رياض النور

قصة: كُليزار أنور 

          لم يهن عليّ اقتلاعها ، رغم تأكدي بأنها قد يبست . وكلما وقعَ نظري عليها أترحم على تلك اليد التي وضعتها في هذا المكان . زرعها أَبي في ( سندانة ) كبيرة من الفخار ، ووضعها بقربِ باب المطبخ . لماذا ؟ لا أدري ! كانت النباتات مسؤوليته لذا لم يتدخل أحد من أفراد اسرتنا بتنظيم أمكنتها أو زراعتها أو حتى سقيها .

          رغم كثرة الأصص في بيتنا إلاّ أن هذهِ السندانة بالذات أصبحت شُغلي الشاغل . أعطيتها من اهتمامي ما لم أُعطِ لسندانةٍ أُخرى . أنبش ترابها .. أسقيها .. أُسمدها .. لَعلها تحيا .. ولم يفد !    

          أتألم في قلبي .. كل يوم .. وأنا أُراقب موت شجرة الفُل ! زرعتُ بجانبها نباتاً آخر .. بدأ ينمو .. يكبر ليتسلق خشب الشجرة اليابسة !

*               *               *

                وصلتني رسالة من رجل _ أعرفهُ ويعرفني بالاسم فقط _ يقول فيها : بأنهُ سيحضر للقائي بعد أيام .

          رسالتهُ كانت مفاجأة جميلة لم أتوقعها _ حقيقةً _ تتدفق منها بحار من العاطفة والمحبة السامية . أدهشتني نبرة إخلاصها وقوة تعبيرها الساحر ! استطاعت أن تحرك المشاعر في داخلي من جديد .. كحجرٍ يُرمى في بحيرةٍ ركدت منذ زمن !

          ماذا يريد مني هذا الرجل ؟!

          يقولون : بأن الموت هو بداية حياة أُخرى !

          هل هو كذلك فعلاً ؟ ربما !

          وشجرة الفُل أكدت لي هذا . فبينما كنتُ أسقي الأصص كعادتي كل صباح لفت انتباهي بأني أرى ما يشبه رؤوس دبابيس خضراء تلمع على ساق تلك الشجرة اليابسة التي ظننتها ماتت مع موت أبي .. توقفت لأنظر جيداً .. انحنيت لأُمعن أكثر .. نعم .. هاهي براعم صغيرة تتفتق !

          تذكرتهُ في تلك اللحظة .. تذكرتُ رسالتهُ العذبة .. واصراره العنيد على التقرب مني .. ووجوده الروحي الذي اخترق سماء أحزاني بشهاب من نور المحبة البريئة ، فأضاء ليل العمر ! 

          مرت في ذهني كلمات رسالته بسرعة الضوء .. كومضٍ خاطف .. ووعده بأنهُ سيحضر

للقائي بعد أيام . دمعت عيناي لحظتها ، شجرة الفل ماتت مع رحيل رجل .. وها هي تحيا مع قدوم رجلٍ آخر ! سعادة دافئة ترجرجت في بحيرة نفسي أشعرتني بحلاوة التفاؤل !

          ذهبتُ للقائهِ وأنا المقررة ألاّ أذهب ! .. بل وكنتُ متشوقة جداً للقاءِ الرجل الذي لم ألتقِ به ولا مرة ! حضرتُ قبلهُ .. ووصلَ بعدي بثوانٍ .. نزلَ من السيارة .. رأيتهُ ورأيت الحب من بعيد مقبلاً نحوي في مركبه الرائع ناشراً شراعه ، معلناً سلامه !

          صافحتني ابتسامةُ عينيه قبل كفهِ .. مددتُ كفي .. تعارفنا .. اضطرب في داخلي شيء عندما التقت عيوننا ، فقد لمحتُ القوة والجرأة فيهما . مشينا معاً . مد يده يدعوني للجلوس ، فجلست وجلسَ بقربي . لم أشعر بالغربة قط .. ولا هو .. وكأننا نعرف بعضنا منذ ألف عام !

          تحدثَ معي بأشياء كثيرة .. جذبتني _ بقوة لا تقاوم _ عذوبة روحه وسحر كلامه .. سحبتني إلى فضاءات العشق التي لا يمكن أن يصلها كل مَن كان .. نفوس قليلة _ فقط _ تصل بقوة الصدق والإيمان بأن الحب هو درب الحلم !

          أليستْ ميزة الإنسان الفكر والحوار ؟! إذنْ .. يا لقوة كلماته التي استطاعت أن تخرجني من منفاي !  

