويطرح المشّرح احمد كامل نوع آخر من المعاناة للعاملين في المشرحة وهي رفض الفتيات من الاقتران بهم، وقال ساخرا" لو لم تكن ابنة عمي هي زوجتي وقد اهداها والدها لوالدي حين ولادتها لكنت اعزب لغاية هذه اللحظة ، لانه لا احد يرغب بالاقتران مع العاملين في هذا المجال، حتى ابن طبيب مشرحتنا ذو الست سنوات اجاب معلمته التي سألته عن اختصاص والده بأنه طبيب امراض جلدية ، كما ان اولاد الجيران يمتنعون عن اللعب مع اولادي اذا عرفوا مكان عملي وذلك بسبب النظرة الضيقة للمجتمع لهذه المهنة."

ويبقى الانتظار خارج المشرحة رهيبا .. ام اسعد التي فقدت ولدها منذ اسبوعين قالت "اصبح الموت سهلا، ولكن الصعب هو العثور على الجثة , فانا انتظر يوميا الجثث التي تصل المشرحة . لقد ايقنت بقتله، ولكن املي هو العثور على جثته، وان يكون صحيحا غير مقطع."

ابو عبد القادر رجل في الستين من عمره، جلس على احد درجات سلالم الطب العدلي يتكىء على عصا خشبية، كان رث الثياب مقوس الظهر، خطفت ابنته عندما كانت تسير بجانبه، قال لـ (اصوات العراق) وهو يبكي بحرارة" لقد خطفوا ابنتي من بين يدي , ابنتي هند البالغة من العمر 15 عاما كانت تأخذ بيدي لتعبرني الشارع حيث المضمد ليزرقني حقنتي اليومية .. وقبل انتهاء عبور الشارع مرت سيارة وفيها اربع شباب نزل اثنان منهم وسحبا يد هند من يدي بسرعة مذهلة وخطفاها في لمح البصر ..وراحت البنت ...لقد ماتت امها حسرة وكمدا وانا ابات واصحو في المشرحة اريد ابنتي ..واخوانها تركوا دراستهم واعمالهم ويبحثون عنها منذ اربعة اشهر."

حامد صالح ، رجل في اواسط الاربعين، خرج من بوابة المشرحة وهو يضرب يدا بيد، شارد الذهن، إنتبه لوجودنا عندما تعثرت قدماه، واراد ان يسقط، قال" لم اعرفه ..انه هو ..لا ليس هو .. فهذا وجهه مشوه واخي وجهه جميل.. لكن الخاتم الموضوع في الامانات نفس الخاتم.. انا في حيره.. هل انصب عزاء ؟ ام هناك امل برجوعه؟ لقد انفجرت مفخخة بالقرب من كليته منذ اسبوع ولم يعد لحد الان .. نعم هناك مفقودين اثر الانفجار ..ولكن عقلي لايصدق ان بقايا الهيكل العظمي المكسو بقليل من اللحم المحروق والمتهريء هو اخي ناظم الشاب ذو العشرين ربيعا...سأجن ..لم اعد احتمل ..لا ..اخي سيعود سيعود. "

شبكة النبأ المعلوماتية-الخميس 23  /تشرين الثاني  /2006 -1 /ذي القعدة /1427