الحَدس أو عين العقل

عقيل يوسف عيدان

كانت القدرة على الحَدس تعتبر منذ القِدم ألف باء الموهبة والمَلكات العقلية والعبقرية المعطاة من (( الله )) . والحدس هو القدرة على التلقي المباشر ، وهو قدرة ذهنية ، أي الرؤية بـ "عين" العقل .

والإدراك حدسياً يعني الإحساس سلفاً ، إدراك اللغز ، التبصّر والكَشف . فنرى المرء  يقول ؛ لقد لمعت في ذهني أو خطرت في بالي فكرة . ويُربط بالحدس ، عادة ، تصوّر عن التغلّغل إلى الجوهر وعن البساطة والتناسق والرشاقة والحس الجمالي .

هكذا تنبأ هكّل نظرياً بوجود "إنسان جاوه" – قبل أن يكتشفه ديوبو في جزيرة جاوه الإندونيسية بسنوات طويلة – وخَلص العالِم الانثروبولوجي بلاك ، استناداً إلى ضرس واحد عثر عليه في تشاوكاوديان (قرب بكين) ، إلى استنتاجه عن انتماءه إلى جده الأقدم "إنسان بكين" .

ثمة تصوّر عن الحدس وكأنه روح "سحرية" تثير الإلهام والتألق الإبداعي الذي يهب الإحساس بالجمال والشعور بالغبطة . فعلى سبيل المثال ، كان المفكر الألماني نيتشه يصف الحدس بأنه حالة إلهام . بيد أن للحدس أساساً واقعياً دنيوياً تتوسطه في التحصيل الأخير تجربة الماضي .

لذا فإن الصفة المفاجئة للحدس صفة موهومة تخفي وراءها نشاطاً خفياً مارسه الوعي . فحلّ أية معضلة يسبقه ، عمل طويل ودءوب ، وادّخار وتحليل المعلومات ، أي ما يسمى بـ "فترة الحضانة" . ولكن يخيّل إلى الإنسان أن الحل جاءه بشكل مباغت ، وأنه ضرب من "الاستبصار" ، "قفزة في التفكير" ، "نفاذ بصيرة" .

وقد شخّص سمة الحدس هذه العالم الرياضي بوانكاريه حين قال : (( إن ما يذهل هنا بالدرجة الأولى هو ومضات استبصار مفاجئ يعتبر معالم عمل لا واع طويل الأجل تم بذله سابقاً (...) وهو – أي الحدس – ممكن ، وعلى أية حال فهو أمر لا يكون مثمراً إلاّ حين تسبقه من جهة ، وتليه من جهة أخرى ، فترة عمل واع )) .

بيد أن الكثير من العلماء كانوا على يقين من أن حل المسألة أو الفكرة قد خطرا لهم بشكل مفاجئ . فقد كان العالِم البريطاني تشارلز دارون ، مثلاً ، يقول إنه حين كان يطالع كتاب مالثوس (( نظرية السكان )) لمعت في ذهنه فكرة معالجة مسألة الصراع على البقاء في الطبيعة .

ومما لا شك فيه أن هبة الحدس ترتهن في الكثير بقدرات الشخصية الفردية وتمكنها من التركيب والتوليف والتجريد واتخاذ القرارات وما إلى ذلك . إن دور الكشف في النشاط الإبداعي يلعبه في بعض الأحيان أيضاً الحلم ، حيث تتجلّى قدرات الشخصية الفردية على صعيد اللاوعي . وفي تاريخ العلم والفن ثمة عدد غفير من حالات الاكتشاف والاختراع في المنام . فالشخصية "المغمورة" في حل معضلة ما "تقلّب" ذهنياً عدداً كبيراً من بدائل الحلول . وهذه العمليات تمس أعمق ميادين النفس دون أن يزول توترها إبان النوم أيضاً . فالنوم الذي يقطع نشاط الإنسان الذهني لا يوقف هذا النشاط كلياً . وذلك أن العمل يستولي على الفرد إلى درجة تجعله يواصله حتى في أثناء الراحة . لهذا السبب بالذات يستطيع الإنسان أن "يرى" في الحلم وأن يعثر على الحل المنشود .

عندما سئل عالم الكيمياء ديمتري مندلييف الذي رأى في الحلم مبدأ تكوين جدول العناصر الكيميائية كيف تسنّى له اكتشافه ، قال : (( لقد كنت مشغولاً به طوال ثلاثين سنة )) .

الإنسان ظاهرة فريدة في عالم الطبيعة الحيّة . وعالمه الروحي ، "العالم الأصغر" ، لا ينضب إذ يندمج فيه في كل واحد العقل والمشاعر ، الاحتياجات والمثُل العليا ، الخلقي   والعاطفي .

والإنسان ليس بالخبز وحده يحيا . بل تبرز كشكل خاص من النشاط "الحياة الروحية" للفرد التي ترتبط باختياره للقيم والمثل الحياتية . وتنعكس في هذا النشاط احتياجات الفرد واهتماماته ورغباته ، وتتفتّح قدراته وتتجلّى صفاته المعنوية وأنشطته الاجتماعية .

*باحث وكاتب كويتي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية-الاحد  20/اب /2006 -25/رجب/1427