          عندما رفعتُ نظري ، وجدتهُ ينظر فيّ ملياً بنظرة دهشة واستغراب . ماذا هناك ؟ ألم يكن يتوقع أن يراني جميلة !

          الوجه مرآة النفس ، وغالباً ما يشع نور الداخل على قسمات الوجه . راوغته بصمتي .. لكن في النهاية استسلمت .. وبإرادتي !

          رجل ذكي .. تبدو عليه امارات الطيبة والنبل . أسود الشعر ، يقظ العينين ، سريع البديهية ، واثق من نفسه ، يعرف مكانته ، ويتمتع بحضورٍ طاغٍ وشخصية آسرة جذابة .

          ما كانَ هاجساً في يومٍ ما .. تحققهُ لي الحياة .. وتضعهُ أمامي وجهاً لوجه . هل التقيتُ بحلمي أخيراً ؟!

          في فجرِ ثالث أيام عيد الفطر .. فاجأني القدر بمصابٍ عظيم .. مصابٍ كسر ظهري وأدمى قلبي ، فقد واجهني الموت بقسوة _ ولأول مرة _ مع أعز الناس .

          هل أستطيع أن أمسك دموع القلم ؟

          لا أظن ..

                   فالقلب ينزف !

          أي هاجس دعاني أن أترك غرفتي وسريري لأنام في غرفته .. هل هو الإحساس بالفراق؟؟ لم أنم ليلتها لأني غيرتُ مكاني .. ولا أعرف كيف ومتى سرقني الكرى . حينَ استيقظت

.. وجدتهُ يصلي الفجر .. شربَ كأساً من الماء وعادَ إلى سريره . صليتُ أنا أيضاً وعدتُ إلى النوم متعبة الروح والجسد .

          كانت تلك اللحظات آخر عهد لأبي في الحياة ، فقد توقفَ القلب عن النبض . ناديتهُ من أعماق قلبي المجروح .. ارتميتُ على صدره .. صرخت : أبي .. أبي . لعلَ صوتي يعيده ثانيةً . قبلتُ جبينه الدافئ وشعره وفمه وكل ما في وجهه راجيةً منهُ ألاّ يذهب ، فصعبٌ أن يكون الإنسان بدون أَب !

          شيئان لا أعرفهما ككل النساء .. لا أن أُهلل ولا أن أُولول ! لم أصرخ مولولة على رأس أبي .. بيدي أغمضتُ عينيه .. وأعدلتُ ركبتهُ التي ثناها .. ولا أدري مَن ناولني القرآن .. جلستُ على طرفِ سريره .. وقرأت . كانت دموعي تتساقط على صفحات القرآن ويدي على جبينه الذي لم يغيره الموت .. بقي مثل ما كان وكأنهُ نائم وسيستيقظ بعد قليل لنتناول فطورنا !

          قلبي يعتصر بالألم وأنا أنفضُ لهُ حزني لفراق أبي .. لم أبكِ أمامه .. ووجدتهُ يصغي لكلماتي بهدوء . وتأسفت لهُ لأني حدثتهُ عن الموت في أول لقاء يجمعنا !

          وحدثتهُ عن شجرة الفُل التي تفتحت براعمها من جديد .. وكم تفاءلت بها .. وربما كانت السبب الوحيد في وجودي معهُ الآن .

          وميض من السعادة الحقيقية ، الدافئة يلمع في عينيه .. معهُ حق .. تصورني طفلة ، ووجدني امرأة !

          كانَ يحدق فيّ كخبير آثار منبهر بقطعةِ نحتٍ خرافية انقرضت منذ زمن !

          شربنا الشاي من " قوري " زجاجي واحد .. وتنفسنا ذرات أوكسجين واحد ..ونظراتنا تحدق في منظر واحد . اختلطت أنفاسنا وأحلامنا وأفكارنا ووجهات نظرنا فيما حولنا .. واكتشفنا .. ما نحن إلاّ وجهان لعملة واحدة !

          وأحسست لحظتها بأن مصيري قد تقرر !

          نظرتُ إلى ساعتي .. كانت تُشير إلى العاشرة .. قلتُ دون أن أنطق : _ هل يكفي ؟

          ولمحتُ في عينيه تساؤلاً وهو يصافحني مودعاً : 

          هاكِ يدي لِما تبقى من الطريق واكملي معي المشوار !

          كنتُ كمن تبحث عن شيءٍ أضاعتهُ في زمنٍ لا تتذكرهُ ..

          وفي صباح هذا اليوم _ الجميل جداً _ وجدتهُ ..

          واليوم .. حلمٌ يبحثُ عن مرفأ .. !

شبكة النبأ المعلوماتية-السبت  15/تموز /2006 -17  /جمادي الاخرى/1427